الحث على المحافظة على الصلاة | الشيخ د.صالح بن فوزان الفوزان
الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين، جعل الصلاة ثانية أركان الإسلام، وأمر بإقامتها والمحافظة عليها على الدوام، وأخبر أنها تنهى عن الفحشاء والآثام، أحمده على إحسانه الخاص والعام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وصفاته وأسمائه العِظام. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كانت الصلاة قرّة عينه، ونعيم قلبه، وكان يفزع إليها عند الأحداث العِظام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البَرَرة الكِرام، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيّها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وحافظوا على الصلوات، ولازموا حضور الجمع والجماعات، كما أمركم بذلك ربكم، وحثّكم عليه نبيكم، فإن الصلاة هي ثاني أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود الإسلام، وهي الفارقة بين المسلم والكافر، وهي شعار النبيين، وعلامة المتقين، والصلة بين العبد ورب العالمين، وهي محل عناية الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، قال إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي) [إبراهيم: 40]. وقال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ) [إبراهيم: 37]. وقال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ) [مريم: 54 – 55]. وقال عن زكريا -عليه السلام-: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) [آل عمران: 39]. وقال عيسى -عليه السلام-: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم: 30 – 31]. وقال الله لنبيّنا محمّد خاتم النبيين: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 98 – 99]. وقال له: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء: 78 – 79]. وقال له: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طـه: 132]. وقد فرض الله على هذه الأمة خمس صلوات في اليوم والليلة، في أوقات مناسبة لا تعطلهم عن مصالحهم، بل تعينهم عليها، ليكرروا الاتصال به سبحانه، والوقوف بين يديه، فيقبل عليهم بوجهه الكريم، ويسمع دعاءهم، ويستجيب نداءهم، ويغفر ذنوبهم، ويرفع درجاتهم. وقد شبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الصلوات الخمس بالنهر الجاري على باب المسلم، يغتسل منه في اليوم والليلة خمس مرات، فيستمر نظيفاً ليس عليه أوساخ، فكذلك الصلوات الخمس تطهّر العبد من الذنوب، وتستمر له هذه الطهارة ما دام محافظاً على الصلاة، وأولها: صلاة الفجر، يفتتح بها العبد يومه، وتكون حِرزاً له من الشيطان، وعوناً له في طلب الخيرات، ينطلق العبد بعد صلاة الفجر في أعماله الدنيوية، نشيطاً طيب النفس. وإذا ارتكب بعض الأخطاء في أثناء عمله في النهار، واكتسب شيئاً من الذنوب، جاءت صلاة الظهر، وصلاة العصر، فمحا الله بهما ما حصل منه، وكفّر بهما سيئاته. ثم تأتي صلاة المغرب، وهي وتر النهار يفتتح بها العبد ليلته، ويكفّر الله بها ما بينها وبين صلاة العصر من السيئات. ثم تأتي صلاة العشاء خاتمة لعمله اليومي، ويكفّر الله بها ما بينها وبين صلاة المغرب من السيئات. ثم ينام العبد بعد صلاة العشاء وقد غفر له، فينام على مغفرة الله له، قال الله -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114]. وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن الصلوات الخمس، مكفِّرات لما بينهنّ، إذا اجتنبت الكبائر". فالصلوات الخمس، إنما يكفّر الله بها ما وقع بينها من الذنوب الصغائر. أما الذنوب الكبائر، وهي ما رتب عليه حدّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة، كأكل الربا والكذب والغش في المعاملات، وشهادة الزور، فإنها لا تكفّر إلا بالتوبة منها. فلا غنى لك -أيّها المسلم- عن هذه الصلوات الخمس، ولا يستقيم لك دين إلا بها، بل لا تعتبر مسلماً إلا بإقامتها، قال تعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة: 11]. فالذي لا يقيم الصلاة ليس أخاً لنا في الدين؛ لأنه ليس من المسلمين. وقال عليه الصلاة والسلام: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة". ولا سعادة ولا نجاة إلا بالمحافظة على الصلاة. وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ) [المعارج: 34 – 35]. (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 9 – 11]. وإذا سئل أصحاب النار: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر: 42 – 43]. أي: إن الذي سبّب لنا دخول النار، وهو ترك الصلاة. إذاً، فالصلاة تتوقف عليها سعادة الدنيا والآخرة، قال عليه الصلاة والسلام: "والصلاة نور" فهي للمؤمنين في الدنيا نور في قلوبهم وبصائرهم، تشرق بها قلوبهم وتستنير بصائرهم، ولهذا كانت قرّة عين المتقين. وخرج الطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: "إذا حافظ العبد على صلاته، فأقام وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها، قالت له: حفظك الله كما حفظتني، وصعد بها إلى السماء ولها نور، تنتهي إلى الله عزّ وجلّ فتشفع لصاحبها". وهي في الآخرة نور للمؤمنين في ظلمات يوم القيامة على الصراط، فإن الأنوار تقسم لهم على حسب أعمالهم. وفي المسند وصحيح ابن حبّان عن عبد الله بن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه ذكر الصلاة، فقال: "مَن حافظ عليها، كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومَن لم يحافظ عليها لم تكن نوراً ولا برهاناً ولا نجاة". قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة". فاعرف نفسك -يا عبد الله-، واحذر أن تلقى الله -عزّ وجلّ- ولا قدر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك. عباد الله: واعلموا أن الذي فرض الصلاة، وجعلها عمود الإسلام، وثانية أركانه العظام، قد أوجب لها الجماعة، وأمر ببناء المساجد لإقامتها فيها، وشرع المناداة لحضورها، فلا يَسَعُ مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخرة أن يترك الصلاة مع الجماعة في المسجد من غير عذر شرعي. قال الإمام ابن المنذر -رحمه الله-: "دلّت الأخبار على وجوب فرض الجماعة على مَن لا عذر له، فمما دلّ عليه قوله لابن أُم مكتوم، وهو ضرير: "لا أجد لك رخصة". فإذا كان الأعمى لا رخصة له، فالبصير أولى أن لا تكون له رخصة. وفي اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأن يحرق على قوم تخلّفوا عن الصلاة، بيوتهم أبين البيان على وجوب فرض الجماعة، إذ غير جائز أن يهدّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تخلّف عن ندب وعما ليس بفرض. وقد أمر الله -جلّ ذكره- بصلاة الجماعة في حال الخوف، فوجوبها في حال الأمن آكد، قال تعالى: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ) [النساء: 102]. قال الإمام ابن القيّم -رحمه الله-: ووجه الاستدلال بالآية من وجوه، هي: أمره سبحانه لهم بالصلاة في الجماعة، يعني في قوله تعالى: (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ). ثم أعاد الأمر مرة ثانية في حق الطائفة الثانية، بقوله تعالى: (وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ). وفي هذا دليل على أن الجماعة فرض على الأعيان، إذ لم يسقطها سبحانه عن الطائفة الثانية بفعل الأولى. ولو كانت الجماعة سنّة لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف، ولو كانت فرض كفاية لسقطت بفعل الطائفة الأولى. ففي الآية دليل على وجوبها على الأعيان من ثلاثة أوجه: – أمره بها أولاً. – ثم أمره بها ثانياً. – وأنه لم يرخص لهم في تركها حال الخوف. فاتقوا الله يا مَن تسمعون النداء إلى الصلاة يخترق أجواء بيوتكم من كل جهة، وأنتم أصحّاء آمنون لا يمنعكم من الحضور إلى المساجد مانع، ثم تتأخرون عن الصلاة ولا تجيبون داعي الله، انظروا مَن عصيتم، واحذروا من عقوبته العاجلة والآجلة، قال تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم: 42 – 43]. قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: لما دُعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحّتهم وسلامتهم، عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة إذا تجلى الرب -عزّ وجلّ-، فيسجد له المؤمنون، ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقاً واحداً، كلما أراد أحدهم أن يسجد خرّ لقفاه عكس السجود، كما كانوا في الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون. وقال الإمام ابن القيّم: "قال غير واحد من السلف في قوله تعالى: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم: 43]. قال: هو قول المؤذن: "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح" فعاقبهم يوم القيامة بأن حالَ بينهم وبين السجود، لمّا دعاهم إلى السجود في الدنيا، فأبوا أن يجيبوا الداعي. وإجابة الداعي، هي إتيان المسجد لحضور الجماعة. فاتقوا الله -عباد الله- وتوبوا إلى الله، وحافظوا على الصلاة مع الجماعة في المساجد، لتكونوا من المؤمنين المهتدين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم … الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، هدانا للإسلام، وجعلنا به خير أمة أُخرجت للناس، وجعل هذا الإسلام مبنياً على أركان لا يستقيم إلا بها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيّن لعباده طريق النجاة ليسلكوه ويلزموه، وطريق الهلاك ليحذروه ويجتنبوه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أنزل عليه الذكر ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، ولعلّهم يتقون، فبلّغ البلاغ المبين، وبيّن غاية التبيين، وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا الهالكون، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله: اتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، واعلموا أن تارك الصلاة متعمداً ومصرّاً على تركها كافر بالله -عزّ وجلّ- من غير تفصيل عند جمع من المحققين من العلماء، ومفارق لجماعة المسلمين، كما دلّ على ذلك كتاب الله وسنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يعامل معاملة الكفّار، لا تؤكل ذبيحته، ولا يزوّج من بنات المسلمين، ولا يرث من قريبه المسلم. ويجب بغضه وهجره، والابتعاد عنه ما دام على قيد الحياة. وإذا مات من غير توبة، لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث. فتنبهوا لذلك، وخذوا على أيدي سفهائكم من أولادكم، وجيرانكم ومن حولكم ممّن يتهاونون في شأن الصلاة، ويقتدون بمَن ضيّعها وتركها ممّن لا قيمة للدين عنده، ولا ينفع فيه الوعظ والتذكير، ولا يخاف الله والوقوف بين يديه يوم القيامة، فقد كثر هؤلاء -لا كثَّرهم الله- في بلاد المسلمين، وجاوروكم في منازلكم، وخالطوكم في أعمالكم، وفي أسواقكم. فاحذروهم وابتعدوا عنهم، وأنكروا عليهم وضايقوهم وأبغضوهم في الله، واتخذوهم أعداء، ولا تؤاكلوهم، ولا تجالسوهم، ولا يدخلوا بيوتكم، عادوهم وقاطعوهم؛ لأنهم أعداء لله ولرسوله، والله -تعالى- يقول لكم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) [الممتحنة: 1]. ويقول سبحانه: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22]. وأما مَن يصلي في بيته، ويترك صلاة الجماعة، أو يؤخر الصلاة عن مواقيتها، فهذا متّصف بصفات المنافقين، وتارك لواجب عظيم من واجبات الدين، وقد توعده الله بالويل، وأنه سيلقى غيّاً، والويل والغيّ واديان في جهنّم، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4 – 5]. وقال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [مريم: 59 – 100]. وقد جاء تفسير السهو عن الصلاة وتضييعها، بأنهما إخراجها عن وقتها. كما جاء الوعيد الشديد في حق الذي يتخلّف عن الصلاة مع الجماعة في المسجد من غير عذر، وأن ذلك من صفات المنافقين. فاتقوا الله في أنفسكم وفي أولادكم ومن حولكم، وحافظوا على صلاة الجماعة في المساجد، وأَلْزِموا بها من تحت ولايتكم ومَن يسكن معكم في بيوتكم أو يجاوركم، ومُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، لتكونوا من خير أمة، قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110]. واعلموا أن خير الحديث كتاب الله … إلخ. الشيخ د. : صالح بن فوزان الفوزان
الخميس 4 ربيع الأول 1439
الجمعة: فضلها وآدابها الشيخ : عبدالله بن صالح القصير
