في بيان فضائل الصلوات الخمس ووجوب المحافظة عليها | الشيخ د.صالح بن فوزان الفوزان
الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين، أمر بإقام الصلاة. والمحافظة عليها، والمداومة عليها مدى الحياة، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له في ربوبيّته وإلهيّته، وما لَهُ من الأسماء والصفات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كانت قرّة عينه في الصلاة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي المناقب والكرامات، وسلّم تسليماً. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- في السرّ والعلن، وتجنّبوا المعاصي ما ظهر منها وما بطن، وحافظوا على الصلاة، ولازموا الجمع والجماعات، فإن ذلك من أبلغ علامات الإيمان، قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18]. عباد الله: إن للصلاة فضائل ومزايا لا توجد في غيرها من الأعمال، فهي: أول ما فرض الله من الإسلام بعد الشهادتين؛ لأنها فرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة ليلة الإسراء قبل هجرته إلى المدينة، والزكاة والصوم والحج إنما فرض كلاً من هذه الأعمال في المدينة بعد الهجرة. والصلاة فرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- في السماء حينما عرج به إليها، وبقية الشرائع فرضت عليه بواسطة جبريل -عليه السلام-، وهو في الأرض، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر نوابه ورسله إلى الناس أن يبدؤوا بالدعوة إلى الصلاة بعد الشهادتين، كما قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة". والصلاة أول ما يُحاسب عليه العبد من عمله، قال عون بن عبد الله: "إن العبد إذا دخل قبره سُئِل عن صلاته أول شيء سُئِل عنه، فإن جازت له نُظر فيما سوى ذلك من عمله، وإن لم تجز له لم ينظر في شيء من عمله بعد". ويدل على هذا الحديث الذي في المسند والسنن من رواية أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يُحاسب به العبد من عمله يحاسب بصلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر". والصلاة أكثر الفروض ذكراً في القرآن، وأهل النار لما يسألون: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر: 42]. يبدؤون الجواب بقولهم: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)[المدثر: 43]. والصلاة لا يسقط فرضها بحال من الأحوال ما دام عقل العبد ثابتاً، فيصلّيها على حسب حاله، فتجب على المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، والآمن والخائف، لكن المعذور يصلي على حسب حاله، ومنتهى قدرته، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب". والصلاة تجب على الحرّ والعبد، والذكر والأنثى، والغني والفقير. وقد عظم الله أمر الصلاة في القرآن، وعظّم شرفها، وشرف أهلها، وخصَّها بالذكر بين الطاعات، ووصّى بها وصية خاصة، فمن ذلك: أن الله -تعالى- ذكر أعمال البرّ التي أوجب لأهلها الخلود في الفردوس، وافتتح تلك الأعمال بالصلاة، وختمها بها، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 1- 2] إلى قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [ المؤمنون: 9 – 11]. وقد عاب الله الناس كلهم، ووصفهم بالهلع والجزع والمنع للخير، إلا أهل الصلاة، فإنه استثناهم، فقال عزّ وجلّ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج: 19 – 23]. والصلاة شعار النبيين، وصفة المتقين، قال تعالى عن إبراهيم ولوط ويعقوب وإسحاق: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ) [الأنبياء: 73]. فذكر الخيرات كلها، وأفرد الصلاة بالذكر. وأخبر عن إسماعيل بقوله تعالى: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم: 55]. وأخبر عن عيسى أنه قال عن ربه: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم: 31]. وفي دعاء إبراهيم الخليل له ولذريته: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا) [إبراهيم: 40]. وأمر الله بها كليمه موسى بقوله تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طـه: 14]. ووعد عباده الذين يقيمون الصلاة بالأجر العظيم، فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170]. وبالصلاة أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته قبل خروجه من الدنيا، وهو في سياق الموت، فقال عليه الصلاة والسلام: "الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم". وذلك في آخر وصية أوصى بها عند موته، كما في الحديث: "وإنها آخر وصية كل نبي لأمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا". وجاء في حديث آخر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان يجود بنفسه، ويقول: الصلاة الصلاة". فالصلاة أول فريضة فرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وآخر ما وصّى به أمته، وآخر ما يذهب من الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة". فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين، فإذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام، فكل شيء يذهب آخره، فقد ذهب جميعه. وقدر الإسلام في قلب العبد كقدر الصلاة، فاحذر أن تلقى الله ولا قدر للإسلام عندك. إذا كنت تتهاون في الصلاة في هذه الحياة، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصلاة هي عمود الإسلام، فالإسلام لا يقوم إلا على الصلاة، كما أن البيت لا يقوم إلا على عمود يرفعه، فإذا سقط العمود سقط البيت، كذلك إذا سقطت الصلاة سقط الإسلام. وأخبر عليه الصلاة والسلام: أن الصلاة هي الفارقة بين المسلم والكافر، فقال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَن تركها فقد كفر". وقال: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة". وقد تساهل كثير من الناس اليوم في شأن الصلاة، فبعضهم يتأخر في حضوره إلى المسجد، حتى يفوته بعض الصلاة أو معظمها أو كلها. وبعضهم يتأخر عن صلاة الجماعة، فيصلّيها وحده. وترك صلاة الجماعة معصية عظيمة، وخسارة كبيرة، فقد وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- المتخلفين عن صلاة الجماعة بالنفاق، فقال: "أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر". وهمَّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوتهم عليهم بالنار لولا ما فيها من النساء والذرية. وجاءه رجل أعمى يطلب منه الرخصة ليصلي في بيته؛ لأنه لا يجد قائداً يقوده إلى المسجد، ويخشى من خطر الطريق، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل تسمع النداء؟" قال: نعم، قال: "فأجب، فإني لا أجد لك رخصة". وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الذين تتثاقل رؤوسهم عن صلاة الفجر بأنه رآهم ترضخ رؤوسهم بالحجارة كلما رضخت عادت كما كانت. ومن الناس مَن يؤخر الصلاة عن وقتها، فلا يصلّي الفجر إلا إذا استيقظ بعد طلوع الشمس، والله -تعالى- يقول في هؤلاء: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ) [مريم: 59 – 60]. ويقول تعالى فيهم: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)[ الماعون: 4 – 5]. وقد جاء تفسير إضاعة الصلاة والسهو عنها بأن معناهما: تأخيرها عن وقتها لا تركها بالكلية؛ لأن الله سمّاهم مصلّين في قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ). وتوعدهم بالويل والغي، وهما كلمة عذاب وهلاك، أو واديان في جهنم. فاتقوا الله -عباد الله-، وحافظوا على الصلاة في أوقاتها مع الجماعة، ولا تكونوا من الذين ضيّعوا دنياهم وأُخراهم، فكانوا من الخاسرين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) [القيامة: 26 – 35] إلى آخر السورة. الخطبة الثانية: الحمد لله على فضله وإحسانه، جعل الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، وكفّارة لذنوبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تمسك بسنّته إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وحافظوا على هذه الصلوات الخمس كما أمركم الله -تعالى- بقوله: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]. قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "مَن سرَّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهنّ، فإن الله قد شرع لنبيّكم سنن الهدى، وإنهنّ من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي المتخلّف في بيته، لتركتم سنّة نبيّكم، ولو تركتم سنّة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يُقام في الصف". وورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مَن حافظ على هذه الصلوات الخمس كنّ له نوراً ونجاة يوم القيامة، ومَن لم يحافظ عليهنّ لم يكن له نور ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأُبي بن خلف، تاجر الكفار بمكة. قال العلماء: والحكمة في كونه يحشر مع هؤلاء؛ لأنه إن اشتغل عن الصلاة بملكه ورئاسته حشر مع فرعون، رأس الملوك الكَفَرة، وإن اشتغل عن الصلاة بوظيفته ووزارته حشر مع هامان وزير فرعون، وإن اشتغل عن الصلاة بماله وملذاته وشهواته حشر مع قارون الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فكفر نعمة الله ولم يقبل النصيحة، فخسف الله به وبداره الأرض، وإن اشتغل عن الصلاة بتجارته وبيعه وشرائه حشر مع أُبيّ بن خلف تاجر الكفّار بمكة. فاتقوا الله -عباد الله-، وحافظوا على صلواتكم، وداوموا عليها، لتكونوا من الوارثين: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 11]. واعلموا أن خير الحديث كتاب الله … إلخ. الشيخ د. : صالح بن فوزان الفوزان
الجمعة 27 مُحرَّم 1441
في المسح على الخفين | الشيخ د.صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، وما جعل علينا في الدين من حرج، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتعلموا من أحكام دينكم ما تستقيم به عبادتكم وتزكوا به أعمالكم، فإن الجهل داء قاتل وشفاؤه بالتعلم و السؤال. يقول الله تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). ومن الناس من يعبد الله على جهل ويمنعه الحياء أو الكبر من السؤال، وقد قال بعض السلف: إن هذا العلم لا يناله مستح ولا مستكبر، ولما قيل لابن عباس رضي الله عنهما: بم نلت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول. هذا وإنني سأعرض مسألة يحتاج كل منكم لمعرفتها، ألا وهي المسح على الخفين وما حكمهما، لأنكم تعلمون أن الطهارة شرط من شروط صحة الصلاة. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)، فأمر تعالى بغسل الوجه واليدين والمسح على الرأس وغسل الرجلين، عندما يريد المسلم أن يصلي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" متفق عليه. ومن الوضوء غسل الرجلين إلى الكعبين لقوله تعالى: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وهذا إذا لم يلبس عليهما حائلاً من خفاف أو جوارب، فإن كان عليهما حائل فإنه يكفي عن غسلهما مسح ظاهر ذلك الحائل من خف أو جوارب، كما ثبت ذلك بالسنة الثابتة عند النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسح في الحضر والسفر لم ينسخ ذلك حتى توفي، ووقت للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن في عدة أحاديث حسان وصحاح، وكان يمسح ظاهر الخفين، ولم يصح عنه مسح أسفلهما. ومسح على الجوربين والنعلين في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين، ولم يلبس الخف ليمسح عليه. أيها المسلمون: يشترط لصحة المسح على الخفين أو الجواب أن يكونا ساترين للرجلين من الكعب فأسفل، فإن كان نازلاً عن الكعب أو كان شفافاً أو مخرقاً يرى من ورائه الجلد لم يجز المسح عليه، ويشترط أن يلبسهما على طهارة، ويشترط أن لا يخلع ما ابتدأ المسح عليه. فلو ابتدأ المسح على الخف ثم خلعه بطل وضوؤه ولو كان تحته جورب لأنه لم يبتدئ المسح على الجورب، وهذه مسألة مهمة فإن الكثير من الناس في هذا الزمن يلبسون خفافاً تحت الكعبين وتحتهما جوارب، ثم يخلعون الخفاف عند دخولهم المنازل على الجوارب لأنها هي الثابتة بشرط أن تكون سميكة خالية من الخروق والشقوق ضافية على الرجل بحيث تكون مغطية للكعبين وما تحتهما. من شروط صحة المسح على الخفين: أن يقع المسح في المدة المحددة، وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "للمسافر ثلاثة ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة" رواه أحمد ومسلم. وابتداء المدة من الحدث بعد اللبس، فإذا توضأ ثم لبس الخفين فإن مدة المسح عليها تبدأ من انتقاض ذلك الوضوء، ولو تأخر. وصفة المسح على الخفين أو الجوربين: أن يبل أصابع يديده بالماء ويضعهما مفرجة على أصابع رجليه، ثم يمرّها إلى ساقيه، اليمنى على اليمنى واليسرى على اليسرى. أيها المسلمون: وإذا وضع الإنسان ضماداً على جرح أو كسر في احد أعضاء الوضوء واحتاج إلى بقاء ذلك الضماد على الجرح أو موضع الألم فإنه يكفي عن غسل ما تحته أن يمسح عليه في الوضوء والغسل ويبقى إلى أن يستغني عنه ثم ينزعه، وهذا من لطف الله وتيسيره على هذه الأمة، حيث لم يكلفها حرجاً، ومن ذلك أنه شرع المسح على الخفين وعلى ما يشد على الجرح أو موضع الألم فإنه يكفي عن غسل ما تحته أن يمسح عليه في الوضوء والغسل ويبقى إلى أن يستغني عنه ثم ينزعه، وهذا من لطف الله وتيسيره على هذه الأمة، حيث لم يكلفها حرجاً، ومن ذلك أنه شرع المسح على الخفين وعلى ما يشد على الجرح وموضع الألم من الضمادات الضرورية لأن نزعها وغسل ما تحتها يشق أو يؤلم، لكن لا بد للمسلم من معرفة ضوابط ذلك وشروطه حتى يفعله على الوجه المشروع. فاتقوا الله -عباد الله- وتعلموا من أحكام دينكم ما تتمكنون به من أداء ما أوجب الله عليكم، خصوصاً أحكام الطهارة التي هي شرط من شروط الصلاة، وهي تتكرر عليكم في اليوم والليلة خمس مرات، فإن الطهور شطر الإيمان، والله تعالى: (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: من الآية222] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:6]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم… الشيخ د. : صالح بن فوزان الفوزان
الأربعاء 21 جمادى الآخرة 1440
ظاهرة التأخر في الحضور لصلاة الجمعة والجماعة | الشيخ د.صالح بن فوزان الفوزان
الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمين، أمر بالمسارعة إلى الخيرات، وحذَّر من إضاعة الأعمار والأوقات. وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وماله من الأسماء والصفات، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، حثَّ على المبادرةِ إلى حضورِ الجُمَعِ والجماعات، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان تنافُسُهم في الطاعاتِ، وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيُّها الناس: اتقوا الله، واستجيبوا لنداءِ ربكم، حيثُ يقول: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:21]. واعلموا: أنَّ الأوقات تمضي، والأعمارَ تنقضي، ومن خاف أدلجَ، ومن أدلج بلغَ المنزل، ألا إنَّ سلعةَ الله غالية، ألا إنَّ سلعةَ الله الجنة، لا تُدْرَكُ بالتمني، ولا بشرفِ النسب، ولا بعمل الآباء والأجداد، ولا بكثرةِ الأموال والأولاد، قال تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ:37]. ومَنْ بطَّأ به عملُه، لم يُسْرِعْ به نسبُه. فالجنةُ لمن آمن بالله وعَمِلَ صالحاً، ولو كان عبداً حبشيّاً، والنارُ لمَنْ كَفَرَ بالله، ولو كان شريفاً قرشياً. عبادَ الله: إنَّنا نَرَى الكثيرَ منَّا يتكاسلون عَنِ الأعمال الصالحة، وينشطون في طلب الدنيا، ويتوسَّعُون في إعطاء نفوسهم ما تشتهي. ولنضربْ لذلك مثلاً في علاقة كثير من الناس بالمساجدِ، وحضور الجمعة والجماعة، فنرى الكثيرَ يسكنون بجوار المساجد، ولا يدخلونَها، ولا يُعْرَفُون فيها، يُجاورون المساجد ببيوتهم، ويَبْعُدون عنها بقلوبهم، وذلك دليلٌ على ضعفِ الإِيمان في قلوبهم أو انعدامه؛ لأنَّ عمارةَ المساجد بالصلاة والعبادة، والتردُّدَ إليها من أجل ذلك علامةُ الإِيمان، قال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة:18]. وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتم الرجلَ يعتادُ المساجدَ، فاشهَدُوا له بالإيمان". وتلا هذه الآية. تَرَى هؤلاء يملؤون الأسواقَ، ويأكلون الأرزاق، ولا يتَّجهون إلى المساجد، ولا يشاركون المسلمين في إقامة شعائر الدين: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة:19]. حَرَمُوُا أنفسَهم أجرَ المشي إلى المساجد، وما فيه من الحسناتِ، وتكفير السيئات، وبَقِيَتْ أوزارُهم على ظهورِهم. والبعض الآخر من الناس -وهم كثير- يأتون إلى المساجد في فتورٍ وكسل، ويُمضون فيها قليلاً من الوقت على مَضَضٍ ومَلَلٍ؛ فالكثير منهم إذا سمع الإِقامة جاء مسرعاً ثائر النفس، ودخلَ في الصلاة، وهو مشوَّشُ الفكر، لم يراعِ أدبَ الدخول إلى المسجد، ولم يعملْ بسنةِ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حيثُ يقول: "إذا سمعتُم الإِقامة، فامْشُوا وعليكم السكينةُ، فما أدركتُم فصَلُّوا، وما فاتكم فأَتِمُّوا". وفاتَه أجرُ التقدم إلى المسجد، وانتظارِ الصلاة، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنَّ الذي يجلس ينتظر الصلاة في المسجد كالمرابطِ في سبيل الله، وأنه يُكْتَبُ له أجرٌ المصلي ما دام ينتظر الصلاة، وأنَّ الملائكة تستغفرُ له ما دام كذلك. لكن اليوم يؤذِّنُ المؤذنون، ويَمْضي وقتٌ طويل، والمسجد خالٍ، ليس فيه أحدٌ إلى أن تُقام الصلاة، فيأتون متكاسلين. عبادَ الله: إنَّ التأخُّرَ في الحضور إلى الصلاة كما أنه يفوِّتُ أجوراً كثيرة، فهو أيضاً يفتحُ بابَ التهاون بالصلاة، ويجرُّ في النهاية إلى ترك صلاة الجماعة، فقد رَوَى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى في أصحابه تأخُّراً، فقال لهم: "تقدّموا فأْتمُّوا بي، وليأْتَمَّ بكم مَنْ بعدكم، ولا يزالُ قومٌ يتأخَّرونَ حتى يؤخِّرَهُم الله". فدَلَّ هذا على خُطورةِ التأخُّرِ عن الحضور إلى الصلاة، وأنَّ المتأخِّرَ يُعاقَبُ بأنَّ الله يؤخِّرُه عن رحمتِهِ وعظيم فضله. ويكفي في التنفير عن التأخُّر أنَّ فيه تشبُّهاً بالمنافقين الذين قال الله فيهم: (وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى) [التوبة:54]. وقال فيهم: (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى) [النساء:142]. أعتقدُ أنَّ هؤلاء لو كان يفوتُهم بتأخِّيرِهم طمعٌ من مطامع الدنيا لجاؤوا مع أول الناس، ولَجلسوا في الانتظارِ الساعاتِ الطويلة دونَ مَلَلٍ، وما ذاك إلا لأنَّ الدنيا أحبُّ إليهم من الآخرة. لقد أصبحت المساجدُ اليومَ مهجورةً مغلقة غالبَ الوقت، لا تُفتحُ إلا بضعَ دقائق، وبقدرِ أداء الصلاة على عَجَلٍ. لقد أصبحت المساجدُ تشكو من قلةِ المرتادين لها، والجالسين فيها لذكر الله، لقد فقدت الرجالَ الذين يُسبِّحون الله فيها بالغدِّو والآصالِ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكْرِ الله وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة، يخافون يوماً تتقلَّبُ فيه القلوبُ والأبصار… فقدَتِ العاكفين والرُّكَّعَ السجودَ الذين يعمُرونَها آناءَ الليلِ وأناءَ النهار، فقد كانت المساجدُ فيما مَضَى بيوتاً للعبادة، ومدارسَ للعلم، وملتقى المسلمين ومنطلَقَهم، فيها يتعارفون ويتآلَفُون، ومنها يستمدُّون الزادَ الأخرويَّ، ونورَ الإِيمان، وقوةَ اليقين، بها تعلَّقَتْ قلوبُهم، وإليها تهوي أفئدتُهم، هي أحب إليهم من بيوتِهم وأموالهم، فلا يَمَلُّونَ الجلوسَ فيها، وإن طالت مدتُه، ولا يسأمون التردُّدَ عليها، وإن بَعُدَت مسافُته، يحتسبون خُطاهم إليها ويستثمرون وقتَهم فيها، فيتسابقون في التبكير إليها. أيها المسلمون: هذه حالةُ السَّلَف في المساجد، واليوم كما تعلَمُون كَثُرَ التأخُّرُ عن المساجد وقلَّ الجلوسُ فيها، ففاتَ بذلكم الخيرُ الكثير على الأمةِ، وضعفت منزلةُ المساجد في قلوبِ كثير من الناس، وقَلَّ تأثيرُها فيهم، فظَهَرَ الجفاءُ، وتناكرت القلوبُ، وتفكَّكت الروابطُ حتى صار الجارُ لا يعرف جاَرَه، ولا يدري عن حالِه. فاتقوا الله -عباد الله-، فأعيدوا للمساجدِ مكانَتها في قلوبكم، وبكِّروا في الذهاب إليها، وأكثروا من الجلوس فيها، واسمعوا ما جاءَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحثِّ على المشي إلى المساجد، والجلوس فيها، لعلَّكُم تذكَّرون. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صلاةُ الرجل معَ الجماعة تُضعَّفُ على صلاتِهِ ببيته وفي سوقِهِ خمساً وعشرين درجة، وذلك أنه إذا توضَّأَ فأحسنَ الوضوءَ ثم خرج إلى الصلاة لا يُخرجُه إلاّ الصلاةُ، لم يَخْطُ خطوةً إلا رُفِعَتْ له بها درجةٌ، وحُطَّ عنه بها خطيئةٌ، فإذا صَلَّى لم تَزَلِ الملائكةُ تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللُهم صلِّ عليه، اللهُمَّ ارحمْه، ولا يزالُ في صلاةٍ ما انتظرَ الصلاة"[رواه البخاري]. وروى مالك في الموطأ من قول أبي هريرة: "مَنْ توضّأ فأحسن الوضوء، ثمَّ خَرَجَ عامداً إلى الصلاة، فإنه في صلاة ما كانَ يعمِدُ إلى الصلاة، وأنه يُكتب له بإحدى خُطوتيه حسنةٌ، ويُمحى عنه بالأخرى سيئة، فإذا سمع أحدكم الإِقامةَ فلا يَسْع، فإنَّ أعظَمكُم أجراً أبعدُكُم داراً" قالوا: لِمَ يا أبا هُريرةَ؟ قال: "من أجلِ كَثرةِ الخُطَا". وعن أبي هُريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلَا أدلُّكُم على ما يَمْحو الله به الخطايا ويرفَعُ به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: "إسباغُ الوضوء على المكارِهِ، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعدَ الصلاة، فذلكم الرباطُ، فذلكم الرباطُ"[رواه مالك ومسلمٌ]. وعن بُريدةَ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَشِّرِ المشّائين في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التامِّ يومَ القيامة"[رواه أبو داود والترمذي]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحبُّ البلادِ إلى الله تعالى مساجدُها، وأبغضُ البلاد إلى الله أسواقُها"[رواه مسلم]. عبادَ الله: لقد عَظَّمَ الله شأنَ المساجد، وأثنى على الذين يعمُرونها بالطاعةِ، ووعدَهم جزيلَ الثواب. أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [النور:35]. وقال تعالى: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [البقرة:212]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، جعَلَ يومَ الجمعة عيدَ أهل الإِسلام، وأمرَ بالسعي إلى صلاة الجمعة عند النداءِ إليها ونَهَى عن الانشغالِ عنها بجمع الحطام. وأشهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، الملكُ القدُّوس السلام، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، حثَّ على التبكير في الحضور لصلاةِ الجُمعة، واهتم بذلك غايةَ الاهتمام، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه البَرَرة الكرام، وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيُّها الناسُ: اتقوا الله -تعالى- بفعلِ ما أمرَكُم به، وتَرْكِ ما نهاكم عنه، فإنَّ خيرَ الزادِ التقوى، يقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة:9]. سمَّى الله هذا اليومَ العظيم يوم الجمعة؛ لأنَّ أهلَ الإِسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع في المساجد الكبار لأداء الصلاة التي هي أعظمُ شعائر الدين بعدَ الشهادتين كما أنَّ هذا اليومَ قد اجتمع فيه من الخصائصِ ما لم يجتمعْ في غيره من أيَّام الأسبوع. ففيه كَمُلَ خلقُ السماوات والأرض، وفيه خُلِقَ آدم، وفيه أُدْخِلَ الجنةُ، وفيه أُخْرِجَ منها، وفيه تقومُ الساعةُ، وفيه ساعةُ الإِجابة، وهي ساعةٌ لا يوافقُها عبدٌ مؤمن يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إيَّاهُ. وقد اختارَ الله هذا اليوم العظيم لهذه الأمة، وأضَلَّ عنه مَنْ كان قبلَها من الأمم، فاختارَت اليهودُ يومَ السبت، واختارت النصارى يومَ الأحد، واختارَ الله لهذه الأمة يومَ الجمعة الذي أكملَ الله فيه الخليقةَ. وقد أمرَ الله المؤمنين فيه بالاجتماع لعبادته بأداءِ صلاةِ الجمعة، وحثَّهم على المبادرةِ بالحضور إليها، والتفرغ لها من جميع أعمال الدنيا، وقد حَثَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على التكبيرِ في الحضور والانتظار في المساجد، حتى تُقامَ صلاة الجمعة، وحَثَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على التكبيرِ في الحضور، والانتظار في المساجد، حتى تُقامَ صلاة الجمعة، وحَثَّ على أن يكونَ الإِنسانُ أحسن هيئة، وفي أجملِ لباس، وأطيبِ رائحة، وحَثَّ على التنظُّفِ والاغتسال قبلَ الحضور. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اغتسلَ يومَ الجُمعةِ غُسْلَ الجنابة، ثم راحَ في الساعة الأولى، فكأنَّما قَرَّبَ بدنةً، ومَنْ راح في الساعةِ الثانية، فكأنَّما قَرَّبَ بقرةً، ومَنْ راحَ في الساعة الثالثة فكأنَّما قَرَّبَ كَبْشاً أقرنَ، ومَنْ راح في الساعةِ الرابعة فكأنَّما قَرَّبَ دجاجةً، ومَنْ راحَ في الساعة الخامسة فكأنَّما قَرَّب بيضةً، فإذا خَرَجَ الإِمام حضرت الملائكةُ يستمعون الذكر"[أخرجه الشيخانِ]. فدلَّ هذا الحديث على طلب التبكيرِ في الحضور لصلاة الجمعة، وانتظارها في المسجد حتى تُقامَ، وأن يُشْغِلَ وقتَه حالَ الانتظار بصلاةِ النافلة والذكرِ وتلاوة القرآن. ودَلَّ الحديثُ على أنَّ الأجر يتفاوتُ بتفاوُتِ الحضور، وأنَّه كُلَّما بكَّرَ زادَ الأجرُ، وكُلَّما تأخَّرَ نَقَصَ الأجرُ. والظاهرُ: أنَّ الساعةَ الأولى تبدأً بعدَ طلوعِ الشمس، فمطلوبٌ من المسلم أن يتوجَّهَ إلى صلاة الجمعة من بعدِ طلوع الشمس، ليحصُلَ على هذه الفضيلة. وكانَ المسلمون إلى عهدٍ قريب يُبكرون في الحضور لصلاة الجمعة، ويملؤون المساجدَ بوقت مبكر، وأَمَّا اليوم فقَلَّ مَنْ يعملُ بذلك. فالكثير لا يحضُرُ إلا عند الخطبة أو عند الإِقامة، أو في آخر الصلاة، فيُحْرِمُون أنفسَهم من أجرِ التبكير ومِنْ سماع الخطبة، بل ربَّما لا يتمكنون من إدراكِ الصلاة، وهذا حرمانٌ عظيم، ونقصٌ كبير، يجلسُ أحدُهم في بيته، وهو بجوارِ المسجد ولا يقومُ إلى الصلاةِ إلا عندما يدخُلُ الإِمام يخشى أن يُمضيَ شيئاً من الوقت في المساجد قبلَ حضورِ الإمام، وهو لا يأنَسُ بجلوسهِ في المسجد، بل يعتبرُ ذلك حبساً؛ لأنه يدري عمَّا فيه من الفضلِ، بل يَظُنُّ أنَّ المطلوبَ هو أداءُ الصلاة فقط، فلذلك لا يأتي إلا عند الإِقامة، ولا يدري أنَّهُ مطلوبٌ منه التبكيرُ والانتظارُ، وأنَّ صرفَ الوقتِ في ذلك من أفضلِ الأعمال، ولا يدري أنَّه مطلوبٌ منه سماعُ الخطبة والتذكير، ولا يدري أنَّ الخطبةَ هي الذكر، أو هي من الذكر الذي أمرَ الله بالسعي إليه في قوله: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة:9]. وذلك؛ لأنَّ الله شَرَعَ الخطبةَ لتعليم الناس ما يجهَلُون، وتحذيرِهم مما يضرُّهم وتنبيههم وإرشادِهم، فالخطبةُ درسُ الأسبوع وموعظةُ المسلمين، وكلُّهم بحاجة إلى استماعها والانتفاع بها. فاتقوا الله -عبادَ الله-، واهْتَمُّوا بالحضورِ لصلاة الجمعة مبكِّرين: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:19]. وقد عاتب الله -سبحانه- مَنِ انصرفَ عن سماعِ الخطبة إلى طلبِ الدنيا، فقال سبحانه: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) [الجمعة:11]. وقد أخبرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الذي لا ينصُتُ لسماعِ الخطبة يكونُ كالحمارِ يحملُ أسفاراً، فعن ابنِ عباس -رضي الله عنهما- قالَ: قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تكلَّمَ يومَ الجمعة والإِمامُ يخطُبُ، فهو كمثلِ الحمارِ يحملُ أسفاراً"[رواه أحمد وغيره]. وذلك؛ لأنَّه تكلَّفَ الحضورَ، ولم يستفدْ منه، فهو كالحمارِ الذي يتكلَّفُ حَمْلَ الكتبِ الكبيرة، وهو لا يستفيدُ منها. فاتَّقوا الله –عبادَ الله-، واعلَمُوا أنَّ خيرَ الحديث… إلخ. الشيخ د. : صالح بن فوزان الفوزان
الاثنين 12 جمادى الآخرة 1440
في صلاة الكسوف | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله واشكروه على ما سخر لكم من مخلوقاته، فلقد سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَـارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَلْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَلنَّهَارَ * وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم:32-34]. سخر لكم الشمس والقمر دائبين؛ لتعلموا بمنازل القمر عدد السنين والحساب، ولتتنوع الثمار بمنازل الشمس بحسب الفصول والأزمان. سخرهما يسيران بنظام بديع وسير سريع (لشَّمْسُ وَلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن:5]، لا يختلفان علوا ولا نزولا ولا ينحرفان يمينا ولا شمالا، ولا يتغيران تقدما ولا تأخرا عما قدر الله تعالى لهما في ذلك (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل:88]. فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال علمه وقدرته وبالغ حكمته وواسع رحمته آيتان من آياته في عظمهما آيتاه من آياته في نورهما وإضاءتهما (وَلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَلْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَلعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:38-40]. لقد أرجف الماديون بصانعي الأقمار الصناعية، وعظموهم وأنزلوهم المنزلة العالية مع حقارة ما صنعوا وخلله وتلفه، وغفلوا عن تعظيم من خلق صانعي هذه الأقمار وعلمهم كيف يصنعونها وخلق لهم موادها ويسرها لهم. غفلوا عن تعظيم من خلق الشمس والقمر دائبين آناء الليل والنهار، وأعرضوا عن التفكر فيما فيهما من القدرة العظيمة والحكمة البالغة لذوي العقول والأبصار. إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله مخلوقان من مخلوقات الله ينجليان بأمره وينكسفان بأمره، فإذا أراد الله تعالى أن يخوف عباده من عاقبة معاصيهم ومخالفاتهم؛ كسفهما -باختفاء ضوئهما كله أو بعضه-؛ إنذارا للعباد، وتذكيرا لهم؛ لعلهم يحدثون توبة، فيقومون بما يجب في هذا العصر. لا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعا؛ وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، فلقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة، وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم.. أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة (فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ) [الذاريات:60]. أيها الناس: إن كثيراً من أهل هذا العصر تهاونوا بأمر الكسوف؛ فلم يقيموا له وزناً، ولم يحرك منهم ساكناً؛ وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وجهلهم بما جاء عن رسول الله واعتمادهم على ما علم من أسباب الكسوف الطبيعية وغفلتهم عن الأسباب الشرعية والحكمة البالغة التي من أجلها يحدث الله الكسوف بأسبابه الطبيعية. فالكسوف له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون وينكرها الكافرون ويتهاون بها ضعيفو الإيمان؛ فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله من الفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق. لقد كسفت الشمس في عهد النبي مرة واحدة في آخر حياته في السنة العاشرة من الهجرة حين مات ابنه إبراهيم بعد أن ارتفعت بمقدار رمحين أو ثلاثة من الأفق وذلك في يوم شديد الحر فقام النبي فزعاً إلى المسجد وأمر منادياً ينادي الصلاة جامعة فاجتمع الناس في المسجد رجالاً ونساءً فقام فيهم النبي وصفوا خلفه: "فكبر وقرأ الفاتحة وسورة طويلة بقدر سورة البقرة يجهر بقراءته ثم ركع ركوعاً طويلاً جداً ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنها أقصر من الأولى ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الأول ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد وقام قياماً طويلاً نحو ركوعه