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً. أما بعد: فيا أيها الناس: توبوا إلى الله تعالى قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذين بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له والصدقة، ابتغاء وجهه في السر والعلانية – ترزقوا وتنصروا وتجبروا، واغتنموا لحظات الزمن وفرص الحياة بالأعمال الصالحات قبل مضيها وانصرامها؛ فإن الليالي والأيام خزائن تستودع فيها الأعمال، ومطايا الأحياء إلى الآجال، وستمضي إلى ربها شاهدة لكم أو عليكم بما استودعتموها، حافظة لما ائتمنتموها، معاتبة لكم إن ضيعتموها ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) [الواقعة:10-11]. ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة قد ارتحلت مقبلة؛ فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل؛ فاستبقوا الخيرات، وأقبلوا على جليل الطاعات وعظيم القربات، وسابقوا إلى المغفرة والجنات، وتنافسوا في الفوز بأعلى الدرجات قبل الممات؛ فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ابن آدم فقد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ". وعنه صلى الله عليه وسلم قال: " ويتبع الميت ثلاث، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله ". فالعمل -أيها المسلمون- هو الصاحب في السفر إلى الآخرة، والجليس في القبر دار الغربة، والشافع يوم الهول والكربة؛ فاعملوا صالحاً تجدوه، وأحسنوه تحمدوه، واتقوا ربكم واحذروه، فإنكم كادحون إليه كدحاً فملاقوه، فلا تغرنكم المهلة، فما أسرع النقلة، فكأنكم بملائكة الموت وقد حضرت، وبصحف الملائكة وقد طويت، وبالروح وقد غرغرت؛ فيا لهول المفاجأة، ويا لعظم المصيبة؛ فكم من محسن يود الزيادة من الإحسان، وكم من مسيء يود لو أمهل؛ ليصلح عمله ويتوب إلى ربه من الفسوق والعصيان. أيها المسلمون: اشكروا نعم الله تصبحوا من المحبوبين لديه، واغتنموا فرص الحياة فيما يقربكم إليه، وتذكروا حالكم حين الوقوف بين يديه، واعلموا أن يوم الجمعة من نعم الله العظيمة ومنحه الكريمة التي اختص الله بها هذه الأمة المحمدية من بين الأمم، ومنحها مزاياه وفضائله؛ لما له سبحانه من جليل الحكم، فجعله تعالى عيداً لهذه الأمة المرحومة في كل أسبوع، يتنافس فيه العباد بأنواع العمل المشروع، ويفرحون بما ادّخر الله لهم فيه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؛ فكم فيه من نفيس القربات، وكم فيه من أسباب تكفير السيئات وزيادة الحسنات، وكم فيه من موجبات رفعة الدرجات وإجابة الدعوات ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) [الجمعة:4]. أيها المسلمون: صح في الحديث عن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا؛ فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد؛ وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة؛ نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق، وأول من يدخل الجنة ". ولقد نبه صلى الله عليه وسلم على شيء مما جرى في هذا اليوم العظيم من الحوادث المهمة وما اختصه الله به من الفضائل لهذه الأمة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها " وفي رواية أخرى: " لا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة ". وفيه أيضاً عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اغتسل يوم الجمعة واستاك ومس من طيب -إن كان عنده- ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فلم يتخط رقاب الناس حتى ركع ما شاء الله أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإمام، فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته؛ كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها " وفي رواية: " من اغتسل ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه -غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا ". وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: " فيه ساعةٌ لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه " وأشار بيده يقللها. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها عند الله تعالى، وأعظم عند الله عزّ وجلّ من يوم الفطر ويوم الأضحى ". أيها المسلمون: ولئن كان التبكير إلى المساجد يوم الجمعة سنة مهجورة من قبل الكثيرين من الناس هذه الأزمان – فلقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يحث عليها ويرغب فيها ويعدها من جليل الصدقات ونفيس القربات، وأسباب السبق إلى المنازل العالية في الجنات؛ ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح -يعني في الساعة الأولى- فكأنما قرّب بدنة -أي تصدق بها لله- ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون ". وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومثل المهجر -أي المبكر إلى الجمعة- كمثل الذي يهدي بدنة ثم كالذي يهدي بقرة ثم كبشاً ثم دجاجة ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم وجاءوا يستمعون الذكر ". أيها المسلمون: حق لمن قرأن هذين الحديثين أن ينكس الرأس؛ خجلاً من الله، وحياءً من الملائكة الكرام، وشفقة على عباد الله، وخوفاً عليهم؛ إذ يفرط الكثير منهم بهذا الخير الكثير، فكم من الفرق الكبير بين من يهدي البدنة لتبكيره والذي لا يهدي شيئاً؛ لأنه جاء بعدما طوت الملائكة صحفها. وكم من جمعة تطوي الملائكة فيها صحفها ولم تسجل فيه من السابقين إلا القليل، ومعظمهم ممن هو كمُهدي البيضة؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله، ما هذا الزهد في الأجر؟ وما هذه الغفلة من أعظم الذخر؟ ألم يبلغهم قوله صلى الله عليه وسلم: " من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ -كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها "؟ ألم يعلموا قوله صلى الله عليه وسلم: " لو يعلم ما في النداء والصف والأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا "؟. ألم يعلموا أن الناس في المنازل في الجنة على قدر تبكيرهم إلى الجمعة؛ فزيادة الفضل وعظيم الأجر ومزيد القرب من الله تعالى بحسب نصيبهم من الصفوف. أيها المسلمون: تنافسوا -رحمني الله وإياكم- في هذا الخير العظيم، الذي جعله الله في يوم الجمعة لمن استن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فنظفوا أبدانكم، والبسوا من أحسن ثيابكم، واستاكوا وتطيبوا من طيبكم، وبكروا إلى الجمعة بسكينة ووقار، وتنافسوا في الصف الأول، ثم الذي يليه دون أن تؤذوا أحداً من إخوانكم، وصلوا من النوافل ما كتب الله لكم، وأكثروا ذكر الله وتلاوة كلامه وأنواع ذكره، واسألوه سبحانه المزيد من فضله، والتزموا الأدب النبوي والنهج المحمدي -تكونوا من السابقين إلى الخيرات الفائزين بأعلى الدرجات ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) [الجمعة:4]. وإياكم والتخلف عن هذا الخير، والتهاون بتلك السنن، ففي الصحيح: " لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله ". أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآَخِرِينَ ) [الواقعة:10-14]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم. الشيخ : عبدالله بن صالح القصير
الثلاثاء 24 صفَر 1439
التحذير من إضاعة الصلاة | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الخطبة الأولى: الحمد لله الذي جعل الصلاة عمادا للدين، وقرة عين للمؤمنين، ونجاة للعاملين، انشرحت بها صدور أولياء الله، وضاقت بها صدور أعداء الله، فهي روضة من رياض العمل الصالح، متعة للنفوس، وطهرة للقلوب، فسبحان من فاوت بين عباده بمحبتها وإقامتها، فهذا محب لها قائم بها على الوجه المرضي لله، وذلك معرض عنها مضيع لها، خاسر دينه ودنياه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، و(حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ)[البقرة:238]. حافظوا على الصلوات، وأقيموها، وداوموا عليها، ولازموها، واعتنوا بحدودها وحقوقها، ولا تضيعوها. حافظوا على الصلاة، فإنها أكبر أركان دينكم بعد الشهادتين، فلقد "بني الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام". حافظوا على الصلاة، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وذلك لما يحصل للقلب بها من النور والبرهان الذي سيكون سببا للبعد عن الفحشاء والمنكر. حافظوا على الصلاة، فإنها صلة بين العبد وبين ربه، فإن المصلي قائم بين يدي الله يناجي ربه بكلامه، وذكره ودعائه، والخضوع له، والتعظيم قيام وقعود وركوع وسجود وقراءة وذكر وتسبيح ودعاء، فهي روضة عبادات منوعة من كل عبادة فيها زوجان. حافظوا على الصلاة، فإنها تكفير لسيئاتكم، وتطهير من ذنوبكم، قـال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"[مسلم (233) الترمذي (214) ابن ماجة (1086) أحمد (2/400)]. وقال صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا". "حافظوا على الصلوات، فإن من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة"[البخاري (505) مسلم (667) الترمذي (2868) النسائي (462) أحمد (2/379) الدارمي (1183)]. حافظوا على الصلوات -أيها المسلمون-، فإن الصلاة نور في القلب، ونور في الوجه، ونور في القبر، ونور يوم القيامة. عباد الله: لا تضيعوا الصلاة، فتكونوا ممن قال الله فيهم: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم: 59]. أضاعوا الصلاة، وأهملوها، فأما شهوات أبدانهم، فحافظوا عليها، واتبعوها. يضيعون الصلاة لحطام من الدنيا لا يبقى لهم، ولا يبقون له، والصلاة هي التي تبقى لهم، ويجدونها أمامهم، أو يضيعون الصلاة لراحة أبدانهم بالنوم، ولم يعلموا أن راحة أبدانهم التي يضيعون بها ما أوجب الله عليهم سوف تكون تعبا وعذابا عليهم يوم القيامة في يوم يود المجرم فيه لو يفتدي من عذابه ببنيه: (وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ)[المعارج: 12- 14]. لا تضيعوا الصلاة، فإن الصلاة هي العهد التي بين العبد وبين الكفر، فمن تركها فهو كافر. أي دين له إذا ترك الصلاة؟ أي عبادة وأي خضوع لله وقد ترك صلاة وقتها قصير وعملها يسير وفضلها كثير؟ إذا ترك هذا العمل مع سهولته، وقلة زمنه، وكثرة فضله، فأي عمل يرجى أن يقوم به بعد ذلك؟ فآخر ما يفقده الإنسان من دينه الصلاة. أيها المسلمون أيها المؤمنون بالله ورسوله: حافظوا على صلواتكم، ولا تضيعوها، فإنها عون لكم على أمور دينكم ودنياكم: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)[البقرة: 45]. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "من سره أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله -تعالى- شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر، فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف". أيها المسلمون: إن من المؤسف والخطأ أن يتمتع الإنسان بنعم الله قائما وقاعدا ونائما ويقظا، يتمتع بالأمن والرخاء ووفور المال والولد والأخلاء، ثم لا يقوم بشكر الله، ولا يخضع لأوامر الله ينام إلى الضحى لا يصلي الفجر، ويسمع النداء، فلا يقوم إلى المسجد. وإن هذا لو دعي إلى حطام من الدنيا لأجاب، ولو وعد بشيء زهيد لما نام عنه، ولا غاب. اللهم ارزقنا القيام بطاعتك على الوجه الذي يرضيك عنا، واغفر لنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
الجمعة 29 مُحرَّم 1439
أصلى الناس؟ عاصم محمد الخضيري
الخطبة الأولى: الحمد لله يضع ويرفع، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع.الحمدُ لَهْ؛ سَكَنَاتُ هذا الكونِ ساجِدَةٌ وخا *** ضـــعة له وبكـــل ذُلٍّ تركع ســبـحانــهُ! في ذرَّةٍ أو رمــلــةٍ *** ملكوتُه فيــها يهيـــم ويخضـع الحمدُ لَهْ عِلْمٌ أحاط بكل شيء كائنٍ *** لا يعزبنْ عن علم ربي موضعُ! أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)، وأشهد أن محمدًا بن عبدالله عبدُ الله ورسوله وخليله من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]. "أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله".. نعم هم ينتظرونك! ما جربوا من يؤم الناس غيرك! لا ولا بودهم أن صلت الناس. "أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله".. هذا أشد سؤال ساخ مسمعهم كأنهم من فجيعات الونا سكروا "أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله".. كأنه سؤال مودع، نعم هو سؤال مودع، كأني أحسّ السؤال سكاكين تجري على أضلعي وفي القلب مضغة حزن يلونها مدمعي.. "أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله".. ولكنك لا تنتظرهم بل ستتركهم فقد اتخذت قرارك الأكيد بأنه الرفيق الأعلى، بأنه الرفيق الأعلى. "أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله".. ولكنك لا تنتظرهم فلقد سجلت أجمل قرار خيرته فاخترته، ولكنه ليس القرار الجميل لأمتك أحسن الله عزائها بك. إنها أظلم فصول رواية رواها الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- إلى من بعدهم حتى الآن، لها مداد لا يكتب بحبر عادي، بل مخلوط بالعظام، ولا يُكتب كما تُكتب الأخابير، ولكنها نفس تذوب فتقطر. حكاية موت ليست تقليدية، بل رنة حزن أبدية، والأمة تنسى حزنًا، لكن وفاة رسول الله ليست منسية. "أصلى الناس؟"، "لا هم ينتظرونك يا رسول الله".. لن أتحدث عن موت رسول الله؛ لأنني أحس أن هذا الموت لا يعبر إلا عن نفسه، وأن تكون هناك صورة وأخيلة تعبرها الكلمات، فستموت الصورة بالكلمات، إن الحروف تموت حين تقال. إنها صورة الوداع الأخير، والحشرجات المتأنية التي تخرج من صدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول لأصحابه: "أصلى الناس؟"، فيجبونه ويقولون له: "هم ينتظرونك يا رسول الله"، ينتظروك وآه على الوداع، وأي حزن وحشرجة الرحيل من الحبيب أشد من الوداع، لحظات الانتظار. "إنهم ينتظرونك يا رسول الله"، وأي انتظار إنهم ينتظرون خليلهم وحبيبهم ورسول الله ينتظرهم ليصلي معهم. أفمثل هذه الحال يا رسول الله تسألهم عن الصلاة؟ مسكينة تلك الكلمات التي تحاول أن تصور مقامًا يموت فيه رسول الله عدة موتات، ثم يفيق وهو يسألهم عن الصلاة أيّ شيء يمكنه أن تفعله في هذا المقام؟ أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- يقول كما روى أحمد والدارمي: "والله ما رأيت يوم كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وأدعكم مع عبيد الله بن عبد الله بن عتبة -رحمه الله تعالى- وهو يدخل على عائشة ثم يقول لها، يا أُماها حدثيني عن مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت: نَعَمْ، مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَثَقُلَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَفَعَلْنَا، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَفَعَلْنَا، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَالَتْ: ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، قَالَتْ: قُلْتُ: قَدْ فَعَلْنَا، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ بَعْدُ؟" فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَتْ: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِيُصَلِّيَ بِهِمْ عِشَاءَ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ –أي ليقوم- فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ بَعْدُ؟" قُلْتُ: لَا يا رسول الله. وتموت موتات شديد بأسها *** وتقول أنت لهم "أصلى الناس؟"! ما للصلاة كأنها جمر *** بقلبك موقد أو مثلما النبراس فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَتْ: فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُك أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: يَا عُمَرُ، صَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ، إِنَّمَا أَرْسَلَ إِلَيْك رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَتْ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَجَدَ خِفَّةً مِنْ نَفْسِهِ، فَخَرَجَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ لَهُمَا: "أَجْلَسَانِي عَنْ يَمِينِهِ"، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ، قَالَتْ: فَأَجْلَسَاهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ جَالِسٌ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ". ومن كان متعزيا فليتعزَّ بمصيبة موت رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، خبر مروع أثار نفوس الصحابة -رضوان الله عليهم- وكأن قلوبهم مخلوعة، وعيونهم مقلوعة، ووجوههم سوداء، وحبيب أمتهم يُساق إلى النوى سوقًا إليه، ولات حين عزاء. قال أنس -رضي الله عنه-: "ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما رأيت يوم كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقد حكى أنس عن ذلك اليوم وتلك الفاجعة فقال: "كان أبو بكر يصلي بنا في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تُوُفِّي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة -حجرة السيدة عائشة -رضي الله عنها- ينظر إلينا، وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف، ثم ابتسم يضحك". وعلام يبتسم الحبيب *** وإنه ليراهم بصلاتهم أمناء!! قال: "فهممنا أن نُفتن من الفرح برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- كادوا يخرجون من الصلاة عندما رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من شدة الفرح، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا بيده النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر". ورجوت عيني أن تكف دموعها *** يوم الوداع، نشدتها: لا تدمعي هذا ولم يأتِ على النبي -عليه الصلاة والسلام- صلاة أخرى، بل بدأ بالاحتضار فأسندته عائشة -رضي الله عنها- إليها، وكانت تقول -رضي الله تعالى عنها-: "دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق –رضي الله عنهما– على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك يا رسول الله؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، فقلت أليّنه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فليّنته، فما أن فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السواك حتى رفع بصره نحو السماء وتحركت شفتاه فأصغت إليه عائشة -رضي الله عنها- وهو يقول بتمتمات يسيرة (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69]، اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، ومالت يده الشريفة ولحق بالرفيق الأعلى (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 34- 35]. الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرًا. أما بعد: فَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْعَرْشِ أَبْقَاكَ بَيْنَنَا *** سَعِدْنَا وَلَكِنَّ أَمْرَهُ كَانَ مَاضِيًا جزى الله عنا كل خير محمدًا *** فقد كان مهديًا وقد كان هاديًا وكان رسول الله روحًا ورحمة *** ونورًا وبرهانًا من الله باديًا وكان رسول الله بالخير آمرًا *** وكان عن الفحشاء والسوء ناهيًا وكان رسول الله بالقسط قائمًا *** وكان لما استرعاه مولاه راعيًا وكان رسول الله يدعو إلى الهدى *** فلبى رسول الله لبيه داعيًا وانتشر خبر وفاة رسول الله، فضجت المدينة كلها بالبكاء، وهكذا تُطوى أعظم صفحة في تاريخ البشرية جمعاء، مات خير الأنبياء، مات خير الأولياء. مات الذي موته حزنا ومولده نعما وهجرته فتح وتاريخ… مات ليكون هذا الموت إعلانًا لإكمال الدين، وإتمام النعمة، وكأن الله أرسل معنا يتلقفه من بعد رسول الله أن هذا الدين باقٍ، وكل دعاته على شموخ أزمانهم وقائدهم المحجل الغر الميمون محمد بن عبد الله راحلون إلى الله سائرون، ولقد أطلقها أبو بكر مدوية في أحياء المدينة "من كان يعبد محمدًا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإن الله حي لا يموت".. قدرنا في هذا المقام أن نعوج على ألمع الصور التي تركها في لحظات وداعه وهو يحشرج أنفاسه الخالدة، وكأن كل نفس من أنفاسه يبعث بوصية خالدة، كانت صور وداعه قذائف من الوصايا العظيمة هطالة بالمعنى الرفيع، تقذف بالنور، وبالهدى المبين ستبقى خالدة، وإن مات رسول الله، وإن انطفأت عين محمد بن عبد الله، فعين سنته خالدة، وإن مات رسول الله. إن انطفأت عين محمد بن عبد الله، فعين سُنته لا تنطفئ، فهي عزاء من كل عزاء، وكأننا حين نقول: أحسن الله عزاءنا برسول الله، إن الله قد أحسن عزاءنا به حين أبقى قنوات محيطه الكبير تنزف لنا عظمة وسنة وهديًا وسمتًا ووصايا وبقايا الرسالة والنبوة، أمات رسول الله؟! إن آخر لحظات الإنسان لتعبر عن صورته الصادقة، الصورة التي ليس فيها تجمُّل ولا فيها تصنع ولا تمثيل، أما رسول الله فحياته كلها ليس فيها ذاك، ولكن أيّ شيء مات عليه رسول الله؟! إن أعظم فجيعة في تاريخ البشرية جمعاء هي وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعظم صورة لامعة في تاريخ تلك الفجيعة هي صورة الصلاة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يحشرجها من فمه الشريف، تتهادى من جسد مثقل من أعباء الوصاية الأخيرة، نعم "الصلاةَ الصلاة وما ملكت أيمانكم". كان يعلم أن الصلاة هي الحبل الذي إن بقي بقيت جميع الحبال، وإن انصرمت فقد انصرمت، أكنتم ترون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلي وأنس -رضي الله عنه- يقول: "لما كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- سِتْر الحجرة ينظر إلينا، ونحن صفوف في الصلاة، فلما رأى ذلك المنظر المقشعر تبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكأن وجهه ورقة مصحف من الفرح والسرور، يبتسم رسول الله، وهو في تلك الحال التي يوعك فيها كما قال: "كما يوعك رجلان من أشد الرجال"؛ لأنه كان يرى في ذلك المنظر مشهدًا حقيقيًّا لأعظم انتصار حققه خلال مسيرة الدعوة كلها. نعم قالت له عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "وارأساه"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "بل أنا ورأساه يا عائشة"، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يعتد تلك اللغة الشاكية، لكنه قالها والحمى تفور من جسده وهو يغمى عليه إغماءات متكررة، لكنه لما رأى منظر أمته وهم صفوف في الصلاة تبسم -عليه الصلاة والسلام- يضحك كأن وجهه ورقة مصحف، كما يقول أنس -رضي الله عنه-. تتلاشى مظاهر الحزن فيه *** حين تصطف في الصلاة الصفوف أيّ إحساس جعله عليه الصلاة والسلام لا يحس بتلك الآلام؛ لأنه التقط صورة حية لأمته، وهي تجيب داعي الصلاة، ومن قال حي على الصلاة تجبه ثارات الثبات، ويا نظرة تستشف الوجود وتجلو على الناس عمر الخلود، تعلمنا أن درب الحياة بغير هدى الله درب كئود يحب الصلاة، ويشتاقها صلاة لرب غفور ودود. كانت صورة منتفضة حية في ضمير السنة النبوية، أي صلاة هذه حتى كانت سببًا في إغماءاته المتكررة يغمى عليه ثم يقول "أصلى الناس"؟ فيقولون له: "هم ينتظرونك" ويقول: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فيغمى عليه مرة ثانية، ثم يفيق ثم يقول: "أصلى الناس"، فيقولون له: "هم ينتظرونك"، فيذهب ليقوم فيغمى عليه، ثم يفيق، ثم يغمى عليه، وهكذا أكثر من ثلاث مرات وهو يتحفز للصلاة، أي صلاة تلك حتى كانت سببًا في إغمائه وسببًا في ارتفاع الإغماء عنه في آنٍ واحد، فهو يريد أن يصلي فيغمى عليه، ثم يقوم من هذا الإغماء، وكأن يد تحركه وتوقظه أن الصلاةَ الصلاة. صوت المآذن فيك يرفعنا *** إلى قمم تشيدها لنا الصلوات ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، إن تاريخ تلك الفجيعة العظيمة ليأذن بنا أن نرعاها حق رعايتها، لنقول لجميع الأجيال: كل شيء يمكن أن يهون على عظم مصيبته إلا ترك الصلاة، فـ"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر"، نعم كان مشهدًا حيًّا، وأما الكلام عن فضل الصلاة وعظمتها وأسرار جلالها، فله تبيان ومقامات أُخر "أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر" (رواه الترمذي وحسنه وأبو داود والنسائي). (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر: 42- 43]، (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4- 5]، (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59]. كانت الصلاة مجتمع همّ الأنبياء جميعهم، ليس نبينا محمدًا بن عبد الله فحسب، هذا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يقول: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ)، ويقول: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) [إبراهيم:40]. وقال تعالى عن موسى وهارون -عليهما السلام-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:87]. وقال عن عيسى -عليه السلام-: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم:31]، وقال عن زكريا -عليه السلام-: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) [مريم: 39]. وفي صحيح مسلم عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مررت عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ"، وقال عن سائر أنبيائه -صلى الله عليهم وسلم-: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم:58]، ثم قال (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) [مريم: 59- 60]. إن الكلام عن الصلاة ليست له مناسبة، فجميع أوقاتها مناسبات، والحديث عن الصلاة هو من نافلة الذكرى، وهو من فريضة الذكرى أيضًا. كل يوم أجيال تنبت وصغار تكبر، وهذا الانحسار اليومي الذي تشهده المساجد عامًا بعد عام، لينبئ عن كارثة إيمانية حقيقية فهو يحتاج إلى ثورة تعيد جلال الصلاة وشموخها في نفوس الشباب والكبار والصغار، وأما الحملات المثقلات بالكيد والفجور لإبعادهم عن القرب إلى المساجد، فهي بينة جلى تولى كِبَرها شياطين الإنس والجن وشياطين الأنفس الأمارة بالسوء. لقد عبر زمان -أيها الأولياء- مَن لم يحفظ عهد أبنائه بالصلاة، فلم يحق له أن يطلب منهم ما دون ذلك، عبر زمان -أيها الأولياء- طبعت فيه الشياطين من كل مكان ترك الصلاة حتى ترى الصغير أهون ما عليه التهاون بها، عبر زمان أدرك الولدَ الحلم ولا يؤمر بها، وعبر زمان الخلوف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. لا تقولوا ليس منا، هم منا ومن أصلابنا، وما ضيَّع الأولياء مثل الثقة العمياء، ما ضرَّ وليّ أن يحمل معه أولاده فينادي بهم، وما كان ضرّك أن تسقط الحملة الثقيلة فإنما هم نارك الحمراء أو هم جنتك. أسقط الحمل الثقيل وأمانة أبت أن تحملها السماوات والأرض لتحملها أنت أيها الولي، فاتق الله، واستعد رؤى لقمان لابنه وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان:17]، فهل من مجيب؟! كلما ردّدَ المؤذن لفظاً شعشع*** النور وانجلى كل غائنْ تمسح الأرض من غبار الملاهي *** ودخان الهوى ولهو المفاتنْ كل حرف من لفظه كل معنى *** من معانيه يستثير الكوامنْ رددته منابر وقباب تتعالى *** ورجّعتْها ملاسنْ واملأ النفس من شذاه عبيراً *** واملأ الروح من صداه ملاحنْ فالتمس من خزائن الله ما شئت *** نوالا فليس لله خازنْ رب إني ظلمت نفسي فغفرانك *** ربي.. إني مقرّ وذاعنْ رب واجعل قلوبنا معزف الخير *** فلا نكتفي بصوت المآذنْ اللهم احفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.. واحفظ لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. عاصم محمد الخضيري
السبت 17 ذو الحِجّة 1438
أحكام فقهية | عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قيام المسبوق قبل سلام الإمام صلاة المريض في ثيابه النجسة الحمد لله الملك الحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله مالك يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, سيد المرسلين وإمام المتقين، اللهم صل وسلم على محمد, وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس, اتقوا الله وانتبهوا, ونبِّهوا إخوانكم على ما يحتاجونه من مسائل الأحكام؛ فمن ذكَّر أخاه مسألة واحدة, كُتِبَ له الأجرُ عند الملك العلام. واعلموا أن الأصل طهارة الأشياء كلها؛ فمن أصابه ماء من ميزاب, أو رطوبة, أو وطئ روثاً, أو أرضاً لا يدري عنها – فجميع ذلك محكوم له بالطهارة، ومن صلى وهو محدث -ناسياً حدثه- أعاد الصلاة، ومن صلى وعلى ثوبه, أو بدنه نجاسة جهلها أو نسيها, ولم يدْرِ عنها حتى فرغ – فلا إعادة عليه. ومن عدم الماء, أو تضرر باستعماله تيمم بالتراب، ومن كان مريضاً وقد تلوث بدنه وثيابه بالنجاسة؛ فإن كان يقدر على خلعها وجب عليه ألا يصلي إلا على طهارة، ومن كان لا يقدر على ذلك فليصلّّ على حسب حاله, وصلاته تامة لا إعادة عليه. ومن أدرك من صلاة الجمعة ركعة أتمها جمعة, وإن أدرك أقل من ركعة نواها وصلاها ظهراً، ومن كانت عليه فوائت يقضيها فليبادر إلى قضائها مرتّباً. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن النفل في ثلاثة أوقات: من الفجر حتى ترتفع الشمس قيد رمح, ومن صلاة العصر إلى غروب الشمس, وعند زوال الشمس حتى تزول, إلا ما استثناه الشارع. ومن جاء منكم والإمام راكع فعليه أن يكبر تكبيرة الإحرام -وهو قائم- قبل أن يهوي إلى الركوع، فإن كبر وهو يهوي ففريضته غير صحيحة. ومن فاته شيء من الصلاة, فلا يحل له أن يقوم لقضاء ما فاته, حتى يفرغ الإمام من التسليم، فإن قام قبل أن يسلم التسليمة الثانية -ولم يعد- انقلبت صلاته نفلاً. ومن جاء منكم والإمام يخطب, فلا يجلس حتى يصلي ركعتين, وكذلك في غير الخطبة, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال:20]. عبد الرحمن بن ناصر السعدي
الأحد 11 ذو الحِجّة 1438
أحكام المسح على الخفين | الشيخ د.حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ
الخطبة الأولى: الحمد لله اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الكبير، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه البشيرُ النذيرُ والسِّراجُ المُنير، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِه صلاةً وسلامًا يحصُلُ بها الخيرُ الكثير، والأجرُ الكبير. فيا أيها المسلمون: أُوصِيكم ونفسي بتقوى الله – جل وعلا – وبطاعته؛ فبذلك يحصُلُ كلُّ مطلوب، وينجُو الإنسانُ من كل مرهُوب. أيها المسلمون: من رحمةِ الله – جل وعلا – بعبادِه: أن شرَعَ لهم من الأحكام ما يُيسِّرُ لهم أمورَهم، وتستقيمُ به أحوالُهم، وفقَ مبادِئ التيسير والتسهيلِ. فمن قواعِد شريعةِ الإسلام: "المشقَّةُ تجلِبُ التيسير"، ومن جوانِبِ التيسير في شريعةِ مُحمدٍ – صلى الله عليه وسلم -: مشروعيَّةُ المسح على الخُفَّين الثابِتِ بالكتابِ العظيم والأحاديث المُتواتِرة عن النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه. فيُسنُّ المسحُ عليهما ما دامَ الإنسانُ لابِسًا لهما، ولا يُشرعُ أن يخلَعَ لخُفَّين ليغسِلَ القدَمَين عند وُضوئِه. إخوة الإسلام: ويلتحِقُ بمشروعيَّة المسح على الخُفَّين المصنُوعَين من الجُلود: المسحُ على الجَورَبَين، وهما ما يُتَّخذُ من القُطن أو من الصُّوفِ ونحوِه مما هو في حياة الناس اليوم؛ فيُشرعُ المسحُ على الجَورَبَين بهذا الوصفِ في الوضوء، متى لبِسَهما الإنسانُ على طهارةٍ كامِلةٍ. بمعنى: أن يتوضَّأَ وضوءًا كامِلاً، أو يغتسِلَ غُسلاً مشروعًا كالغُسل من الجَنَابَة مثلاً، ثم يلبَسهما بعد ذلك. والأحوطُ أن يلبَسَ المُتوضِّئُ الخُفَّ أو الجَوربَ حتى يغسِلَ قدَمَيه كليهما، فحينئذٍ له أن يمسحَ بعد ذلك. والمسحُ إنما هو في الطهارة من الحدثِ الأصغر، أما الحدثُ الأكبر كمن عليه جنابَةٌ، فلا يجوزُ في ذلك المسحُ على الخُفَّين؛ بل لا بُدَّ من خلعِهما وغسلُ البدَن كامِلاً. إخوة الإسلام: ومُدَّة المسحِ على الخُفَّين للمُقيم يومٌ وليلةٌ، وللمُسافِر ثلاثةُ أيامٍ بليالِيها، وتبدأُ مُدَّةُ المسح من أول مسحٍ بعد الحدث الذي يُصيبُ الإنسان،مما يُسمَّى عند أهل العلم بـ "نواقض الوضوء". فمثلاً: إذا توضَّأ لصلاة الظهر، ثم لبِسَهما، ثم أحدثَ، ثم مسحَ عند صلاةِ العصر، فحينئذٍ تبدأُ مُدَّة المسحِ من مسحِه عند صلاةِ العصر. ومن مسحَ وهو مُسافِرٌ ثم أقامَ في البلد أتمَّ مسحَ مُقيم – أي: يومٌ وليلةٌ – ما دامَت هذه المُدَّة قائِمة، ومن مسَحَ وهو مُقيمٌ في البلَد ثم سافَرَ في أثناءِ هذه المُدَّة، فيمسحُ مُدَّة مسحِ المُسافِر – أي ثلاثة أيامٍ بليالِيها – على الراجِح من قولَي أهل العلم. والمسح على الخُفَّين مُتعلِّقٌ بغسل الرِّجلَين في الوضوء؛ بمعنى: لا بُدَّ أن يتوضَّأ وضوءًا شرعيًّا بالماء، أما إذا تيمَّمَ الإنسانُ في حالِ مشروعيَّة التيمُّم، ثم لبِسَ خُفَّيه، فلا يجوزُ له أن يمسحَ إذا وجدَ الماء، بحُجَّة أنه لبِسَ الخُفَّين على طهارةٍ شرعيَّة؛ إذ الطهارةُ في المسح على الخُفَّين تتعلَّقُ بغسلِ القدَمَين بالماء مع سائرِ الأعضاء. فمثلاً: من لم يجِد الماءَ أو كان مريضًا لا يستطيعُ استعمالَ الماء في الوضوء؛ فإنه لا مانِع من أن يلبَسَ خُفَّيه ولو على غير طهارةٍ ويُصلِّي بهذا التيمُّم، ولكن إذا وجدَ الماءَ أو شُفِيَ المريضُ فلا بُدَّ من وضوءٍ تامٍّ بما فيه غسلُ القدَمَين. ومتى شكَّ الإنسانُ في ابتِداءِ مُدَّة المسحِ؛ فإنه يبنِي على اليَقين، وهو عدمُ المسح. فمثلاً: إنسانٌ شكَّ هل بدأَ من صلاةِ الظهر أو من صلاةِ العصر، فالأصلُ أن يبنِي على اليقين، وهو عدمُ المسحِ، فحينئذٍ يحسِبُ المُدَّة من صلاة العصر. والواجبُ – أيها المسلمون – أن يمسحَ من كان عليه خُفَّين أن يمسحَ أعلى الخُفِّ إذا أراد أن يمسحَ، بأن يبدأَ المسحَ من أصابِعِه – أصابِع قدَمَيه – إلى ساقِه، فيمسحُ اليُمنَى، ثم اليُسرى، وإن مسَحَهما جميعًا – أي: يمسحُ رِجلَه اليُمنَى بيدِه اليُمنَى، ورِجلَه اليُسرَى بيدِه اليُسرَى – دُفعةً واحدةً فلا بأسَ. وهذا هو ظاهرُ حديثِ النبي – صلى الله عليه وسلم -: "ثم ليمسَح عليهما"، ولا يُسنُّ مسحُ أسفل الخُفِّ ولا عقِبِه، قال عليٌّ – رضي الله عنه -: "لو كان الدينُ بالرأي لكان أسفلُ الخُفِّ أولَى بالمسحِ من أعلاه، وقد رأيتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يمسحُ على ظاهرِ خُفَّيه" (رواه أبو داود، وقال ابن حجر: "إسنادُه صحيح"). وإذا لبِسَ الإنسانُ الجوارِب، ثم لبِسَ عليهما جوارِبَ أخرى، ومسحَ على العُليا، فلا بأسَ، على الصحيح من قولَي أهل العلم، ما دامَت مُدَّة المسح قائِمةً، وتُحسبُ المُدَّةُ من مسحِه على الجَورَب الأول. وإذا انتهَت مُدَّة المسح والإنسانُ على طهارة، فلا تنتقِضُ طهارتُه بذلك، على القول الراجِح. واختارَه ابن تيمية – رحمه الله – وغيرُه من أهل التحقيق؛ لأن الشرعَ وقَّتَ المسحَ، فإذا تمَّت مُدَّتُه والإنسانُ على طهارةٍ فطهارتُه باقيةٌ، ولكن لا يجوزُ له المسحُ عليهما حتى يأتيَ بوضوءٍ كاملٍ، وتبدأُ مُدَّة مسحٍ جديد. ومثالُ هذه المسألة – وهي انتِهاءُ مُدَّة المسح على الخُفَّين -: أن تبتدِئَ مُدَّة المسح من صلاة العصر، فيكونُ الإنسانُ على طهارتِه حتى يأتي العصرُ الجديد من اليوم الثاني، والإنسانُ على طهارتِه بعد أن مسحَ اليوم والليلة باقية ولم ينتقض وضوؤُه. فحينئذٍ نقول: إنه يجوزُ له أن يُصلِّي بتلك الطهارة، ولا دليلَ على نُقضانها وبُطلانها. جعلَني الله وإياكم من أهل الفقهِ في دينِه، وبصَّرَنا بشريعةِ ربِّنا وسُنَّة نبيِّنا محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -. بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعَنا بما فيه من الهدي والبيان، أقول هذا القول، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمدُ لله أولاً وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه فتحَ الله به أعيُنًا عُميًا، وقلوبًا غُلفًا، وآذانًا صُمًّا، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِه أهل البرِّ والتقوى. فيا أيها المسلمون: من المعلوم عند علماء الإسلام: أن الأصلَ الذي تقومُ عليه صحَّةُ التعبُّد: مُتابعةُ السُّنَّة النبويَّة، وقيامُ الدليل الشرعيِّ. وإن ما يفعلُه بعضٌ من المُسلمين من الاحتِفال بمولِد النبي – صلى الله عليه وسلم – في اليوم الثاني عشر من شهر ربيعٍ الأول هو أمرٌ مُحدَث، لم يفعَله – صلى الله عليه وسلم – ولا خُلفاؤُه الراشِدون ولا أهلُ القرون المُفضَّلة، مع عظيم محبَّتهم لنبيِّنا محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -. والخيرُ كلُّ الخير إنما هو في الاتِّباع، والشرُّ كلُّ الشرِّ إنما هو في الابتِداع، قال – صلى الله عليه وسلم -: "من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ" وقال – عليه الصلاة والسلام -: "من أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ". ومحبَّةُ النبي – صلى الله عليه وسلم – أصلٌ عظيمٌ في الإيمان بالله – جل وعلا -، ولا يستقيمُ إيمانٌ بدون محبَّته – صلى الله عليه وسلم -، ولكن من لوازِمِ وأركان محبَّته: الاقتِداءُ بهديِه، واتِّباعُ شرعِه، وعدمُ الإحداثِ في دينِه ولو كان ذلك في ظنِّ الإنسان حسنًا؛ فإن الحسنَ إنما يكونُ حسنًا بشرعِ الله – جل وعلا -. ثم إن الله أمرَنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهو: الصلاةُ والسلامُ على النبيِّ الكريم. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا وحبيبِنا وقُرَّة عيونِنا وقلوبِنا نبِيِّنا محمدٍ، اللهم ارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائِر الصحابةِ أجمعين، وعن آل بيتِ النبي – صلى الله عليه وسلم – أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم واكتُب العزَّة والنُّصرة للمُسلمين في كل مكان، اللهم أيِّد المُسلمين في كل مكان، اللهم اجعل كلمتَهم هي العُليا وكلمةَ أعدائِهم هي السُّفلَى. اللهم وحِّد بين صُفوفِ المسلمين، اللهم فرِّج هُمومَهم، اللهم نفِّس كُرُباتهم، اللهم يسِّر لهم أمورَهم، اللهم أغنِ فقيرَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، اللهم اجعل لهم من كل عُسرٍ يُسرًا، ومن كل خوفٍ أمنًا. اللهم اجعل لهم من كل خوفٍ أمنًا، اللهم اجعل لهم من كل خوفٍ أمنًا يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم اغفِر لنا وللمُسلمين، اللهم اغفِر لنا وللمُسلمين جميعًا، اللهم اغفِر لنا وللمُسلمين جميعًا الأحياء منهم والأموات، يا حي يا قيوم. اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضَى، اللهم وفِّقه ونائِبَيْه، اللهم ألبِسهم لِباسَ الصحةِ والعافية. اللهم اشفِ كل مريضٍ يا حي يا قيوم، اللهم اشفِ كل مريضٍ يا حي يا قيوم، اللهم اكتُب الشفاءَ والعافية لكل مريضٍ يا رب العالمين. اللهم اجعَلنا من السُّعداء، اللهم اجعَلنا من السُّعداء في الدنيا والآخرة، اللهم اجعَلنا من السُّعداء في الدنيا والآخرة، اللهم اجعَلنا من أهل البرِّ والتقوى، اللهم اجعَلنا من أهل الإيمان والطاعة يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أنت الغني، اللهم أنت الغني يا مَن بيدَيك خزائنُ الدنيا والآخرة، اللهم أنزِل علينا الغيثَ، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا وأغِث ديارَ المسلمين، اللهم اسقِنا واسقِ ديارَ المسلمين، اللهم اسقِنا واسقِ ديارَ المسلمين. اللهم إن بنا من الضرر ما لا نشكُوه إلا إليك، اللهم فأنزِل علينا الغيثَ، اللهم ارحَمنا برحمتِك، اللهم ارحَمنا برحمتِك، اللهم ارحَمنا ببهائِمِنا، اللهم ارحَمنا ببهائِمِنا، اللهم ارحَمنا ببهائِمِنا، فاسقِنا يا ذا الجلال والإكرام، يا غني يا حميد، يا غني يا حميد، يا غني يا حميد. اللهم إنا لما أنزلتَ إلينا من خيرٍ فُقراء، لا غِنى لنا عن رحمتِك، لا غِنى لنا عن رحمتِك، اللهم أنزِل لنا من رحمتِك ما يُغنِينا عن خلقِك، اللهم أنزِل لنا من الغيثِ ما يُغنِي المُسلمين عن الخلق يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. عباد الله: اذكروا الله ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً. الشيخ د. : حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ
الأحد 4 ذو الحِجّة 1438
أحكامُ الجمع في المطر والوحْل والتذكيرُ بأهمِّيَّةِ شكر الله على نعمة المطر أحمد بن ناصر الطيار
الحمد لله الذي يُكوِّر النهارَ على الليل, ويُكوِّرُ الليلَ على النهار, يَمُنُّ على مَن شاء من عباده بالأمن والنعيمِ والأمطار, ويبتلي من شاء بالخوف والقحط والأخطار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيمُ الكريمُ الغفَّار, يمحو برحمته الذنوبَ والأوزار, ولا يَهْلِكُ على الله إلا الظلومُ الكَفَّار. وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسوله النبيُّ الْمُختار, صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وأصحابه الطاهرين الأخيار, والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم العرضِ على الواحدِ القهار. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنَّه يجب على المسلم, أداءُ الصلوات الخمس في أوقاتها التي حددها الله لها، وبيَّنها رسوله -صلى الله عليه وسلم- بقوله وبفعله، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء:103]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "صل الصلاة لوقتها" رواه مسلم. فلا يجوز فعل الصلاة في غير وقتها، لا قبله ولا بعده, إلا لمن يجوز له الجمع بين الصلاتين, لعذر شرعي يبيح له الجمع؛ كالسفر الذي تُقصر فيه الصلاة، والمرضِ الذي يحصل فيه على المريض بترك الجمع مشقة، وفي حالة المطر والوحل. وبناءً على ذلك, فالذين يُسارعون إلى الجمع لمجرد وجود غيمٍ أو مطرٍ خفيفٍ لا يَحْصُلُ منه مشقة، أو لحصولِ مطرٍ سابقٍ لم يَنْتُجْ عنه وحْلٌ ونحوُه في الطرق، فإنهم قد أخطؤوا خطأً كبيرًا ، ولا تصح منهم الصلاة التي جمعوها إلى ما قبلها؛ لأنهم جمعوا مِنْ غير عذر، وصلوا الصلاة قبل دخول وقتها. والعبرةُ في الجمع هو الحرج, كما قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-, عندما سُئل عن سبب جمع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لئلا يُحْرجَ أمَّته" رواه مسلم. فإذا كان في ترك الجمع حرج، فليجمع الإمام ولا حرج عليه، وإذا كان على بعض المأمومين حرج, وعلى بعضهم يُسْرٌ؛ فليقتد بأضعفهم؛ لأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ, فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ" رواه مسلم. وقالَ -صلى الله عليه وسلم- لعثمانَ بنِ أبي العاص, لَمَّا استعمله على الطائف، وأمره بتخفيف الصلاة بالناس: "اقتد بأضعفهم" رواه أحمد، أي: راع حال الضعفاء مِمَّنْ يصلون وراءك، فصلِّ صلاةً لا تشق عليهم. وإذا ترددَّ الإمامُ بين الجمع وعدمه, لعدم وضوحِ السبب المسوغ؛ فإن الأصل ألا يجمع؛ لأن الجمع يحتاج إلى ثبوت السبب، فإذا لم يثبت, فإنَّ الأصلَ عدمُ الجمع فلا يجمع. ولكنْ إذا لم يجمع, ثم انصرف الناس من الصلاة إلى بيوتهم, ثم حدث مطرٌ أو وحْلٌ يؤذي, ثم أذَّن الْمْؤذن للصَّلاة الأخرى؛ فللناس أن يصلوا في بيوتهم, ويُكتب لهم الأجر كاملاً؛ لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ, كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا" رواه البخاري. والسنةُ في هذه الحالة أنْ يقول الْمؤذن: صلوا في رحالكم, ولا ينبغي له التردّد في قولها إذا وُجد المطر والحرج, ولو لم يقلها الْمؤذن: فيجوز الصلاة في البيوت عند المطر والوحْل. وينبغي التَّنَبُّه, إلى أنَّ مَنْ كان معذوراً في ترك الجماعة, لمرضٍ أو مطرٍ ونحوِهِما, أو لا تجب عليه الجماعةُ في الأصل, كالمرأة, فإنه لا يجوز لهم الجمع في بيوتهم. وإذا أراد الإمام أن يجمع, ولم يكن هناك سببٌ قويٌّ للجمع, فالواجب على المأمومين أنْ ينصحوا الإمام قبل أن يشرع في الجمع؛ لأن الجمع بدون عذرٍ شرعي كبيرةٌ من كبائر الذنوب, والصلاة الثانية لا تصح؛ لأنها صُلِّيَتْ قبل وقتها, فإن أصرَّ على أن يجمع, فلا تنصرفْ أمام الناس, بل ينبغي له أنْ يُصلِّيَها معهم وينويَها نافلة, فإذا جاء وقت العشاء أو العصر فلْيُصَلِّها؛ وذلك لأن خروجه في هذه الحال يؤدي إلى الشقاق والنزاع, والكراهيةِ منه أو عليه. قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "إذا جمع الإمام بدون سبب، فإن كان المأموم يرجو أن يجد جماعة في وقت العشاء, فليُصَلِّ معهم وينوها نافلة؛ لئلا يشق عصا الناس، وإن كان لا يرجو جماعةً فليصلها فرضاً وتجزؤه؛ لأن الجمع من أجل إدراك الجماعة جائز". اهـ. ومَن جاء وقد فرغ الإمام من الجمع بين الصلاتين, فإن حضرتْ جماعةٌ, فلا بأس بالجمع, وإنْ انتظر ولم يأت أحدٌ فلا يَجْمعُ لوحده؛ لأن الجمع لم يُشرع إلا لإدْراك الجماعة, وإلا لقيل للناس: اذهبوا إلى بيوتكم, وإذا دخل وقتُ العشاء أو العصر فصلوها في بيوتكم فُرادى. واعلموا – عباد الله- أنَ من صلى خلف إمامٍ لم يجمع بين الصلاتين, فلا ينبغي أن يذهب إلى مسجدٍ آخر ليجمع العشاء؛ لأنه فَصَلَ بين الصلاتين المجموعتين بفاصلٍ كثير, بل ذهب بعض العلماء إلى بطلان صلاته. سُئل الإمام ابنُ بازٍ -رحمه الله-: في ليلةٍ مطيرةٍ صلينا المغرب فقط, ولم نجمع, وسمعت المسجد الآخر يصلي, فذهبت إليه وصليت معهم العشاء, فما حكم فعلي هذا؟. فأجاب بقوله: "عليك أن تُعيد صلاة العشاء, التي صليتها في مسجدٍ غيرِ المسجد الذي صليت المغرب فيه, وذلك لعدم تحقُّقِ الجمع, لِمَا حصل بين الصلاتين من الفاصل الطويل". اهـ. وقال ابن عثيمين -رحمه الله- فيمن فعل مثل ذلك:" أرى أن هذا يشبه من سافر في رمضانَ مِن أجل أنْ يُفطر, والعلماءُ قالوا: إذا سافر في رمضان مِن أجل أنْ يُفطر حرم عليه السفر والفطر؛ لأن هذا الرجل لم يذهب من أجل الرخصة, لكنْ يريد أن يتخلص من الصلاة, فكأنه يقول: أرحنا من الصلاة, ولا يقول: أرحنا بالصلاة. أرى مثل هذا إن لم تكن صلاته باطلة, فهي إلى البطلان أقرب منها إلى الصحة". اهـ. ومن جمع صلاة العشاء مع المغرب جمع تقديم, من أجل عذرٍ شرعي، جاز الوتر بعدها، وتأخيرُه إلى آخر الليل أفضل إنْ أمكن. وإذا جمع في الحضرِ بين الظهر والعصر, جمع تقديمٍ أو جمع تأخيرٍ، فإنه يصلي راتبة الظهر بعد العصر؛ لأن لها سبباً، وفعلُ ذوات الأسباب في وقت النهي لا بأس به. وبالنسبة للأذكار: فلو سبَّح ثلاثاً وثلاثين للأولى, ثم سبَّح مثلها للثانية, وهكذا في الحمدِ والتكبير, ثم يختم ذلك بالتشهد مرتين فلا بأس, ولو بدأ بأذكار الثانية, ثم قضى أذكارَ الأولى فلا بأس أيضاً. مع أنه لو اكْتفى فيها بذكر واحدٍ لَأجزأه. اللهم علِّمنا ما ينفعُنا, وانفعنا بما علَّمتنا, وارزقنا السداد في القول والعمل, وجنِّبنا الخطأ والزلل, برحمتك يا أرحم الراحمين. الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله: إنَّ هذا الغيثَ والمطرَ الذي أنعم الله به علينا, واسْتمتع به الكثير منَّا, وانْشرحتْ لقدومه الصدور, وانْزاحتْ برؤيته الهمومُ والغموم، هو نفسُه الذي أغرق الله به بعضَ الدُّول والأمم, وشرَّد به أقواماً وأهلك آخرين. أمضينا ليلةً واحدةً ماطِرة, فما إنْ طلع الفجر, حتى رأينا وجهَ الأرض ومعالِمَها قد تغيَّرت, فإذا بالوديان والشِّعاب تجري, والسدود مُمْتلئة, والبحيرات والْمُستنقعات في كلِّ مكان, أليس ذلك من آيات الله وآلائِه التي تدلُّ على عظمته ولُطْف تدبيره؟!. كم ليلةٍ أصبح العباد منها وكأنما قاموا من قبورهم مِن هول ما أصابهم في ليلتهم! ففي إحدى البلدان, ضربهم زلزالٌ وهُم نيام, فأصبحوا لا يعرفون معالم بلدهم, الشوارع قد تصدَّعت, والبيوت قد انْهَدَمَتْ, ولا يسمعون إلا النحيبَ والصياح, ولا يدرون إلى أين يذهبون, ولا إلى أيِّ مكانٍ يأوون!. وبعضهم اجتاحتهمُ السيولُ والأمطار, وأغرقتهمُ الشواطئ والبحار, حتى داهمهم على بُعد مئات الأمتار, وما ربك بظلاَّمٍ للعبيد: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82]. ولذلك كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، إِذَا رَأَى مَخِيلَةً فِي السَّمَاءِ- أي سحابةً يُخال ويُظَنُّ فيها المطر-، أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَدَخَلَ وَخَرَجَ، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ، أي: ذهب عنه الخوفُ والوجل. قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فقلت يَا رَسُولَ اللهِ, أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ؟ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤَمِّنُنِي –أَيْ: مَا يَجْعَلُنِي آمِنًا- أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)" متفق عليه. فاحمدوا الله أنْ أغاثَنا الله بالأمطار والخيرات, وجمَّل أرضنا بالشعاب والبحيرات, وجعل هذه الأمطار رحمةً وبركةً علينا, وسلَّمنا من الأضرار الناجمةِ عنها. ولْنقابل هذه النعمةَ بالشكر والثناء, (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً) [النساء:147]. فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيمِ سلطانك. أحمد بن ناصر الطيار
الأربعاء 30 ذو القِعدة 1438
أحكام الجمع بين الصلاتين في المطر والصلاة في الرحال | عبد الله الواكد
الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسانَ وصورَهُ: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ) [عبس: 20 – 22]، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ. أما بعدُ: أيُّها المسلمونَ: فأوصيكم بتقوى اللهِ القائلِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. عبادَ اللهِ: لقدْ شرعَ اللهُ هذا الدينَ العظيمَ، وكتبَ على المسلمينَ فريضةَ الصلاةِ خمسَ مراتٍ في اليومِ والليلةِ، فهي الركنُ الثاني منْ أركانِ الإسلامِ، فرضَهاَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- وعلَّمَهَا نبيَّهُ منْ فوقِ سبعِ سماواتٍ، وأمرَ سبحانَهُ وتعالى أنْ تُؤدَّى في أوقاتِها جماعةً في المساجدِ، قالَ تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النساء: 103]. وقدْ ثبتَ عنِ النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أنهُ يقصرُ الرباعيةَ في السفرِ، ويجمعُ بينَ الظُّهرينِ والعشائينِ في السفرِ. وأمَّا في الحَضَرِ وحالَ الإقامةِ فيحرمُ الجمعُ بينَ الصلاتينِ إلا لسببٍ شرعيِّ، فقدْ وردَ عن أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنهُ قالَ: "الجمعُ بينَ الصلاتينِ من غيرِ عُذرٍ منَ الكبائرِ". فلا ينبغي التساهلُ في ذلكَ، ويحرمُ الجمعُ منْ غيرِ حاجةٍ ولا عُذرٍ. ومِنْ لُطفِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- بعبادِهِ: أنْ جاءتْ الشريعةُ الإسلاميةُ بالتيسيرِ على المسلمينَ حالَ المشقةِ، ونحنُ في هذهِ الأيامِ الباردةِ وفي فصلِ الشتاءِ قد يتعرضُ المسلمونَ لشيءٍ منَ العنتِ والمشقةِ كوجودِ المطرِ الغزيرِ والثلوجِ والبردِ الشديدِ والرياحِ الباردةِ الشديدةِ التي يترتبُ عليها الأذى للناسِ في تجمُّعِهِم للصلواتِ في المساجدِ، أحببتُ بيانَ بعضِ الأحكامِ الشرعيةِ التي قدْ يجهلُها بعضُ المسلمينَ وخصوصاً أئمةَ المساجدِ والمؤذنينَ، فأحببتُ في هذهِ الجُمُعةِ بيانَها، والوقوفَ عندَهاَ، والإستنادَ إلى قولِ علمائِنا وفتاواهُم، واستخلاصَ القولِ الراجحِ من ذلكَ. ومِنْ هذهِ الأحكامِ: أحكامُ الجمعِ بينَ الصلاتينِ في المطرِ، وهذهِ المسألةُ اختلفَ فيهاَ أهلُ العلمِ منْ جميعِ المذاهبِ الفقهيةِ، فهيَ سنةٌ ثابتةٌ عنِ النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- فقدْ روى البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحيْهِما بلفظينِ مختلفينِ ورواهُ أهلُ السُّننِ بألفاظٍ متقاربةٍ من حديثِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهُما- أنهُ قالَ: "صلى رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- الظهرَ والعصرَ جميعاً، والمغربَ والعشاءَ جميعاً، في غيرِ خوفٍ ولا سفرٍ". ووردَ: "في غيرِ خوفٍ ولا مطرٍ". قالَ الإمامُ مالكٌ -رحمَهُ اللهُ-: "أرى ذلكَ كانَ في المطرِ" ووافقَهُ على كلامِهِ جماعةٌ من أهلِ المدينةِ وغيرُهُم, ومنهُمُ الإمامُ الشافعيُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-، وفي صحيحِ مسلمٍ قالَ ابنُ الزبيرِ: "فسألتُ سعيداً لِمَ فعلَ ذلكَ؟ فقالَ: سألتُ ابنَ عباسٍكما سألتَني، فقالَ: أراد أنْ لا يُحرِجَ أحداً من أمتِهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ". وقد استدلَّ جمهورُ العلماءِ مِنْ أَتباعِ مالكٍ, والشافعيِّ, وأحمدَ, وكذلكَ المحدثينَ برواياتِ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ على جوازِ الجمعِ بينَ الصلاتينِ في الحَضَرِ؛ بسببِ المطرِ والبردِ، فإذا نزلَ المطرُ الذي فيهِ مشقةٌ فإنهُ تُجمَعُ لأجلِهِ صلاةُ المغربِ والعشاءِ باتفاقِ العلماءِ، قالَ العلامةُ محمدُ بنُ ابراهيمَ -رحمَهُ اللهُ-: "أماَّ مُطلقُ المطرِ فلا، وكذلكَ إذا لم تكنْ معهُ مشقةٌ فلا"، وقالَ رحمهُ اللهُ: "أماَّ جَمْعُ العصرِ معَ الظُّهرِ فالذي عليهِ أئمةُ الدعوةِ -رحمَهُمُ اللهُ- وعليهِ العملُ عدمُ الجَمعِ حيثُ أنَّ المشقةَ في النهارِ أسهلُ منَ المشقةِ في الليلِ". وقالَ رحمَهُ اللهُ: "الذي عليهِ أهلُ هذا البلدِ منذُ عشراتِ السنينِ هو عدمُ الجَمعِ بينَ الظُّهرِ والعصرِ" انتهى كلامُهُ رحمَهُ اللهُ. وقد ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى أنَّهُ لا يُجمَعُ بينَ الظُّهرِ والعصرِ، وقالوا: الجمعُ خاصٌ في الليلِ. وأفتى أعضاءُ اللجنةِ الدائمةِ للإفتاءِ وعلى رأسهِمْ ابن باز -رحمَهُ اللهُ- بجوازِ الجمعِ بينَ المغربِ والعشاءِ من أجلِ المطرِ الذي يبُلُّ الثيابَ ويحصلُ معهُ مشقةٌ من تكرارِ الذهابِ إلى المسجدِ لصلاةِ العشاءِ. أيها المسلمون: مذهبُ أصحابِ الشافعيِّ وأحمدَ واختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ -رحمَهُمُ اللهُ تعالى- أنهُ لا تفريقَ بينَ هذاَ وهذاَ ما دامَ قدْ ثبتَ الدليلُ عنِ النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أنهُ قدْ جَمَعَ بينَ الظهرِ والعصرِ وكذا بينَ المغربِ والعشاءِ، فلا تفريقَ بينهُما. أيها الإخوةُ في اللهِ: لنعلمَ جميعاً أنهُ لا يكونُ الجمعُ بينَ العشائينِ إلا بوجودِ عذرٍ شرعيٍّ كالمطرِ والبردِ والريحِ، ونحوِ ذلكَ، ويتأكدُ ذلكَ في الظُّهرينِ فيحرمُ الجمعُ بينَ الظهرِ والعصرِ إلا بوجودِ مشقةٍ عظيمةٍ وعذرٍ شرعيٍّ كمطرٍ شديدٍ جداً أو بردٍ ورياحٍ شديدةٍ، خروجاً من خلافِ العلماءِ، في مسألةِ جمعِ الظهرِ والعصرِ. أيها المسلمون: ولا يُجمَعُ بينَ صلاةِ الفجرِ وبينَ أيِّ صلاةٍ أخرى، ولا بينَ صلاةِ العصرِ والمغربِ ولا يُجمعُ بينَ صلاةِ الجمعةِ والعصرِ. وأما كميةُ المطرِ الذي يُجمعُ لأجلهِ، فقدْ قالَ أهلُ العلمِ: أنهُ المطرُ الغزيرُ الذي يَحملُ أوساطَ الناسِ على تغطيةِ رؤوسِهم. وكذلك قالوا: المطرُ الذي يبلُّ الثيابَ. وكذلك قالوا: المطرُ المؤذي، فلا يجوزُ الجمعُ للرشِّ الخفيفِ جداً الذي لا يؤذي ولا يسببُ وحلاً ولا طيناً ولا زلقاً. وكذلك اشترطوا استمرارَ نزولِ المطرِ حالَ الجمعِ، قالَ الإمامُ الشافعيُّ -رحمَهُ اللهُ-: ولا يُجمعُ إلا والمطرُ مقيمٌ في الوقتِ الذي يُجمعُ فيه. وكذلكَ ذكرَ العلماءُ أنهُ يجوزُ الجمعُ في الطينِ والوحلِ إذا كان فيه خطورةُ الانزلاقِ, ولو كانَ المطرُ واقفاً. ومن الأسبابِ التي يجوزُ الجمعُ بسببِها: الريحُ الشديدةُ الباردةُ، قالَ شيخُ الإسلامِ: "يجوزُ الجمعُ للوحلِ الشديدِ، والريحِ الشديدةِ الباردةِ في الليلةِ المظلمةِ، ونحوِ ذلكَ، وإنْ لم يكنْ المطرُ نازلاً في أصحِّ قولي العلماءِ, وذلكَ أولى من أنْ يُصلوا في بيوتِهم، والأصلُ في الرخصةِ أنها تَعُمُّ، إذ يجوزُ الجمعُ حتى لمن كانَ بابُ بيتِهِ قريباً من المسجدِ, ومن كانَ يذهبُ إلى المسجدِ بالسيارةِ, ومنْ كانَ يمشي تحتَ سَقفٍ في طريقٍ مظللٍ فيجوزُ له الجمعُ؛ لأنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- لم يفرقْ بينَ القريبِ والبعيدِ, وكانَ عليه الصلاةُ والسلامُ يخرجُ من بيتِهِ الملاصقِ للمسجدِ فيصلي بالناسِ ويجمعُ. نأتي -أيها المسلمونَ- للمسبوقِ وهوَ الذي دخلَ المسجدَ فوجدَهُم قد انتهوا من الصلاةِ الأولى وبدؤوا بالصلاةِ الثانيةِ فإنَّهُ يدخلُ معهم بنيةِ الصلاةِ الأولى وإذا دخلَ المسجدَ بعدَ انتهاءِ المصلينَ منَ الجمعِ كُلِّهِ جازَ له الجمعُ في مذهبِ الإمامِ أحمدَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- وغيرِهِ. وكذلكَ فإنَّ السننَ الرواتبَ تُرتَّبُ حسبَ ترتيبِها، فإذا جمعوا المغربَ والعشاءَ، فإنهُ يُصلي سنةَ المغربِ, وبعدها سنةَ العشاءِ, وبعدها قيامَ الليلِ إن شاءَ ولا حرجَ عليهِ -إن شاءَ اللهُ تعالى-. نسألُ اللهَ -سبحانَهُ وتعالى- أن يفقهَنا وإياكم في دينِه، وأن يعلمَنا ما جهلْنا, وأن ينفعَنا بما علمْنا إنه سميعٌ مجيبٌ. أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ الذي لا إلهَ إلا هوُ وحدهُ لا شريكُ له, له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، أشهدُ أنه اللهُ الحيُّ القيومُ ذو الجلال والإكرام، وأشهدُ أن محمدا عبدُهُ ورسولُه صلى اللهُ عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الأحبة المسلمون: نأتي لموضوعٍ آخرَ ألا وهوَ: الآذانُ والنداءُ بالصلاةِ في الرَّحالِ، فقد اتفقَ الفقهاءُ على مشروعيَّةِ قولِ المؤذِّنِ عندَ المطرِ أو الرِّيحِ أو البردِ: "ألا صلُّوا في رِحَالِكم"، أو "الصلاة في الرِّحَال" استدلُّوا على ذلك بأدلَّةٍ, منها: حديثُ ابنِ عمرَ -رضي اللهُ عنهما- في صحيحِ البخاري: "أنه أذَّن بالصلاةِ في ليلةٍ ذاتِ بردٍ وريحٍ ثم قالَ: ألا صلوا في الرحالِ، ثم قالَ: إنَّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- كانَ يأمرُ المؤذنَ إذا كانتْ ليلةً ذاتَ بردٍ ومطرٍ يقول: "ألا صلوا في الرحالِ". ومنها حديثُ أسامةَ الهُذليِّ -رضيَ اللهُ عنهُ- عندَ أبي داودَ وصححَهُ الألبانيُّ: "أنَّ يومَ حُنينٍ كانَ يومَ مطرٍ, فأمرَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- مناديهِ: أنِ الصلاةَ في الرحالِ". وحديثُ أسامةَ الهُذليِّ -رضيَ اللهُ عنهُ- عندَ ابنِ ماجة وصححهُ الألبانيُّ أنهُ قالَ:"لقد رأيتَنَا معَ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يومَ الحديبيةِ وأصابتْناَ سماءٌ لم تَبُلْ أسافِلَ نعالِنَا، فنادى مناد رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "صَلُّوا في رحالِكُم". واختلفَ الفقهاءُ في موضعِ هذهِ الجملةِ: "الصلاةُ في الرحالِ" أو "ألا صلّوا في رحالِكُم" بعدَ اتفاقِهِمْ على مشروعيَّتِها، هل تُقالُ أثناءَ الأذانِ أمْ بعدَ الفراغِ منهُ على ثلاثةِ صِفَاتٍ: أولُها: أنها تُقالُ في أثناءِ الأذانِ، بدلاً منْ "حيَّ على الصلاةِ"، وهو قولٌ للشافعيةِ وظاهرُ مذهبِ الحنابلةِ. والثاني: أنها تقالُ في أثناءِ الأذانِ, ولكنْ يقولُها بعدما يقولُ: "حيَّ على الصلاةِ" وهو قولٌ للشافعيةِ. الثالثُ: أنَّها تُقالُ بعدَ الفَرَاغِ منَ الأذانِ كلِّهِ، وهُو مذهبُ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ، وقولٌ للشافعيَّةِ. والأمرُ في هذا واسعٌ سواءً قالَها في أثناءِ الأذانِ أو بعدَ الفراغِ منهُ فكلُّهُ جائزٌ، وكلُّها ثابتةٌ في السُنَّةِ، ولكنْ الأولى أنْ يكونَ بعدَ الفراغِ منَ الآذانِ، وهو رأيٌ لبعضِ الحنفيةِ، ومذهبُ الشافعيةِ ليبقى نظْمُ الأذانِ على وضعِهِ. هذا، وصلوا وسلموا على خيرِ البريةِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-. عبد الله الواكد