ثم سجد سجوداً طويلاً جداً نحواً من ركوعه ثم رفع وجلس جلوساً طويلاً ثم سجد سجوداً طويلاً ثم قام إلى الركعة الثانية فصنع مثل ما صنع لكنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام ثم تشهد وسلم وقد انجلت الشمس". ثم خطب خطبة عظيمة بليغة فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فينظر من يحدث منهم توبة، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره". وفي رواية: "فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا حتى يفرج الله عنكم"، وفي رواية: "حتى ينجلي"، وقال: "يا أمة محمد: والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وأيم الله يعني، لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لا قوه من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار رأيت الناس يحطم بعضها بعضاً فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه، -يعني أمعاءه-، ورأيت فيها امرأة تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشائش الأرض، ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقل: من صالحاً فقد علمنا إن كنت لموقنا. وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته". ثم ذكر الدجال وقال: "لن تروا ذلك حتى تروا أمورا يتفاقم شأنها في أنفسكم وتساءلوا بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا حتى تزول جبال عن مراتبها". أيها المسلمون: إن فزع النبي للكسوف وصلاته هذه الصلاة وعرض الجنة والنار عليه فيها ورؤيته لكل ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة ورؤيته الأمة تفتن في قبورها وخطبته هذه الخطبة البليغة وأمره أمته إذا رأوا كسوف الشمس أو القمر أن يفزعوا إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والتكبير والصدقة بل أمر بالعتق أيضا. إن كل هذه لتدل على عظم الكسوف وأن صلاة الكسوف مؤكدة جدا حتى قال بعض العلماء أنها واجبة وأن من لم يصلها فهو آثم. فصلوا -أيها المسلمون- رجالاً ونساءً عند كسوف الشمس أو القمر كما صلى نبيكم ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان بقراءة جهرية. ومن فاتته الصلاة مع الجماعة فليقضها على صفتها ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول فقد أدرك الركعة، ومن فاته الركوع الأول فقد فاته الركعة، لأن الركوع الثاني لا تدرك به الركعة. وفقني الله وإياكم لتعظيمه والخوف منه ورزقنا الاعتبار بآياته والانتفاع بها إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم… الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
الخميس 24 جمادى الأول 1440
فضل الصلاة وكفر تاركها | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الخطبة الأولى: الحمد لله الذي فرض الفرائض على عباده من غير فقر إليهم، ولا احتياج، وأعطى القائمين بها أكمل الأجر وأفضل الثواب، وعاقب المعرضين عنها والمفرطين فيها بما يستحقونه من العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له من غير شك ولا ارتياب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعباد، أتم الله به النعمة على المؤمنين، وأصلح به أحوال الدنيا والدين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا أن الله -تعالى- رضي لكم دينا، لم يرض لكم دينا سواه، رضي لكم الإسلام: ومن يتبع غير الإسلام: (فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران:85]. رضي لكم الإسلام، وهو: الاستسلام لله -تعالى-، والانقياد له ظاهرا وباطنا، في العقيدة والقول والعمل، ليس الإسلام عقيدة فحسب، ولكن الإسلام عقيدة، وقول، وعمل. إن الإسلام كما لا يكون بالعمل وحده لا يكون كذلك بالعقيدة وحدها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام"[البخاري (8) مسلم (16) الترمذي (2609) النسائي (5001) أحمد (2/93)]. يقول: (بني الإسلام) ومعنى ذلك: أن هذه الأصول هي دعائم الإسلام التي لا يمكن أن يقوم إلا بها، كما لا يقوم البناء إلا بأساسه. أيها الناس: من هذا الحديث يتبين لنا أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، بل هي ركنه الأعظم بعد الشهادتين شهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. ولقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أنها عمود الدين حيث قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"[الترمذي (2616) ابن ماجة (3973) أحمد (5/231)]. هذه الصلاة التي فرضها الله على رسوله، وعلى أمته: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا)[النساء:103]. (كِتَابًا) أي: فريضة موقوتا. (مَّوْقُوتًا) بوقت لكل صلاة وقتها التي لا تصح إلا فيه إلا أن يكون، ثم عذر الصلاة التي فرضها الله على رسوله مباشرة بدون واسطة فرضها عليه في أعلى مكان يصل إليه بشر، وفي أفضل وقت مر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرضها عليه ليلة المعراج، وهو فوق السموات السبع، وفرضها أول ما فرضها على النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسين صلاة في كل يوم وليلة. وهذا دليل واضح على محبة الله لها، وعنايته بها، وأنها جديرة بأن يستوعب المسلم فيها جزءا كبيرا من وقته؛ لأنها الصلة بينه وبين ربه وخالقه، يجد فيها راحة نفسه، وطمأنينة قلبه، ولذلك كانت قرة عين الرسول -صلى الله عليه وسلم- فرضها الله على عباده خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ولكنه تبارك وتعالى خفف عنهم، فكانت خمسا بالفعل وخمسين في الميزان، ففي هذه الخمس مصالح الخمسين وثواب الخمسين. أفلا تشكرون -أيها المسلمون- ربكم على هذه النعمة الكبيرة التي أولاكم بها، وتقومون بواجبها، فتؤدونها في أوقاتها بأركانها وواجباتها وشروطها، ثم تكملونها بمكملاتها؟ أيها المسلمون: إن الصلاة صلة بينكم وبين ربكم، فالمصلي إذا قام في صلاته، استقبله الله بوجهه، فإذا قرأ: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قرأ: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)[الفاتحة:3] قـال الله: أثنى علي عبـدي، فإذا قرأ: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة: 4] قال الله: مجدني عبدي، وإذا قرأ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قرأ: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)[الفاتحة: 6] الخ… قال الله -تعالى-: "هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل". أفتجد -أيها المسلم- صلة أقوى من تلك الصلة؟ يجيبك ربك على قراءتك آية آية وهو فوق عرشه، وأنت في أرضه؛ عناية بصلاتك، وتحقيقا لصلاتك. ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا صلاها على الوجه الذي أمر به؛ لأنه اصطبغ بتلك الصلة التي حصلت له مع ربه، فقوي إيمانه، واستنار قلبه، وتهذبت أخلاقه. أيها المسلمون: إن من حافظ على الصلوات، وأداها على الوجه المشروع كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة. ولقد شبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الصلوات الخمس بنهر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم وليلة خمس مرات، فهل يبقى بعد هذا الاغتسال من وسخه شيء؟ كلا، فهذه الصلوات الخمس تغسل الذنوب عن المصلي غسلا، فيكون نقيا بها من الذنوب، فهي كفارة لما بينهن من الذنوب ما اجتنبت الكبائر. أيها المسلمون: إن ما ذكرناه من هذه الفضائل للصلوات الخمس ليس على سبيل الاستيعاب، ولكنه قليل من كثير. ومن عجب أن يجهل قوم من المسلمين قدر هذه الصلوات، أو يتجاهلوه، ويتغافلوا عنه حتى كانت الصلاة في أعينهم من أزهد الأعمال، وأقلها قدرا، وصاروا لا يقيمون لها وزنا في حساب أعمالهم، ولا يبذلون لها وقتا من ساعات أعمارهم، لا، بل ربما يسخر بعض منهم بها، فيتخذونها سخربة وهزوا ولعبا، ويسخر ممن يصليها -نسأل الله السلامة-. فأي دين -يا عباد الله- لهذا؟ أي دين -يا عباد الله- لشخص يدع هذا العمل يدع الصلاة مع يسر عملها، وقلة ما تشغل من وقت، وكثرة ثوابها، وعظم مصالحها ومنافعها على القلب والبدن، والفرد والجماعة، والقول والعمل؟ فهي عون للمرء على عمله؛ كما قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)[البقرة: 45]. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أهمه أمر قام إلى الصلاة. أي دين لشخص يدع الصلاة، وهي التي جاء الوعيد في كتاب الله -تعالى-، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على من تهاون بها، أو تغافل عنها؟ قال الله -تعالى-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)[مريم: 59 – 60]. وهذه الآية ظاهرة في أن من أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، فليس بمؤمن؛ لأن الله -تعالى-قال: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ)[مريم: 60]. وقال سبحانه: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)[الماعون: 4 – 5]. وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من لم يحافظ على هذه الصلوات، فليس له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، ويحشر مع أئمة الكفر فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف. فأي دين لشخص يدع الصلاة، وهو يؤمن بهذا الوعيد على مضيعها، والغافل عنها. قد يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ وردنا على هذا أن نقول: قولك هذا لا يكفيك عند الله، حتى تستسلم، وتنقاد لشريعة الله -تعالى-، فإن الإيمان ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال. ونقول له: المنافقون يقولون: "لا إله إلا الله": (وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء: 142]. والمنافقون يقولون للرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا جاءوا إليه: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ)[المنافقون: 1]. والمنافقون يصلون: (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى)[النساء: 142]. أفترى أنهم كانوا مسلمين وناجين من النار؟ لا، استمع قول الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)[النساء: 140]. (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)[النساء: 145]. وإذا أراد أن يجادل، ويلبس، فإن لدينا نصا صريحا في كفر تارك الصلاة، فقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة"[مسلم (82) الترمذي (2620) أبو داود (4678) ابن ماجة (1078) أحمد (3/370) الدارمي (1233)]. وقال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها، فقد كفر"[الترمذي (2621) النسائي (463) ابن ماجة (1079) أحمد (5/346)]. وقال عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة". وهذا الكفر الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- ورآه الصحابة -رضي الله عنهم- ليس كفر نعمة كما قال بعضهم، ولا أنه خصلة من خصال الكفر كما قاله آخرون، ولكنه الكفر الأكبر المخرج عن دين الإسلام؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الكفر". قال شيخ الإسلام ابن تيمية وفرق بين: "الكفر" المعرف ب"اللام" يعني الدال على الكفر المطلق وبين: "كفر" المنكر في الإثبات. ولنا دليل مركب من دليلين على أن تارك الصلاة كافر كفرا أكبر مخرجا عن الملة، هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن منازعة ولاة الأمور أمرهم، قال: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان"["البخاري (6647)]. وقال صلى الله عليه وسلم: "شرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم" قالوا: يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة"[مسلم (1855) أحمد (6/24) الدارمي (2797)]. ومن هذين الدليلين: نأخذ أن ترك الصلاة يبيح منابذة الأئمة، فيكون كفرا بواحا. فترك الصلاة ردة عن الإسلام، وكفر بالله والردة عن الإسلام لها أحكام في الدنيا، وأحكام في الآخرة. أما أحكام الدنيا، فإن المرتد ينفسخ نكاحه من زوجته، وتحل لغيره، ويكون استمتاعه بها استمتاعا بامرأة أجنبية منه وأولاده منها بعد ردته ليسوا أولادا شرعيين، ويجب قتله إذا استمر على ردته، ولا يغسل؛ لأنه لا يطهره الماء، وهو كافر، ولا يصلى عليه، ولا يستغفر له، ولا يدعى له بالرحمة، ولا يدفن مع المسلمين، ويكون ماله في بيت مال المسلمين لا يرثه أقاربه. وأما أحكام الآخرة، فإنه يحرمك دخول الجنة، ويدخل النار خالدا فيها أبدا. فاتقوا الله -عباد الله- وحافظوا على صلواتكم، فماذا يبقى من دينكم إذا ضيعتموها، فإن آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة. قال الإمام أحمد: "كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء". اللهم اجعلنا مقيمي الصلاة، ومن علينا بالتوفيق لما تحب، وترضى يا جزيل الهبات، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم. الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
الخميس 24 جمادى الأول 1440
صفة الصلاة | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الخطبة الأولى: الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وأقيموا الصلاة، فإن الصلاة عمود دينكم، ولن يقوم البنيان بدون عموده، و"لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". أقيموا الصلاة: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا)[النساء:103]. أقيموا الصلاة كما أمرتم، صلوا كما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أسبغوا الوضوء، واستقبلوا القبلة، قوموا لله مخلصين، فاستقبلوا وجهه بقلوبكم، وبيته بأبدانكم. واعلموا أن الله قبل وجه المصلي، اطمئنوا في صلاتكم، لا تصلوها وأنتم عجالى، فلا صلاة بدون طمأنينة؛ دخل رجل المسجد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، فصلى صلاة لا يطمئن فيها، ثم جاء، فسلم على النبي، فرد عليه السلام، وقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" فرجع، فصلى كصلاته الأولى، ثم جاء، فسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" ثلاثا ردده النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثلاثا لعله يقيم صلاته، ولأجل أن يزداد شغفه بتعليم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قمت للصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تطمئن قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"[البخاري (5897) مسلم (397) الترمذي (303) النسائي (884) أبو داود (856) ابن ماجة (1060) أحمد (2/437)]. أيها المسلمون: إن من صلى بدون طمأنينة فلا صلاة له، وإن صلى مئة مرة؛ كما قال رسول -صلى الله عليه وسلم- لهذا الرجل: "ارجع فصل فإنك لم تصل"[البخاري (724) مسلم (397) الترمذي (303) النسائي (884) أبو داود (856) ابن ماجة (1060) أحمد (2/437)]. اقرأوا الفاتحة في كل ركعة، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، واقرأوا معها في الفجر سورة من طول المفصل وفي المغرب من قصاره أحيانا ومن طواله أيضا، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ربما قرأ في المغرب بسورة طويلة قرأ مرة بالأعراف، ومرة بالصافات، ومرة بحم الدخان، ومرة بسورة محمد، ومرة بالمرسلات. واقرأوا في الظهر والعصر والعشاء الآخرة من أوساط المفصل. طوال المفصل من ق إلى عم وأوساطه من عم إلى الضحى، وقصاره من الضحى إلى آخر القرآن. ارفعوا أيديكم عند تكبيرة الإحرام إلى المناكب أو إلى الأذنين، ثم ضعوا اليمنى على مفصل كف اليسرى بعد التكبير على صدوركم، وانظروا موضع سجودكم، ولا تلتفتوا في الصلاة، ولا ترفعوا أبصاركم إلى السماء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء، أو لا ترجع إليهم"[مسلم (428) أبو داود (912) ابن ماجة (1045) أحمد (5/108)]. استفتحوا الصلاة بعد ذلك، فقولوا: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد. أو قولوا: سبحانك اللهم وبحمدك".. إلى آخره. تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم، ثم اقرأوا الفاتحة والسورة، ثم اركعوا مكبرين، وارفعوا أيديكم عند الركوع وضعوها على ركبكم مفرقة الأصابع، وجافوها عن جنوبكم، واعتدلوا في ركوعكم، فسووا ظهوركم، وساووها مع رؤوسكم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يسوي ظهره ورأسه، لا ينزل رأسه، ولا يرفعه، وعظموا ربكم في ركوعكم، فقولوا: سبحان ربي العظيم، وكرروا ذلك. وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في ركوعه وسجوده من قوله: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي". ارفعوا من الركوع، قائلين: "سمع الله لمن حمده" ورافعين أيديكم إلى المناكب أو إلى الأذنين. وبعد القيام قولوا: "اللهم ربنا لك ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". والمأموم لا يقول: "سمع الله لمن حمده"؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد". ثم اسجدوا مكبرين، ولا ترفعوا أيديكم عند السجود، اسجدوا على الأعضاء السبعة الجبهة مع الأنف واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ضعوا أيديكم حال السجود على الأرض وأصابعها نحو القبلة مضموما بعضها إلى بعض محاذية لمكان الجبهة والأنف، أو محاذية للمنكب. اعتدلوا في سجودكم، فارفعوا البطون عن الفخذين والفخذين عن الساقين، ونحوا اليدين عن الجنبين، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينحيها حتى يرى بياض إبطه، إلا إذا كان الإنسان مأموما، فإنه لا ينحيها إذا كان يؤذي من بجنبه، وارفعوا الذراعين عن الأرض، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بسطها على الأرض، وقولوا: "سبحان ربي الأعلى" وكرروها. وقولوا: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي". ولا تسجدوا على لباس عليكم من ثوب، أو مشلح، أو غترة، إلا لحاجة كشدة حرارة الأرض، وخشونتها أو نحو ذلك. ثم ارفعوا من السجود مكبرين، واجلسوا على قدم الرجل اليسرى، وانصبوا قدم الرجل اليمنى، وضعوا اليد اليمنى على فخذ الرجل اليمنى، أو على ركبتها، وضموا منها الخنصر والبنصر، وحلقوا إبهامها مع الوسطى، وحركوا السبابة عند الدعاء. وضعوا اليد اليسرى على فخد الرجل اليسرى، أو ركبتها مضمومة أصابعها إلى بعض، وقولوا: "ربي اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني، وعافني". ثم اسجدوا السجدة الثانية مكبرين، واصنعوا كما صنعتم في السجدة الأولى قولا وفعلا. ثم صلوا الركعة الثانية بدون استفتاح، ولا تعوذ كالركعة الأولى، ثم اجلسوا للتشهد، واصنعوا في جلوسكم كما فعلتم في الجلوس بين السجدتين، وقولوا: "التحيات لله والصلوات.." الخ. فإن كانت الصلاة ركعتين، فأكملوا التشهد، وسلموا على اليمين: السلام عليكم ورحمة الله، وإن زدتم: "وبركاته" فلا بأس. وسلموا على اليسار: "السلام عليكم ورحمة الله". وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين، فقوموا بعد التشهد الأول مكبرين، وارفعوا أيديكم عند القيام، وصلوا ما بقي من صلاتكم على صفة ما سبق في الركعة الثانية، إلا أنكم تقتصرون على الفاتحة، وتجلسون للتشهد الأخير متوركين بأن تنصبوا قدم الرجل اليمنى، وتخرجوا الرجل اليسرى من تحت ساقها، وتستقروا على الأرض. أيها المسلمون: هذه صفة الصلاة، فأقيموها، وأتقنوها لعلكم تفلحون، فقد قال الله -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)[المؤمنون: 1] إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[المؤمنون: 10 – 11]. بارك الله لي ولكم … الخ … الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
الخميس 24 جمادى الأول 1440
زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الحمد لله الذي من علينا بشريعة الإسلام وشرع لنا من العبادات ما تحصل به القربى إليه وعلوم المقام ونحمده أنْ منَّ علينا بتيسير الصيام والقيام وأثاب من فعلهما إيماناً واحتساباً بمغفرة الذنوب والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من تعبد لله وصلى وصام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على الحق واستقام وسلم تسليماً. أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم وحاسبوا أنفسكم ماذا عملتم في شهركم الكريم فإنه ضيف قارب الزوال وأوشك على الرحيل عنكم والانتقال وسيكون شاهداً لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال فابتدروا رحمكم الله ما بقي منه بالتوبة والاستغفار والاستكثار من صالح الأقوال والأفعال والابتهال إلى ذي العظمة والجلال لعل ذلك يجبر ما حصل من التفريط والإهمال. لقد كانت أيام هذه الشهر معمورة بالصيام والذكر والقرآن ولياليه منيرة بالصلاة والقيام وأحوال المتقين فيه على ما ينبغي ويرام فمضت تلك الأيام الغرر وانتهت هذه الليالي الدرر كأنما هي ساعة من نهار فنسأل الله أن يخلف علينا ما مضى منها بالبركة فيما بقى وأن يختم لنا شهرنا بالرحمة و المغفرة والعتق من النار والفوز بدار السلام وأن يعيد أمثاله علينا ونحن نتمتع بنعمة الدين والدنيا والأمن والرخاء إنه جواد كريم. عباد الله إن ربكم الكريم شرع لكم في ختام هذا الشهر عبادات جليلة يزداد بها إيمانكم وتكمل بها عباداتكم وتتم بها نعمة ربكم. شرع الله لنا زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد. أما زكاة الفطر فقد فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام ففي صحيح البخاري عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. وفي صحيح البخاري أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعاً من طعام وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر. وقال ابن عباس رضي الله عنهما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو الرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. فأخرجوا أيها المسلمون زكاة الفطر مخلصين لله ممتثلين لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع المسلمين صغيرهم وكبيرهم حتى من في المهد أما الحمل في البطن فلا يجب الإخراج عنها إلا تطوعاً إلا أن يولد قبل ليلة العيد فيجب الإخراج عنه. أخرجوها صاعاً عن كل شخص مما تطعمون من البر أو الأرز أو التمر أو غيرها من طعام الآدميين، أخرجوها طيبة بها نفوسكم واختاروا الأطيب والأنفع فإنها صاع واحد في الحول مرة فلا تبخلوا على أنفسكم بما تستطيعون. أخرجوها مما فرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام ولا تخرجوها من الدراهم ولا من الكسوة فمن أخرجها من ذلك لم تقبل منه ولو أخرج عن الصاع ألف درهم أو ألف ثوب لم يقبل لأنه خلاف ما فرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد. ادفعوها إلى الفقراء خاصة. والأقارب المحتاجون أولى من غيرهم. ولا بأس أن تعطوا الفقير الواحد فطرتين أو أكثر. ولا بأس أن توزعوا الفطرة الواحدة على فقيرين أو أكثر. ولا بأس أن يجمع أهل البيت فطرتهم في إناء واحد بعد كيلها ويوزعوا منها بعد ذلك بدون كيل. وإذا أخذ الفقير فطرة من غيره وأراد أن يدفعها عن نفسه أو عن أحد من عائلته فلا بأس لكن لا بد أن يكيلها خوفاً من أن تكون ناقصة إلا أن يخبره دافعها بأنها كاملة فلا بأس أن يدفعها بدون كيل إذا كان يثق بقوله. أيها المسلمون أخرجوا زكاة الفطر يوم العيد قبل الصلاة إن تيسر لكم فإنه أفضل ولا بأس أن تخرجوها قبل العيد بيوم أو بيومين ولا يجوز تقديمها على ذلك ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد إلا من عذر مثل أن يأتي خبر ثبوت العيد فجأة ولا يتمكن من إخراجها قبل الصلاة. ومن دفع زكاة الفطر إلى وكيل الفقير في وقتها برئت ذمته ومن دفعها إلى وكيله هو ليدفعها للفقير لم تبرأ ذمته حتى يدفعها وكيله في وقتها إلى الفقير أو وكيله، والأفضل إخراج الفطرة في المكان الذي أنتم فيه في وقتها سواء كان بلدكم أو غيره من بلاد المسلمين لاسيما إذ كان مكاناً فاضلاً كمكة والمدينة ولا بأس أن توكلوا من يخرجها عنكم في بلدكم إذا سافرتم إلى غيره. هذه زكاة الفطر. أما التكبير فقد شرع الله لنا التكبير عند إكمال العدة فقال تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185]. فكبروا الله من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد كبروا الله في المساجد والبيوت والأسواق الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد اجهروا بذلك تعظيماً لله وإظهاراً للشعائر إلا النساء فيكبرن سراً. وأما صلاة العيد فقد أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء حتى العواتق وذوات الخدور اللاتي ليس لهن عادة بالخروج وحتى الحُيّض يشهدن دعاء الخير ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى فلا يجلسن في مصلى العيد لأن مصلى العيد مسجد يثبت له جميع أحكام المساجد. وفي الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها قالت "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحُيّض وذوات الخدور فأما الحُيّض فيعتزلن الصلاة" وفي لفظ "المصلى" ويشهدن الخير ودعوة المسلمين فقلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال لِتُلْبِسها أختها من جلبابها" فاخرجوا أيها المسلمون إلى صلاة العيد رجالاً ونساءً وصغاراً وكباراً تعبداً لله عز وجل وامتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتغاء للخير ودعوة المسلمين فكم في ذلك المصلى من خيرات تنزل وجوائز من الرب الكريم تحصل ودعوات طيبات تقبل. وليخرج الرجال متنظفين متطيبين لابسين أحسن ثيابهم غير أنه لا يجوز لهم لبس الحرير ولا شيء من الذهب فإنهما حرام على الذكور. وليخرج النساء محتشمات غير متطيبات ولا متبرجات بزينة. والسنة أن يأكل قبل الخروج إلى صلاة العيد تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر إن أحب يقطعهن على وتر قال أنس بن مالك رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً وقد قال الله عز وجل: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)[الأحزاب:21]. وأما الخروج بالتمر إلى مصلى العيد وأكله هناك بعد طلوع الشمس فإنه من البدع وكل بدعة ضلالة. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
الخميس 24 جمادى الأول 1440
فضل صلاة الجماعة | الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين. أمَّا بعد: فيا أيُّها الناس: اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى. عباد الله: إن من نعمة الله علينا أن شرفنا بهذا الدين، ومنَّ علينا به، وجعلنا من: (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110]، فلا بد أن نقبل هذا الدين ونرضى به، ونحمد الله على هذه النعمة: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33]، فاعتزاز المسلمين بدينهم وإعلامهم لدينهم نعمة من الله عليهم، ومن أعظم الإعلام بهذا الدين إبلاغ شعائره وإعلانها، ولاسيما عمارة المساجد، فإن عمارة المساجد بالصلوات من أعظم إظهار شعائر الدين، فالمسلمون يظهرونها هذه الشعيرة، ويعلونها فيعمرون مساجد الله عمارة حسية وعمارة معنوية يؤدون فيها الصلوات الخمس جماعة، ويدعون إلى ذلك، ويرغبون إخوانهم فيه، ويهيئون كل الأسباب للمحافظة على الصلاة جماعة. أمة الإسلام: لقد أجمعت الأمة المسلمة على أن أداء الصلاة جماعةً في المساجد، من أفضل القُرَب وأفضل الطاعات، بل هي من أعظم شعائر الدين بعد التوحيد، ولصلاة الجماعة فضائل عظيمة ومزايا كبيرة. فمن فضائل أداء الصلاة جماعة: أن من صلى الصلوات جماعة كان له فضل على من لم يصلها جماعة بسبعٍ وعشرين درجة، يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة في الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة» أي: معنى أن من أدى الصلاة جماعة فاق على من صلاها وحده بسبع وعشرين درجة. وفي حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الْمسجدِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ كتب الله له بها حسنة، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّى عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اغفر له، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلاَ يَزَالُ فِي صَلاَة مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ» إنه لفضل عظيم وشرف كبير، فكيف يرضى المسلم لنفسه أن يفوته هذا الثواب العظيم، ويحرم هذا الخير الكثير؟! ومن فضائلها أنها من سنن الهدى، قال عبدالله بن مسعود: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإن من الهدى أن تؤدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. ومن فضائلها أيضًا أنه بُشر المحافظ عليها بالخير العظيم يقول صلى الله عليه وسلم: «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فما أحوج المسلم لذلك النور حينما يعبر على الصراط بدون أنوار، فما أحوجه لذلك النور الذي يتخطى به تلك العقبات العظيمة. ومن فضائلها أن المحافظ عليها ينال بتوفيق الله أن يكون في ظل عرش الرحمن يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال فيهم: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالْمَسَاجِدِ» محبًّا لها راغبًا فيها يحن إليها ويشتاق إليها ليس حرصًا باقيًا في المسجد لكن يؤديها وينصرف بأشغاله وأعماله إلا أن القلب معلق بالمسجد، متى سمع حي على الصلاة حي على الفلاح، أجاب راغبًا طامعًا بالفضل العظيم. ومن فضائلها أنها طهرة للمسلم تطهره من الخطايا والسيئات، يقول صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ». قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»، كثرة الخطأ إلى المساجد فذلكم الرباط. ومن فضائلها أن المصلي من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه وهو في عداد المصلين في الثواب العظيم يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ المسلم في بيته وخرج إلى المسجد فإنه في صلاة حتى يعود إلى بيته». ومن فضائلها أن المسلم يتردد إلى المسجد ونُزُل في الجنة يتهيأ له في ذهابه ورجوعه، يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أوَ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلا في الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ». ومن فضائلها أن الصف الأول يصلي عليه رب العالمين وملائكته: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَلُونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ». ومن فضائلها أن المحافظ عليها أربعين يومًا يُكتب له براءة من النار وبراءة من النفاق، يقول صلى الله عليه وسلم: «من صلى أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتب له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق». ومن فضائلها -أيها المسلم- أنها دليل على قوة الإيمان والتصديق يقول صلى الله عليه وسلم: «وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا -أي من الأجر- لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا». أيها المسلم: شأن الجماعة عظيم، وأمرها عظيم جدًّا، فمن أعظم فضائلها أن المساجد إنما بُنيت لأجل أداء الصلاة جماعة فيها؛ لاجتماع أهل الحي لأداء كل فريضة فيها، يقول الله جلَّ وعلا: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ*رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ*لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور: 36- 38]، لم يرض الشارع -أخي المسلم- أن يصلي في بيته بل دعاه إلى أداءها مع المسلمين: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43] فكونوا مع المصلين وفي عداد المصلين. ومن فضائلها: أن تعاهد العبد المسلم للمساجد عنوان إيمانه، يروى عنه صلى الله وسلم قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ»، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18]. إن محمدًا صلى الله عليه وسلم عظّم شأن المسجد، وأول عمل عمله بعد هجرته إلى المدينة أن بنى مسجده صلى الله عليه وسلم بعد بناء مسجد