الأربعاء 30 ذو القِعدة 1438
أجب النداء | هلال الهاجري
الخطبة الأولى: إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ. (يَا أَيُّهاَ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:1-2]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]. أَمَّا بَعْدُ: فما الذي جعلَ أعظمَ عبادةٍ، تُصبحُ في حياتِنا اليوميةِ عادةً؟ تُلهينا الأعمالُ، وتأخذُنا الأشغالُ، وإذا بنا ونحنُ في قمَّةِ الانهماكِ مع الدُّنيا والأملِ والأماني في عِراكٍ، يأتي ذلكَ الصَّوتُ منادياً عبادَ الرَّحمنِ: هَلُمُّوا إلى الرَّاحةِ والطُّمأنينةِ والأمانِ! اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ! أكبرُ من كلِّ شيءٍ، وأعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأهمُّ من كلِّ شيءٍ، وأولى من كلِّ شيءٍ؛ فإذا سمعت ذلكَ النِّداءَ، فاترك أشغالَكَ وتعالَ، اتركَ عملَكَ وتعالَ، اتركْ مواعيدَكَ وتعالَ، اتركَ زوجتَك وأولادَك وتعالَ، اتركْ فِراشَك الدافئ وتعالَ، اتركْ تجارتَك وتعالَ، ولكن.. هلْ يستطيعُ ذلكَ إلا الرِّجالُ؟ وصدقَ -سبحانه-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)، فمن هؤلاءِ الذين يُسبِّحُونَ في المساجدِ في اللِّيلِ والنَّهارِ؟ إنَّهم: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:37]. منادٍ يُنادي بكلمةِ التَّوحيدِ، وبحقِّ اللهِ على العبيدِ: أشهدُ لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمداً رسولُ اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا -صلى الله عليه وسلم-، لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ لِابْنِهِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". هذه الكلمةُ التي لو وُجدتْ في صحيفةِ عبدٍ، عالماً بمعناها، مُستيقناً بها، قابلاً لها، مُصدِّقاً بها، مُخلصاً فيها، مُحباً لها، منقاداً لها، فلا يوازيها في الميزانِ شيءٌ أبداً، قَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلَ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى؛ إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ؛ فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ"، فأشهدُ أن لا إلهَ اللهُ وأنّ محمدا رسولُ اللهِ!. يا أهلَ الإيمانِ: في كلِّ يومٍ يعظُنا المؤذنُ وينصحُنا خمسَ مراتٍ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ! ولقد صدقَ ونصحَ؛ فجزاهُ اللهُ خيراً. وهل الفلاحُ والنَّجاحُ إلا في الصَّلاةِ؟ وهل الخيرُ والبركةُ إلا في الصَّلاةِ؟ وهل النَّعيمُ والسَّعادةُ إلا في الصَّلاةِ؟. وقد ننشغلُ عن التَّرديدِ خلفَه وننسى ذلكَ الفضلَ العظيمَ والطَّريقَ السَّهلَ لجناتِ النَّعيمِ، قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا قالَ المُؤَذّنُ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، فَقالَ أحَدُكُمْ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، ثُمَّ قالَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، ثُمَّ قالَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، قالَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ؛ ثُمَّ قالَ: حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، قالَ: لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللّه؛ ثُمَّ قالَ: حَيَّ عَلى الفَلاح، قالَ: لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ؛ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، قالَ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبرُ، ثمَّ قالَ: لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ، قالَ: لا إلهَ إِلاَّ اللّه، مِنْ قَلْبه، دَخَلَ الجنَّة"، فأينَ القلوبُ التي تتفرغُ من كلِّ شيءٍ إذا سمعتْ الأذان، ولا تنشغلُ إلا بترديدِ كلماتِ الإيمانِ، طمعاً في جنَّةِ الرَّحيمِ الرحمانِ؟. منْ منكم يريدُ شفاعةَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- يومَ القيامةِ؟ في اليومِ الذي لا يسألُ فيه أحدٌ عن أحدٍ، ويفرُّ فيه المرءُ عن أمِّه وأبيه وعن أخيهِ وعن الزَّوجةِ والولدِ، في يومِ تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، يَوْم يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا، يوم فيه أهوالٌ وأحداثٌ وأحوالٌ ومواقفُ ومناظرُ، (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1]، وأنتَ معكَ أحبُّ البشرِ إلى اللهِ -تعالى- يشفعُ لك عندَ ربِّه الذي سيقولُ له في ذلكَ المقامِ المهيبِ: "يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ". إنَّها -واللهِ- يسيرةٌ على من يسَّرها اللهُ عليه! قالَ -عليه الصلاة والسلام-: "إِذا سمِعْتُمُ النِّداءَ فَقُولُوا مِثْلَ ما يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا علَيَّ، ثُمَّ يقولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعوةِ التَّامَّةِ، والصَّلاةِ الْقَائِمةِ، آتِ مُحَمَّداً الْوسِيلَةَ والْفَضَيِلَةَ، وابْعثْهُ مقَامًا محْمُوداً الَّذي وعَدْتَه، حلَّتْ لَهُ شَفَاعتي يوْمَ الْقِيامِةِ"، ففي الوقتِ الذي كلٌّ مشغولٌ بنفسِه ليُنجيها، هو مشغولٌ بأمتِه ليُنجيها. صلى عليكَ اللهُ يا نورَ الهـدى *** ما دارتِ الأفلاكُ والأجرامُ صلى عليكَ اللهُ يا خيرَ الورى *** مـا مرَّتْ السَّاعاتُ والأيـامُ ثُمَّ توضأْ في بيتِكَ قبلَ الخروجِ إلى الصلواتِ المفروضاتِ، تحطُّ عنكَ خطايا وترفعُ درجاتٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً". وكذلكَ في الرُّجوعُ من المسجدِ، كما قالَ الصَّحابيُّ -رضيَ اللهُ عنه-: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ". وأما في الآخرةِ، فيا من مشى إلى المسجدِ لصلاةِ العشاءِ والصُّبحِ، أبشرْ ببُشرى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لكَ: "بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". واعلمْ أنكَ كلما ذهبتَ إلى بيتِ اللهِ -تعالى-، فإنكَ ضيفُه وفي ضيافتِه، وقد أعدَّ لكَ ضيافتَكَ من الجنَّةِ في كلِّ صلاةٍ صباحاً ومساءً، قالَ -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ". وأنتَ في صلاةٍ وأجرُها مستمرٌ، ما دمتَ في المسجدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ"، فمن استشعرَ هذا المعنى؛ فأيُّ عجلةٍ هو فيها؟ وأيُّ صلاةٍ يريدُ أن يقضيها؟ بل ستجدْه يتلذَّذُ في انتظارِ الصَّلاةِ، كما يتلذَّذُ في الصَّلاةِ إذا جُعلتْ قرَّةُ عينِه في الصَّلاةِ. عبادَ اللهِ: منْ منَّا يُريدُ الملائكةَ أن تدعو له؟ وهم عبادُ اللهِ المُكرمونَ الذينَ أكرمَهم، ومن كرمِه لهم أنَّه يُجيبُ دعاءَهم، قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ"، فكم تُريدُ من هذا الدُّعاءِ؟ عشرينَ دقيقة أو خمس دقائقَ أو دقيقة؟، أنتَ بتبكيرِك للصَّلاةِ تستكثرُ منها، وبتأخرِكَ عنها تستقلُّ منها، فلا يفوتُك دعاءُ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ. وأنتَ تنتظرُ الصَّلاةَ، لا تنسَ نفسَك بالدُّعاءِ لكَ ولمن تُحبُّ وللمسلمينَ، فإنها من أوقاتِ الإجابةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ"، فاجتمعَ لكَ أنكَ في بيتِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، وفي ضيافتِه، وتنتظرُ فريضتَه، وقدُ غُفرتْ لكَ الذُّنوبُ، ورُفعتْ لك الدَّرجاتُ، وحُطَّتْ عنكَ الخطيئاتُ، والملائكةُ تدعو وتستغفرُ لكَ، والدَّعاءُ لا يُردُّ، فارفعْ يديكَ، وحرِّكْ شفتيكَ، واستحضرْ قلبَك، وادعُ ربَّكَ؛ وانتظرْ الإجابةَ. وإذا قرأتَ آيةً من كتابِ اللهِ -تعالى- فقد حُزتَ من الأجورِ العظيمةِ ما يُساوي النَّاقة السَّمينة، وهو ما كانَ يُضربُ به المثلُ قديماً بأحبِّ أموالِ العربِ، يقولُ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ -رضيَ اللهُ عنه-: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ -أيْ: سَمِينَتِينِ-، فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟"، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: "أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ"، فترجعُ بخيرِ الدُّنيا والآخرةِ. ومن كانتْ عادتُه المحافظة على التَّبكيرِ إلى صلاةِ الجماعةِ، فإنَّه حتما سيدركُ ذلكَ الفضلَ الكبيرَ، كما جاءَ في الحديثِ: "مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ"، فتُصرفُ له شهادةُ براءةٍ من النِّفاقِ في الدُّنيا بثناءِ المؤمنينَ، وشهادةُ براءةٍ من النَّارِ من ربِّ العالمينَ، فاللهمَّ لا تحرمنا فضلَكَ!. باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، ونفعنا بهديِ سيدِ المرسلينِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كل ِّذنبٍ، فاستغفروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ. الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ الذي فرضَ الصَّلاةَ على العبادِ رحمةً بهم وإحساناً، وجعلها صِلَّةً بينَه وبينهم ليزدادوا بذلكَ إيماناً، وكرَّرَها كلَّ يومٍ حتى لا يحصلَ الجفاءُ، ويسَّرَها عليهم حتى لا يحصلَ التَّعب والعَناء، وأجزلَ لهم ثوابَها؛ فهيَ بالفعلِ خمس، وبالثَّوابِ خمسون، فضلاً منه وامتناناً. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له خالقنا ومولانا، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أخشى النَّاسِ لربِّه سِرَّاً وإعلاناً، الذي جعلَ اللهُ قرَّةَ عينِه في الصَّلاةِ، فنِعمَ العملُ لمن أرادَ من ربِّه فضلاً ورضواناً! صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم بإحسانٍ وسلَّمَ تسليماً. أما بعد: فيا أهلَ الإيمانِ، إذا كانَ المحافظةُ على صلاةِ الجماعةِ هي صفة من صفاتِ المؤمنينَ، فإن التَّفريطَ فيها سمةٌ من سِماتِ المنافقينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ"، فلا إلهَ إلا اللهُ! الأمرُ عظيمٌ! الأمرُ عظيمٌ! الأمرُ عظيمٌ! فمنْ وصفَه اللهُ -تعالى- أنَّه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، همَّ أن يُحرِّقَ على المتخلفينَ عن الصَّلاةِ في المسجدِ بيوتَهم! فما هو عُذركَ بعدَ اليومِ؟. حتى إن بعضَ المنافقينَ كانَ يُحافظُ على صلاةِ الجماعةِ، كما وصفَهم اللهُ -تعالى- بقولِه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:142]، ولكن يتخلَّفُ عنها معلومُ النِّفاقِ، كما قالَ ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنه-: "وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وما يَتَخَلَّفُ عنها إلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كان الرَّجُلُ يؤتي بِهِ يُهَادَى بين الرَّجُلَيْنِ حتى يُقَامَ في الصَّفِّ". فماذا عسى أن يَقولَ من يتخلَّفُ عن صلاةِ الجماعةِ؟. وواللهِ -يا أخي- إني ناصحٌ لك! لا تتركْ هذا الخيرَ العظيمَ في صلاةِ الجماعةِ، وكما أنَّكَ لا ترضى أن يقولَ لكَ أحدُنا: يا مُنافقُ، فكيفَ ترضى أن تكونَ عندَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وعندَ خالقِك ورازقِكَ منافقاً بتخلُّفِك عن صلاةِ الجماعةِ؟ فكنْ من المصلينَ، واركعْ مع الرَّاكعينَ، تفزْ برحمةِ أرحمِ الرَّاحمينَ. اللهم اجعلنا مقيمي الصلاةَ، ومُنَّ علينا بالتوفيقِ لما تحبُّ وترضى يا جزيلَ الهباتِ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمينَ؛ إنك أنت الغفورُ الرحيمُ. الـلهمَّ منزلَ الكتابِ، ومجري السحابِ، وهـازم الأحـزابِ، اللهم أنت ربُّنا وأنت وليُّنا ومولانا، أمرتَنا بالدعاءِ ووعدتَنا بالإجابةِ، فنسألُك باسمِك الأعظمِ الذي إذا دُعيتَ به أجبتَ، وإذا سُئلتَ به أعطيتَ، اللهم انصرْ إخوانَنا المستضعفينَ في دينِهم في سائر ِالأوطانِ، اللهم لنا إخوةٌ في العقيدةِ مسَّهم الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الرَّاحمينَ، إلهنا عَظمَ الكربُ واشتدَّ الخطبُ وتفاقمَ الأمرُ على إخوانِنا المسلمينَ في بلادِ الشامِ وفي العراقِ وفي بورما، اللهم عجلْ بنصرِهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهمَّ إنهم ضِعاف فقوِّهم، ومَظلومونَ فانصرْهم يا نَاصرَ المستضعفينَ. اللهم عجِّلْ بالنَّصرِ والعِزِّ للمُرابطينَ المُجاهدينَ في الجَنوبِ، وردَّ اليمنَ السَّعيدَ إلى أهلِه؛ إنَّك سميعُ الدَّعاءِ. هلال الهاجري
الثلاثاء 29 ذو القِعدة 1438
آية الليل | عبدالمحسن بن محمد القاسم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى. أيها المسلمون: خلق الله الخلق وأتقنه ودبر ما خلق فقدره، وفتق السماء عن الأرض وزيَّنها وجعل الليل والنهار آيتين؛ فمحا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، يغشي الليل النهار ويكور النهار على الليل بمقدار يعلمه، وجعل الليل بعد إدبار النهار آية من آيات الله الدالة على وحدانيته.. قال -سبحانه وتعالى-: (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ) [يس:37]. أقسم الله بولوجه على النهار شيئاً فشيئاً من غير إفزاع للبشر فقال: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) [التكوير:17]، وأقسم به إذا غشي الشمس حين تغيب: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا)[الشمس:4]، وإذا غطى الخلائق بظلامه: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) [الليل:1]، وأقسم به إذا سكن وأظلم: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضحى:2]، وإذا جمع ظلامه وادلهم: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) [الانشقاق:17]، وإذا كشف غطاءه عن الخلق فاستناروا (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) [المدثر:33]. وهو آية ترى بالأبصار تدعو إلى تعظيم الله وإفراده: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ..) [لقمان:29]، ورحمة من رحمته بعباده: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ..) [القصص:73]، وتقليب الليل والنهار دليل على قوته وإحكام مُلكِه، وبيَّن عجز الخلق جميعا على أن يحولوا الليل نهاراً: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء..) [القصص:71]. وتدبيره له بتقدير يجهله البشر: (.. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ..) [المزمل:20]، والتفكر في تدبيره يدعو إلى عبادة الله وذكره وشكره: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) [الفرقان:62]، وهو مِنَّةٌ من الله أمر العباد أن يشكروه عليها: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [غافر:61]، وهو داع إلى إيمان العباد بربهم: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النمل:86]. في الليل يتثاقل أهل النفاق عن الطاعة، فأثقل صلاة عليهم صلاة العشاء والفجر، وهو زمن التعبد النافلة فيه أفضل من نافلة النهار، قال -عليه الصلاة والسلام-: " أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " رواه مسلم، وتعلق القلوب فيه بالله أرجى فأمر الله رسوله بالإكثار من الصلاة والتسبيح فيه: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل:2]، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) [الإنسان:26]، واقتفى الصالحون أثره فـ:(كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)[الذاريات:17]. وفيه صلاة الوتر، والله وتر محب الوتر، وصلاة آخر الليل مشهودة، و " من صلَّى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله "، "وفي الليل ساعة من مغيب الشمس لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه " رواه مسلم، " وفي الثلث الأخير من الليل ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له وهو زمن ترجى فيه توبة التائبين، نزلت توبة الذين خُلِّفوا في الثلث الأخير من الليل " رواه البخاري. وفي صلاة الفجر تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار، والقرآن نزل ليلاً (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) [الدخان:3]، وأفضل زمن لتلاوته هو الليل.. قال -عز وجل-: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل:6]، وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر، وأسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ليلاً، وفي الليل تطوى الأرض للمسافر، والليل بظلامه مفزع، " ومن قرأ آيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه –أي من الشرور " متفق عليه، وفي أول الليل تنتشر الشياطين، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إذا كان جنح الليل –أي أوله- بكف الصبيان فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم " متفق عليه. والنوم من نعم الله الجسيمة يحتاجه الغني والفقير، وبفضل من الله جعله يسيرا في كل مكان ويناله كل مخلوق بلا ثمن، ليس بمتاع يحمله المسافر فيجهد، ولا بذي ثمن يفقد الفقير ثمنه فيحزن، ولا بذي عرض فيحزن الضعيف والصغير عن نقله.. تغمض العينان فترتفع الروح، فينال الجسد الراحة والسكون، قال -عز وجل-:(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً) [النبأ:9]، وهو من آيات الله العظيمة الدالة على قوته وجبروته، قال -جلَّ شأنه-: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ..) [الروم: 23]، يميت البشر بالنوم ثم يوقظهم متى شاء إذا شاء. قضى الله أن تكون نَومة أهل الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً فكان ما شاء. وهو -سبحانه- حيٌّ قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29]، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل" رواه مسلم، والشيطان يتخبط العبد في منامه، " من قرأ آية الكرسي قبل نومه لم يزل عليه من الله حافظ ولم يقربه شيطان حتى يصبح " رواه البخاري. ولا تشريع بالمنامات، والرؤيا الصالحة في المنام من الله، والحلم من الشيطان، " فمن رأى رؤيا صالحة فليحمد الله عليها وليحدث بها من يحب، ومن رأى حلماً من الشيطان فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شرها، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه، ولا يحدث بها أحداً فإنها لا تضره " متفق عليه. والنوم قسيم الموت ويذكر به قال -تعالى- (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) [الزمر: 42]، وكم من نائم مات في نومته، ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- عند نومه: " إن أمسكت نفسي فارحمها " متفق عليه. و" إذا نام العبد عقد الشيطان على قافيته ثلاث عقد يضرب على كل عقدة.. عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ". والاستيقاظ بعد النوم نعمة من الله تشكر، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا استيقظ قال: " الحمد لله الذي أحيانا من بعد ما أماتنا وإليه النشور ". ودعوة المستيقظ من الليل مع الذكر مستجابة، وصلاته مقبولة.. قال -عليه الصلاة والسلام-: " من تَعارَّ من الليل -أي استيقظ- فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وله الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا إلا استجيب له، فإن توضأ وصلى قُبِلت صلاتُه " رواه البخاري. ومن نام ولم يستيقظ للصلاة حتى يصبح بال الشيطان في أذنه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يُشوِّص فاه بالسواك، ومن استيقظ من نومه فليذكر الله، وليغسل يديه ثلاثاً، وليستنثر ثلاثاً؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه، والسعيد من تفكر في خلق الأرض والسماوات، واغتنم أنفس دهره بالقربات، ودخل في ليله وخرج منه بالأعمال الصالحات ومجانبة السيئات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 33 – 34]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً. أيها المسلمون: عمر الإنسان ليله ونهاره ومنزلته في الآخرة بأعماله في الدنيا، وساعات الليل خير أزمان الأعمار، وولوج ليل كل يوم يدني من الحساب، والبصير من سار إلى الخيرات وابتعد عن السيئات، والله مطلع على عباده بالليل والنهار يعلم سرهم وعلانيتهم وما اقترفوه من سيئات؛ فاجتهدوا في طاعة ربكم وتدبروا أحوال دهركم. ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].. اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون -أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك ياأكرم الأكرمين.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار ِ) [البقرة: 201]. ربنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ أو عمل، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرب إليها من قولٍ وعمل، اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا. اللهم وفق إمامنا لهداك واجعل عمله في رضاك، ووفق جميع ولاة المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك ياذا الجلال والإكرام. عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. عبدالمحسن بن محمد القاسم
الثلاثاء 29 ذو القِعدة 1438
آداب وسنن الصف في الصلاة | أحمد بن ناصر الطيار
الخطبة الأولى: إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه, ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين, وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أن الصلاةَ لَمَّا كانت أعظمَ ركن, وأعلا فريضةٍ بعد الشهادتين, كانت لها شروطٌ وواجباتٌ تسبقها, كالوضوء, وتجنُّبِ الرائحةِ الكريهةِ المؤذية, وغيرُ ذلك من واجبات وشروط الصلاة. ومِن واجبات الصلاة وآدابها: تسويةُ الصفوفِ وإقامتها, والقيامُ لها عند الإقامة دون تأخير, بسكينةٍ وتؤدة, وقطْعٍ للكلام والالتفات الذي لا نفعَ فيه. وكلُّ هذا من أسباب قبول وإقامة الصلاة, والطمأنينةِ والخشوع, وإجابةِ الدعاء فيها, قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ", وفي رواية: "مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ". متفق عليه. والمراد بتسوية الصفوف: اعتدالُ المأمومين على سمتٍ واحد، مع سدِّ الخلل الذي في الصف, وألا يتقدم أحد على أحد، لا بصدره، ولا بكعبه. والمعتبر المناكب في أعلى البَدَن، والأكعُب في أسفل البَدَن. وينبغي التَّراصُ في الصَّفِّ, وهو عدمُ تركِ فُرَجٍ للشياطين، وليس المراد بالتَّراص التَّزاحم؛ لأن هناك فَرْقاً بين التَّراصِّ والتَّزاحم. وقد قال أَنَس بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: «كَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ» رواه البخاري. والسنة لمن دخل المسجد أنْ يُبادر إلى الصف الأول, ولْيقترب أهل العلم والعقل والدين من الإمام, قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» رواه مسلم. ومن الحرمان أنْ ترى الرجل يُفرط في الصف الأول, أو يأتي مُبكّرًا ثم يجلس في الخلف, ولو كشف الله تعالى ما لك من الأجر الْمُدَّخر عنده: ما تأخرت عن الصف الأول يومًا واحدًا, ولو دفعت مالاً للوصول إلى الصف الأول لدفعتَه. قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» متفق عليه. ومعنى الحديث: أنّ الناس لو علموا فضيلة الصف الأول وقدره وعظيم جزائه, ثم لم يجدوا طريقًا يُحَصِّلونَه به, لاكتمالِه وعدمِ وجودِ فُرَجٍ فيه, لاقترعوا في تحصيله. واعلموا – معاشر المسلمين- أنّ أيمنَ الصَّفِّ ليس بأفضلَ مِن أيسره على سبيل الإِطلاق؛ لأنه لو كان على سبيل الإِطلاق كما في الصف الأول: لقال الرسولُ -عليه الصلاةُ والسلام-: "أتمُّوا الأيمن فالأيمن", كما قال : "أتِمُّوا الصَّفَّ الأول فالأول". وإنما يكون يمينُ الصف أفضلَ من يساره: إذا تساوى اليمينُ واليسار أو تقاربا؛ بحيث لا يظهر التفاوتُ بين يمين الصّفِّ ويسارِه، أما مع التّباعد فلا شكّ أن اليسار القريبَ أفضلُ مِن اليمين البعيد. والسنة للإمام إذا أُقيمت الصلاة, أن يُقْبل بوجهه تجاه المأمومين, ويتفقدَ صفوفهم, ويأمرَهم بتسويتها وإتمامها. قال البخاري -رحمه الله-: بَابُ إِقْبَالِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ, ثم روى بسنده عن أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ, فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا, فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي". ويجب على الإمام أن يحرص على تسوية الصفوف, ويُرشدَ من يراه قد أخلّ بذلك, ولا يتحرجُ من ذلك أبداً. قال العلاَّمةُ ابن عثيمين -رحمه الله-: "يجب على الإمام أن يعتنيَ بتسوية الصف, ولا تأخذه في الله لومةُ لائم؛ لأن كثيراً من الجهلة, إذا تأخر الإمام في التكبير لتسوية الصفوف, أخذهم الحنَقُ والغضب، فلا ينبغي أن يباليَ الإمام بأمثال هؤلاء". ا.هـ وهي واجبةٌ يأثم من أخلَّ بها, خَرَجَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا للصلاة, فَقَامَ حَتَّى كَادَ أن يُكَبِّر, فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ: «عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ, أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ». واعلموا معاشرَ المصلِّين: أن الصفوف في الصلاة, مما خصَّ الله به هذه الأمة وشرفها به ؛ فإنهم أَشْبَهُوا بذلك صفوف الملائكة في السماء, ثبت صحيح مسلم عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قالَ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ, وذكر منها : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ». فلْنلتزمْ بهذا الأدب يا أمة الإسلام, فإذا أُقيمت الصلاة فلا ينبغي أنْ ننشغل بشيء عنها أبداً, ولْنَقُمْ إليها بلا تأخيرٍ ولا انْشغالٍ أو حديثٍ, ولْيكن همُّنا وشُغلُنا: الاسْتعدادُ للمثول بين يدي الله تعالى. ولْينظُر كلُّ واحدٍ منَّا إلى كعبيه, ليتأكد أنها قد حاذت كعب مَن بجواره. ومِمَّا يجب علينا عند إقامة الصلاة, أنْ نُعين الإمام على تسوية الصف, وننَهى الأطفال عن اللعب, ونأمرَهم بالاصْطفاف, ونُرشدَ مَن بجوارنا بالتراصِّ والاعتدال. وينبغي تجنُّب الخطأ الذي يقع مِن بعض المأمومين عند إقامة الصلاة, حيث يلتفت يمنةً ويسرة, وبعضهم مشغولٌ بالحديث مع صاحبه, حتى إنّ الإمام يُكبر للصلاة وهو مشغولٌ بالحديث مع صاحبه, وبعضهم يقف مكانه بلا حراك, ولا يلتفت إلى نداء الإمام له بالتراصِّ والاعتدال, وبعضهم يتأخر عن القيام لاسْتكمال آياتٍ من القرآن, ولم يعلم أنَّ التلاوة سنة, وإتمامَ الصف واجبٌ يأثم بالإخلال به. نسأل الله تعالى أن يعيننا على إقامة الصلاة, وعلى الخشوع حال وقوفنا بين يدي الله, إنه سميعٌ قريبٌ مجيب. الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: معاشر المسلمين: لقد مضى ما يُقارب عامان كاملان, وجنودُنا البواسل يُخاطرون بأرواحهم وأوقاتهم ودمائهم, لحماية بلدنا وأعراضنا مِنَ الخطر الحوثيّ الإيرانيّ, ولقد أبلوا بلاءً حسنًا, وساندوا الشعب والمقاومة اليمنية على دحر الحوثيّ وأعوان المخلوع الخائن العميل, ووصلوا إلى تُخوم صعدة, ودخلوا مدينةَ وميناء الْمُخاء عظيمِ الأهميّة. ولا زال ولاة الأمر -وفقهم الله تعالى- يُولون اليمن أهمية كبرى, ويبذلون المال والطعام للشعب اليمني المنكوب. فنسأل الله تعالى أن يُعجل نصرهم, ويدحر عدوهم, وأن يُعجل بسقوط إيران دولة الشرك والإرهاب, إنه على كل شيء قدير. نسأل الله تعالى أن يرزقنا علمًا نافعًا, وعملاً صالحًا مُتقبّلا, إنه جواد كريم. أحمد بن ناصر الطيار
الاثنين 28 ذو القِعدة 1438
اخر ما تفقدون من دينكم | فواز بن خلف الثبيتي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره. أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران} :102]. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[الأحزاب:70]. عباد الله: لا يختلف اثنان في أن رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وأن الصلاة ركن لا يتم إسلام إلا بإقامته، ومن شك في ذلك فهو كافر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فهي العهد الذي بيننا وبين أهل الشرك والكفر. وهي وللأسف آخر ما يفقد من الدين، فإذا ضاعت ضاع الدين كله. والواجب علينا كمسلمين التناصح، والتواصي بالحق، والتذكير بهذه الصلاة، التي ما كان الصحابة يعدون عملاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، وخاصة في هذه الأيام التي عظم التفريط من بعض الناس في شأن الصلاة، وأصبحوا يجاهرون بتركها والتخلف عن بيوت الله وأدائها فيها. ولا يخلو حي من شرذمة قليلة منهم، ففي حينا وحول مسجدنا هذا، رجال وشباب لا يشهدون الصلاة معنا ألبتة، اللهم إلا الجمعة وأحياناً. نعم، رجال وأولياء أمور وشباب تعرفهم بأسمائهم نوصحوا سراً، وأرسل إليهم من يذكرهم، وأوصي بعض آبائهم وحذوا خطر ما عليه أبناؤهم. ولكن لا حياة لمن تنادي، ولا عذر لهم، فبيوت بعضهم لا تبعد عن المسجد إلا أمتاراً. وهم أصحاء أقوياء لا يغيب الواحد منهم عن عمله ساعة، ولكن يؤذن المؤذن وتقام الصلاة ويسمع القرآن وهو في بيته مع امرأة وأخواته وبناته لا يخرج ليشهد الصلاة مع المسلمين وليست القضية. شخصاً ولا شخصية ولا ثلاثة، بل أكثر فهل ينتظر هؤلاء أن ترفع ضدهم قضية إلي المحكمة الشرعية؟ -ولنا الحق في ذلك –في أنهم– كما يظهر لنا – لا يصلون؟ أم نسكت عنهم ونجاورهم ونساكنهم ونجالسهم ونعاملهم معاملة المسلمين ونكون بذلك من الخائنين؟. فقد سئل علماؤنا الأجلاء عن رجل لا يصلي هل يسكن معه ويخالط أم لا؟ فكان الجواب: إذا كان هذا حالة فإنه كافر مرتد، خارج عن الإسلام، ولا تجوز مساكنته؛ لأن تارك الصلاة كافر، ويترتب عليه أحكام المرتدين، من أنه لا يزوج بمسلمة، وإن كان متزوجاً يفسخ نكاحه ولا تحل له زوجته، وإذا ذبح لا تؤكل ذبيحته؛ لأنها حرام أخبث من ذبيحة اليهودي والنصراني، ولا تحل له أن يدخل مكة أو حدود حرمها، ولا يحق له الميراث، وإذا مات لا يغسل ولا يكفن، ولا يصلي عليه، ولا يدفن مع المسلمين. ومن قدم تاركاً للصلاة للمسلمين ليصلوا عليه، فقد خانهم. وهذا الحكم للرجل أو المرأة، سواء كان متزوجاً أو أعرباً، هذا حكم الله فيهم". قال الله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر:42-43] صدق الله العظيم. نعم أيها الأخوة: لا نفهم عن تارك الصلاة في المسجد إلا أنه تارك للصلاة بالكلية، وإلا لو كان مصلياً، فما المانع له من الصلاة فيه؟ حتى لو زعم أنه يصلي في مسجد آخر، أو لديه أعمال وارتباطات، فليست بقدر أن يمر عليه الشهر والشهران ولم يدخل بيت الله المجاور له، وخاصة في صلاة الفجر والعصر ونحوها؛ كما هو حال بعض جيراننا هداهم الله. ولذا نص الفقهاء رحمهم الله على أن الإنسان ينبغي له الصلاة ي مسجد حيه المجاورة له حتى لا يُساء به الظن. وكان هذا معمولاً به زمن الصحابة رضي الله عنهم، حتى قال عبد الله بن عمر: "كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر أسأنا به الظن" أي اتهمناه بالنفاق. نسأل الله السلامة والعافية ولا أظن مسلماً عاقلا ًيشك في وجوب الصلاة جماعة. ولماذا أمر الله ببناء المساجد وتعميرها؟ أعبثاً أم لحكمة؟ ولماذا لم يرخص النبي الكريم الرحيم المشفق علي أمته لذلك الرجل الأعمى الكبير السن، البعيد الدار عن المسجد، الموحش القفار، وليس له قائد يقوده؟ فقال له: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب أو لا أجب لك رخصة. بل الأعجب من ذلك كله، أجبنا لما تتخلف عن الصلاة في المسجد؟ لماذا هم نبيك صلي الله عليه وسلم أن يأمر بجمع حطب كثير ثم تفاح بيوتهم بالنار؟ لماذا؟ وعلي أي شيء يدل؟ وقد قال مبيناً العذر: "لولا فإنها من النساء والذرية". أيها الأخ المصلي في غير بيوت الله ألم تتفكر يوماً؛ لماذا فرضت الصلاة جماعة في الحرب حال قتال الأعداء؟ فاحذر أخي من استحواذ الشيطان عليك، فقد قال نبينا صلي الله عليه وسلم: "ما من ثلاثة في قربة ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية". واسمع يا من تتخلف عن الجماعة إلي أمير المؤمنين الملهم، فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول: "ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة، فيتخلف بتخلفهم آخرون، لئن يحضروا الصلاة أو لأبعثنَّ عليهم من يجافي رقابهم". لقد كانت الصلاة جماعة تعني عنده شيئاً عظيماً رضي الله عنه وأرضاه، حتى أنه لما طعن في صلاة الفجر –طعنه أبو لؤلؤة المجوسي– أصابته حالة إغماء شديدة، فأرادوا إيقاظه رضي الله عنه، فلم يستطيعوا من شدة الإغماء، فقيل: إنكم لن تفزعوه بشيء مثل الصلاة، إن كانت به حياة، فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين قد صليت! فانتبه فزعاً، فقال: "هاه، الله، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلي رضي الله عنه وإن جرحه ليثعب دماً". تقول عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم .. يحادثنا ونحادثه فإذا أحضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه". تعظيماً لقدر الصلاة واهتماماً بها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر". أيها الأخوة في الله: لقد كانت الصلاة تعني عند النبي صلى الله عليه وسلم أمراً عظيماً، وعلي ذلك الهدي والاهتمام والعمل سار خلفاؤه الراشدين، وصحابته والتابعون، وسلف الأمة رحمهم الله. وضربوا في ذلك لمن يعدهم أروع الأمثلة: فسعيد بن عبد العزيز: كان إذا فاتته صلاة الجماعة يبكي. نعم يبكي، بعكس من تبلد حسهم اليوم. وحاتم الأصم يقول: "فاتتني الصلاة في الجماعة يوماً، فعزائي أبو أسحق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف؛ لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا". قال ربيعه بن زيد: "ما أذن المؤذن لصلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد، إلا أن أكون مريضاً أو مسافراً". إنهم قوم كما وصفهم رسولنا صلى الله عليه وسلم، ووعدهم بالظل تحت العرش يوم القيامة، فقال: "ورجل قلبه معلق بالمساجد". بل ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة وأصدق الاستجابة، حتى في حالات المرض الشديد. فعندما سمع عامر بن عبد الله المؤذن وهو يجود بنفسه، ومنزله قريب من المسجد، قال: خذوا بيده، فدخل في صلاة المغرب، فركع مع الإمام ركعة، ثم مات. لقد كانت هناك دوافع تدفعهم وتستحثهم، تحمل المشاهد في سبيل إقامة الصلاة طاعة لله وامتثالاً لأمره، ورغبة فيما عنده. حتى قال عدي بن حاتم: "ما جاء وقت صلاة إلا وأنا إليها بالأشواق، وما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا لها مستعد". وقال: "ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا علي وضوء". بل إبراهيم بن ميمون المروزى رحمة الله: كانت مهنته الصياغة وطرق الذهب والفضة، فكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء، لم يردها. عباد الله: وفي مقابل وعيد الله ونبيه صلى الله عليه وسلم للمتخلف عن الجماعة، فكم هو الأجر كبير، والبشارات عظيمة، لمن حافظ علي الصلاة جماعة؟!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب حسنة ذاهباً وإياباً". وقال عليه الصلاة والسلام: "لو يعلم هذا المتخلف عن الصلاة في الجماعة ما لهذا الماشي إليها لأتاها ولو حبواً علي يديه ورجليه". لو يعلم، ولكنه لا يعلم اختباراً من الله وامتحاناً. وقال عليه الصلاة والسلام: "صلاة من الإمام أفضل من خمسة وعشرين صلاة يصليها وحدة". وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من صلي العشاء في جماعة ولم يقم حتى يتصرف الإمام كتب الله له قيام نصف ليلة، وإذا صلي الفجر في جماعة حتى يتصرف الإمام كتب الله له قيام ليلة. وأكد النبي صلى الله عليه وسلم علي صلاة العشاء والفجر بالذات، وعد المتخلف عنها فيه وصف المنافقين. فعن أبي بن كعب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح، فقال: "أشاهد فلان؟ قالوا: لا -هكذا يتفقد الرسول صلى الله عليه وسلم جماعته، ويسأل عنهم لأنه لم يكن هناك أنوار وإضاءة- ثم قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: إن هاتين الصلاتين -يعني العشاء والفجر- أثقل الصلوات علي المنافقين، ولو تعلمون ما فيها لأتيتموها ولو حبواً علي الركب". قال الله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)[الإسراء:78]. فصلاة الفجر مشهودة من الملائكة الكرام، وقد ذُكر للنبي صلي الله عليه وسلم رجل نام حتى أصبح –كما هي عادة بعض إخواننا هداهم الله يشهد أحدهم وينام ولا يستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس أو عند ذهابه للعمل– ذكر للنبي صلي الله عليه وسلم مثل هذا الرجل، فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه" أعزكم الله وأكرم آذاننا وآذانكم أن تكون مراحيض للشيطان. أيها الآباء الأعزاء، أيها الشباب الأصحاء، أيها الرجال الفضلاء، يا من أنعم الله عليكم بالصحة والعافية وأكرمكم بمجاورة بيوت الله: اغتنموا الصحة قبل المرض، والشباب قبل الهرم، والحياة قبل الممات. فكم من مريض يحن إلي تلبيه نداء الله حال بينه وبين ذلك المرض، وكم من شيخ كبير أقعده الكبر عن الصلاة ركعتين في بيت من بيوت الله، وكم من ميت يتمني العودة للدنيا ليدخل بيوت الله. فالله الله في الصلاة، فهي آخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عندنا بين يدي الجبار جل جلاله إذا أوقعنا وسألنا ألم أجعل لكم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة؟! ألم تسمعوا: حي علي الصلاة، حي علي الفلاح؟ فلم لم تجيبوا داعي الله. وقد قال نبيكم محمد صلي الله عليه وسلم: "ثلاثة لعنهم الله: من تقدم قوماً وهم له كارهون -أي لشيء في دينه-، وامرأة باتت وزوجها عليه ساخط، ورجل سمع حي علي الصلاة حي علي الفلاح، ثم لم يجب "اللهم هل بلغت اللهم فاشهد". الحمد لرب العالمين، والعاقبة للمتقين. أما بعد: فمشروع مقترح، وما أكثر من يبحثون عن المشاريع الاستثمارية الناجحة، والمضمونة الربح. وخاصة في هذا الزمان الذي تعددت فيه المشاريع وتنوعت، وقل الرابحون، وكثر الخاسرون في كثير من الأعمال، وهذا حال تجارة الدنيا. إلا أن هذا المشروع المقترح عليكم –بإذن الله– ليس فيه خسارة، وربحه مضمون مؤكد، ولكنه يحتاج إلي رجل ذي عزيمة، وهمة وطموح، ولديه رصيد جيد، وصبر ومصابرة. نعم أيها الأخوة: هذا المشروع جربه غيركم ونجح فيه، بل جربه من فيهم نوع ضعف وقلة خبرة، فحققوا أرباحاً عظيمة، بصبرهم وعزيمتهم. إنه مشروع مقترح، ومقدم من صادق الوعد، الذي لا ينطق عن الهوى، من محمد صلي الله عليه وسلم، إلي كل مسلم. يتمتع بالإخلاص لله تعالي، والمتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولدية همة وطموح ورصيد من إيمان. وأرباح هذا المشروع ومكاسبه أعظم من عظيمة. ومدة هذا المشروع المقترح أربعون يوماً. فلا أظن أحداً منكم الآن إلا وهو متلهف لسماع هذا المشروع العظيم، لتنفيذه وإتقانه، فخذوه. يقول النبي الكريم صلوات الله عليه وسلامة عليه: "من صلي لله أربعين يوماً في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان براءة من النار، وبراءة من النفاق". "صلي لله" لا رياء ولا سمعة. "أربعين يوماً" هذه المدة وهي شرط . "في جماعة" وهذا شرط . "يدرك التكبيرة الأولى" وهذا شرط آخر. كانت المفاجأة والنتيجة والربح: "كتب الله له براءتان براءة النار، وبراءة من النفاق". وهل هين أو سهل هذا الربح؟ فجرب نفسك أيها التاجر، هذه التجارة، وجرب نفسك أيها الشاب، فكم من شباب صغار أتموا هذه الأربعين بشروطها، وليجرب كل واحد منا نفسه وبلا استثناء. ولا تيأس إذا لم ينجح في المرة الأولي، فقد تسقط بالتأخر عن تكبيرة الإحرام في فريضة بعد عشرين يوماً، أو أقل أو أكثر، فأعد الكرة واستعن بالله. ولا يكن تجار الدنيا وتجارتها أعظم في قلبك، فقد كان حرص السلف رحمهم الله علي حضور التكبيرة الأولي مع الأمام عجيباً، حتى قال سعيد بن المسيب: "ما فاتتني التكبيرة الأولي منذ خمسين سنة، وما نظرت إلي قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة". قال الله تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين:26]. إنه والله مطلب يستحق المنافسين، وأفق يستحق السباق، فبعض السلف لم تفته تكبيرة الإحرام مع الأيام إلا في يوم واحد -ليس خلال أربعين يوماً، أو أسبوعاً، أو شهراً، وإنما خلال أربعين عاماً- ولعذر. يقول ابن سماعة: "مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولي إلا يوم ماتت أمي". ومع حرصهم هذا رحمهم الله فلا غرابة، إذا قال إبراهيم النخعي: "إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولي فاغسل يديك منه". فلقد كانت تكبيرة الإحرام وحق لها أن تكون –مقياس وميزان للرجل ومدي استقامتهم علي دين الله-. أعاننا الله وإياكم وجميع المسلمين على طاعته ومرضاته، وبلغنا وإياكم أسباب مغفرته ورحمته ونيل جناته. وأصلح صلاتنا التي قال عنها نبينا صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، ينظر في صلاته فإن صلحت فقد أفلح، وإن فسدت خاب وخسر". أعاذنا الله وإياكم من الخيبة والخسران. اللهم أغفر للمسلمين والمسلمات. فواز بن خلف الثبيتي
الاثنين 28 ذو القِعدة 1438