قباء، فبنى مسجده صلى الله عليه وسلم وكان وأصحابه يؤدون الجماعةً فيه، ويرون ذلك من شعائر الدين، هكذا كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته بعده والمسلمين يتوارثون ذلك، يعظمون المساجد وشأنها يعلنون بها الصلاة، يعدونها قربةً يتقربون بها إلى الله. إن الله جلَّ وعلا أمر نبيه أن يصلي جماعةً مع مواجهته للعدو فلو كان يعذرهم لفرّق، وفي هذا دليل على أهمية الجماعة وعظيم شأنها، وأنه الشعيرة العظيمة التي ترهب الأعداء، في أحد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تحدث المشركين قائلين: إنها تمر بهم صلاة هي أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم ووالديهم، فإذا دخلوا فيها فباغتوهم، فأنزل الله صلاة الخوف على محمد صلى الله عليه وسلم، فصف أصحابه قسمين: قسم واجه العدو وقسم يحرسون فصلى بالصف الأول ركعتين ثم انصرفوا وأتم بالصف المؤخر حرصًا على الجماعة واهتمامًا بشأنها. أيُّها المسلم: محمد صلى الله عليه وسلم تهدد المتخلفين عن صلاة الجماعة بالوعيد الشديد فقال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم، ولولا ما فيها من النساء والذرية لحرقتها عليهم»، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن صلاة العشاء وصلاة الصبح ثقيلة على المنافقين الذين لا يصلون إلا رياءً وسمعة، فإذا اختفوا عن أنظار الناس لم يؤدوها فيقول صلى الله عليه وسلم: «أَثْقَلَ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا». أيُّها المسلم: وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن صلاة الرجل العشاء في جماعة تعدل قيام نصف ليلة، وأن صلاة العشاء والفجر في الجماعة تعدل قيام ليلة، كل هذا حثّ على هذه الفريضة واعتناء بها وتعظيم لأمر الجماعة، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَين يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّى الْمُتَخَلِّفَ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْ صلاة الجماعة إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وإنه ليؤتى بالرَّجُلُ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ أي يمشي ببين الرجلين حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ"، حرصًا على الجماعة وحبًّا لها ورغبةً فيها تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ للصلاة فَلَمْ يُجِبْ لَمْ يُرِدْ خَيْرًا وَلَمْ يُرَدْ بِهِ». فيا أيها المسلم الحريص على دينه الطامع في فضل الله وكرمه: أوصيك ونفسي بتقوى الله، والاهتمام بهذه الفريضة، والعناية بها في المسجد وأدائها جماعة رغبة فيما عند الله من الثواب وطمعًا في الأجر العظيم، إياك أن يزهدك المغرضون، وإياك أن يضل في قلبك الغاشون الخادعون، إنها الفريضة التي من شعائر الدين فأدِّها بالمسجد رغبةً وطمعنًا فيما عند الله.. تقبل الله منا ومنكم صالح العمل، وأعاننا على كل خير، وختم لنا ولكم بخاتمة السعادة، إنه على كل شيء قدير، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم. الخطبة الثانية: الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ: فيا أيُّها المسلمون: اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، عباد الله، إن المسلم يعظم شعيرة الصلاة يعظمها، ويهتم بها ويراها أمرًا مهمًا كما آمره الله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 45- 46]. لقد كان سلف هذه الأمة يعظمون هذه الشعيرة؛ يبيعون ويشترون، ويغدون ويروحون ولكن إذا أذن المؤذن ولكن إذا حضر الوقت تركوا ما بأيدهم وأموا مساجد الله؛ رغبةً فيما عند الله لم تكن الدنيا تشغلهم عن طاعة الله، ولم تكن التجارة تصدهم عن صلاة الجماعة، بل هم يجمعون خيري الدنيا والآخرة: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، مر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه على أهل السوق وقد غطوا مبيعاتهم وأموا المسجد، فقال: أبشروا فإني أرجوا أن تكونوا ممن قال الله فيهم: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 35- 36]، بشرهم بهذا الفضل العظيم لما رأى حالهم وأن مبيعاتهم وتجارتهم لم تشغلهم عن طاعة الله، غطوا أمورهم وأموا المسجد ليجمعوا بين خيري الدنيا والآخرة، وهكذا المسلم يا عباد الله. وإن أداءها في بيته أو في متجره أو في سوقه لهو الخطأ العظيم يفوت نفسه الفضل العظيم، إن هناك دعاية مضللة يطلقها بعض ضعفاء الإيمان الغاشون للأمة الذين لا يريدون بها خيرًا ثقلت الصلاة في نفوسهم، ثقلت الجماعة في نفوسهم وانصرفوا عنها كسلاً وتهاونًا، وأرادوا أن يغشوا الأمة ويصرفوها عن الخير والهدى، فقالوا: لماذا تغلق المتاجر وقت الصلاة؟ لماذا لا يترك الناس يبيعون كيف يشاءون؟ لماذا تميزون الناس؟ لماذا تقولون انصرفوا إلى الصلاة؟ لماذا ولماذا… كل هذه أخطاء وآراء شيطانية تخالف ما كان عليه هدي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وخيار هذه الأمة من التابعين وتابعيهم بإحسان الذين عظموا شعيرة الصلاة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون: 9]. احذر -أخي المسلم- أن يشملك عموم قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ*خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [المدثر: 42- 43]. أخي المسلم: لو احتجت إلى أمر يسير لحركة السيارة ولو كيلوات لتقضي غرضك اليسير، فكيف بهذه الفريضة العظيمة؟ كيف بهذا الثواب العظيم؟ الذي لا حد له، قال بعض السلف: لو ذُكر للناس أن هناك سوقًا يربح الدرهم به سبع وعشرين لأتوه الناس ولو كان آخر الليل، مع أن الخبر قد يكون صادقًا أو كاذبًا وهي أمور الدنيا، فكيف والمخبر الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا (يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3- 4]، «أن صلاة الرجل في المسجد جماعة يحوز بها سبعًا وعشرين درجة» فضل عظيم وخير كبير، فإياك أن تذهب بهذا الفضل العظيم، ومتعك الله بسمعك وقوتك فاستغلها بالخير وأمر بطاعة الله، فسوف ترى تلك الأعمال الصالحة شاهدةً لك يوم قدومك على الله، سوف تراها في ميزان أعمالك يوم يخف ميزان ويثقل ميزان، سوف تراها شافعةً لك يوم وقوفك على الله، وسوف ترى آثارها وروحك تخرج من جسدك تواجه آخر الدنيا وأول الآخرة فتفوز برضوان الله وكرمه. فإياك إياك أن يثبطك المثبطون ويصرف عنك المغرضون، لا تصغ لهذه الدعاية المضللة والدعوات الباطلة، إنها شعيرة الإسلام التي عظّمها ربنا وعظّمها نبينا وسار عليها سلفنا الصالح، جعلنا الله وإياكم ممن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم بإحسان إنه على كل شيء قدير. واعلموا رحمكم اللهُ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار. وصَلُّوا رحمكم الله على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كما أمركم ذلكم ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]. اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمة المهدين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين. اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، ونصر عبادك الموحدين، وجعل اللَّهمَّ هذا البلاد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللَّهمَّ آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، ووفق ولاة جميع المسلمين لما تحبه وترضى، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير، اللَّهمّ أمده بالصحة والسلامة والعافية، اللَّهمّ كن له عونا ونصيرا في كل ما همه، وجعله بركة على نفسه وعلى المجتمع المسلمين، اللَّهمَّ وفق ولي عهده نايف بن عبد العزيز لكل خير، سدده في أقواله وأعماله، وأعنه على مسئوليته إنك على كل شيء قدير. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ). اللَّهمّ أنت اللهُ لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنَّزل علينا الغيثَ، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حين، اللَّهمَّ أغثنا، اللّهمَّ أغثنا، اللَّهمَّ أغثتنا، اللَّهمَّ سقي رحمة لا سقي بلاء ولا هدم ولا غرق، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). عبادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون. الشيخ : عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
الخميس 24 جمادى الأول 1440
في صلاة الكسوف | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله واشكروه على ما سخر لكم من مخلوقاته، فلقد سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَـارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَلْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَلنَّهَارَ * وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم:32-34]. سخر لكم الشمس والقمر دائبين؛ لتعلموا بمنازل القمر عدد السنين والحساب، ولتتنوع الثمار بمنازل الشمس بحسب الفصول والأزمان. سخرهما يسيران بنظام بديع وسير سريع (لشَّمْسُ وَلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن:5]، لا يختلفان علوا ولا نزولا ولا ينحرفان يمينا ولا شمالا، ولا يتغيران تقدما ولا تأخرا عما قدر الله تعالى لهما في ذلك (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل:88]. فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال علمه وقدرته وبالغ حكمته وواسع رحمته آيتان من آياته في عظمهما آيتاه من آياته في نورهما وإضاءتهما (وَلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَلْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَلعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:38-40]. لقد أرجف الماديون بصانعي الأقمار الصناعية، وعظموهم وأنزلوهم المنزلة العالية مع حقارة ما صنعوا وخلله وتلفه، وغفلوا عن تعظيم من خلق صانعي هذه الأقمار وعلمهم كيف يصنعونها وخلق لهم موادها ويسرها لهم. غفلوا عن تعظيم من خلق الشمس والقمر دائبين آناء الليل والنهار، وأعرضوا عن التفكر فيما فيهما من القدرة العظيمة والحكمة البالغة لذوي العقول والأبصار. إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله مخلوقان من مخلوقات الله ينجليان بأمره وينكسفان بأمره، فإذا أراد الله تعالى أن يخوف عباده من عاقبة معاصيهم ومخالفاتهم؛ كسفهما -باختفاء ضوئهما كله أو بعضه-؛ إنذارا للعباد، وتذكيرا لهم؛ لعلهم يحدثون توبة، فيقومون بما يجب في هذا العصر. لا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعا؛ وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، فلقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة، وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم.. أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة (فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ) [الذاريات:60]. أيها الناس: إن كثيراً من أهل هذا العصر تهاونوا بأمر الكسوف؛ فلم يقيموا له وزناً، ولم يحرك منهم ساكناً؛ وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وجهلهم بما جاء عن رسول الله واعتمادهم على ما علم من أسباب الكسوف الطبيعية وغفلتهم عن الأسباب الشرعية والحكمة البالغة التي من أجلها يحدث الله الكسوف بأسبابه الطبيعية. فالكسوف له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون وينكرها الكافرون ويتهاون بها ضعيفو الإيمان؛ فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله من الفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق. لقد كسفت الشمس في عهد النبي مرة واحدة في آخر حياته في السنة العاشرة من الهجرة حين مات ابنه إبراهيم بعد أن ارتفعت بمقدار رمحين أو ثلاثة من الأفق وذلك في يوم شديد الحر فقام النبي فزعاً إلى المسجد وأمر منادياً ينادي الصلاة جامعة فاجتمع الناس في المسجد رجالاً ونساءً فقام فيهم النبي وصفوا خلفه: "فكبر وقرأ الفاتحة وسورة طويلة بقدر سورة البقرة يجهر بقراءته ثم ركع ركوعاً طويلاً جداً ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنها أقصر من الأولى ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الأول ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد وقام قياماً طويلاً نحو ركوعه ثم سجد سجوداً طويلاً جداً نحواً من ركوعه ثم رفع وجلس جلوساً طويلاً ثم سجد سجوداً طويلاً ثم قام إلى الركعة الثانية فصنع مثل ما صنع لكنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام ثم تشهد وسلم وقد انجلت الشمس". ثم خطب خطبة عظيمة بليغة فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فينظر من يحدث منهم توبة، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره". وفي رواية: "فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا حتى يفرج الله عنكم"، وفي رواية: "حتى ينجلي"، وقال: "يا أمة محمد: والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وأيم الله يعني، لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لا قوه من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار رأيت الناس يحطم بعضها بعضاً فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه، -يعني أمعاءه-، ورأيت فيها امرأة تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشائش الأرض، ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقل: من صالحاً فقد علمنا إن كنت لموقنا. وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته". ثم ذكر الدجال وقال: "لن تروا ذلك حتى تروا أمورا يتفاقم شأنها في أنفسكم وتساءلوا بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا حتى تزول جبال عن مراتبها". أيها المسلمون: إن فزع النبي للكسوف وصلاته هذه الصلاة وعرض الجنة والنار عليه فيها ورؤيته لكل ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة ورؤيته الأمة تفتن في قبورها وخطبته هذه الخطبة البليغة وأمره أمته إذا رأوا كسوف الشمس أو القمر أن يفزعوا إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والتكبير والصدقة بل أمر بالعتق أيضا. إن كل هذه لتدل على عظم الكسوف وأن صلاة الكسوف مؤكدة جدا حتى قال بعض العلماء أنها واجبة وأن من لم يصلها فهو آثم. فصلوا -أيها المسلمون- رجالاً ونساءً عند كسوف الشمس أو القمر كما صلى نبيكم ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان بقراءة جهرية. ومن فاتته الصلاة مع الجماعة فليقضها على صفتها ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول فقد أدرك الركعة، ومن فاته الركوع الأول فقد فاته الركعة، لأن الركوع الثاني لا تدرك به الركعة. وفقني الله وإياكم لتعظيمه والخوف منه ورزقنا الاعتبار بآياته والانتفاع بها إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم… الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
السبت 22 ربيع الأول 1440
صلاة الفجر | الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
أمّا بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى. عبادَ الله: يقول الله جل وعلا: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62] أخي المسلم: خلقَك الله لعبادته، وأنعمَ عليك بنعمِه الظاهرة والباطنة، وشُكرُ الله على نِعمته واجب، وعلامةُ شكرِ الله القيامُ بما أوجَب الله عليك، علامةُ شكرِك لله قيامُك بما أوجب عليك. لله عليك نِعمٌ في ليلك ونهارك، (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء:42]، فما لحظةٌ في ليلِك ونهارك في نومِك ويقظتِك إلاَّ ولله عليك فيها نعمةٌ، والعاقلُ مَن تبصَّر وقدَّم شُكرَ هذه النعمة وإن كان عاجزًا عن القيام بشكرها، وفي الحديث: "لا نُحصِي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك". يومُك وليلتك يمضيان وقد قرضا من عُمُرك، وقرَّباك إلى أجلك. إذًا فالمسلم يغتنم تلك الأوقاتِ، يبدأ ليله بذكرٍ لله، فينام على ذكرٍ وثناء على الله وصلاةٍ قبل نومِه، ويفتتح نهارَه بأداءِ فريضةِ الفجر، فيفتتحُ بها نهاره شكرًا لله على نعمته وفضله. أخي المسلم: صلاةُ الفجر فريضةٌ هي إحدى الصلوات الخمس، تلك الفريضةُ التي يؤدِّيها المسلم في وقتها، يقوم من لذيذ نومه ومن طيب فراشِه، يحدوه حبُّ الله ورجاؤه، يحدوه رغبةٌ فيما عندَ الله، يحدوه شكرُه لله وعِلمُه بعظيم نِعم الله عليه، فهو يقوم من لذيذ نومه ومن وثير فراشه، لا يحرِّكه سِوى طاعةٌ لله وابتغاء لثواب الله، لا دنيًا يريدها وأموال يحرِّكها، ولكن الحادي إلى ذلك ما في القلب من تعظيمٍ لله، وحُبٍّ لله، وشكرٍ لله على نعمته. أخي المسلم: إنَّ القيامَ لِهذه الفريضة في وقتها عنوانُ الخير والهُدى، وإنَّ الذين يقومون لها قد أثنى الله عليهم ومدَحهم، ذلك الثناءُ ليس ثناءَ الخلقِ ومديحهم، ولكنه أصدقُ الثناء وأطيبُه، ألا وهو ثناء ربِّ العالمين عليهم: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور:36-38] يا مَن حافظ على صلاةِ الفجر في وقتها، اسمع الله يثني ويقول: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف:28]، واسمع الله يقول في الثناء عليهم: (أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]، أي: صلاةُ الفجر تشهَدها ملائكة الليل وملائكةُ النهار؟ في الحديث: "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار، فيجتمعون في صلاةِ الفجر، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربِّهم فيسألهم وهو أعلم بكم: كيفَ تركتُم عبادي؟ فيقولون: يا ربَّنا، أتيناهم وهم يصلّون، وتركناهم وهم يصلون". فيا أخي: هل ترضى بضياعِ ذلك الثناء وذلك الفضلِ عليك في لحظاتٍ يسيرة تُرضي فيها ربَّك، وتشرح فيها صدرَك، وتقرّ عينك بهذا الخير العظيم؟! أخي المسلم: إنَّ محافظتَك على صلاةِ الفجر في الجماعةِ سِتر لك من النار، وفوزٌ لك بجنَّات ربِّ العالمين، يقول: "لا يدخل النارَ رجلٌ صلَّى قبل غروبِ الشمس، وصلَّى قبل طلوعها"، يعني صلاةَ الفجر وصلاة العصر، ويقول: "من صلَّى البردَين دخل الجنة"، يعني الفجر والعصر. أخي المسلم: محافظتُك على صلاةِ الفجر في الجماعةِ وملازمتُك على ذلك سببٌ يؤدِّي إلى نظَرك إلى وجه ربِّك في دار كرامته، وهذا أعظمُ نعيمٍ أنعم الله به على أهلِ الجنة، يقول: "أما إنكم سَتَرون ربَّكم يومَ القيامة كما تَرَون القمرَ ليلة البدر، لا تُضَامّون في رؤيته – أي: لا تزدحمون-، فإن استطعتُم أن لا تغلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وعلى صلاةٍ قبل غروبها فافعلوا". أيها المسلم: محافظتُك على صلاةِ الفجر جماعة يضاعِف الله لك بها الأجور، ويعظِم لك بها الثواب، يقول: "من صلَّى العشاءَ في جماعة كان كمَن قام نصفَ الليل، ومن صلَّى الفجرَ في جماعة كان كمَن قام الليلَ كلَّه". أخي المسلم: خروجُك للمسجِد في صلاةِ الفجر نورٌ يكون لك يومَ القيامة، وخيرٌ يُهدَى إليك، يقول: "بَشِّر المشَّائين إلى المساجِد في ظلمةِ الليل بالنور التامِّ يوم القيامة". أخي المسلم: إنَّ محافظتَك على صلاةِ الفجر في الجماعة أمنٌ لك من عذابِ الله، أمنٌ لك من سَخَط الله، سببٌ لرضا الله عنك. كم يتعلَّق الضعيفُ بمن يراه قويًّا، ليأمنَ في ساحته. وأيُّ أمانٍ أعظم من أمان الله لك أن تأمنَ من عذابه؟! يقول: "من صلّى الفجرَ في جماعة فهو في ذمّةِ الله، فلا يطلبنَّكم الله من ذمَّته بشيء، فإنه من يطلبه يدرِكه ثم ّ يكبُّه على وجهه في نار جهنم". أخي المسلم: محافظتُك على العشاء والفجر جماعةً؛ عنوانُ الإيمان وكمالِ التصديق والرَّغبة في الخير، يقول: "ليسَ صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر، ولو يعلَمون ما فيهما لأتوهما ولو حبْوًا". صلَّى الفجرَ بأصحابه فقال: "أشاهدٌ فلان؟" لأناسٍ من المنافقين، ثم قال: "أثقلُ الصلاة على المنافقين صلاةُ العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبوًا". أخي المسلم: نومُك عن صلاةِ الفجر؛ عنوانُ استحواذ الشيطان عليك، وتغلُّبه عليك، وصدِّه لك عن سماع الأذان، فهل ترضَى أن يكونَ عدوُّ الله صاحبًا لك؟، وعدوُّ الله أنت أسيرٌ تحته؟، إنَّ هذا لهو الضَّعف. إنَّ نبيّنا سُئل عن رجلٍ لا يصلِّي الفجر قال: "ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنيه -أو قال:- في أذنه"، صدَّه عن الخير، وحال بينه وبين سماع الخير. فانهضْ بنفسك، واستعِن بربِّك، وحاول تخليصَ نفسك من عذاب الله. أخي المسلم: إنَّ تخلُّفك عن صلاةِ الفجر جماعة سببٌ لعذاب الله، في حديث سمُرة في رؤية المنام الصحيح أنه قال: "أتاني رجلان فبعثاني فقالا لي: انطلق، فانطلقتُ فإذا رجلٌ مضطجِع ورجلٌ فوق رأسه بحجر يريدُ أن يلقيه عليه، فألقاه عليه؛ فثلَغ رأسه فتهدهَد الحجر، ثم أخذه ثم عاد رأسُه كذلك، وما زال يلقي الحجرَ عليه حتى يثلغ رأسَه، قالا لي: أمّا هذا الرجل الذي رأيتَ فرجلٌ أخَذ القرآن ورفضَه ونام عن صلاة الفجر". أخي المسلم: كم مِن سَهرٍ طويل في الليل، وكم مِن استراحةٍ بقيلٍ وقال وكلامٍ فارغ إن لم يكن آثامًا وأوزارا، ويمضي معظمُ الليل في لهوٍ ولعِب، وصدود عن الخير والهدى، وقيلٍ وقال وما لا خيرَ فيه، وتأتي دقائق الفضائل وأوقات الفضائل، فتقصُر همّتُك عن هذه الأعمال الصالحة. كم من ليلٍ سهرته في لهوٍ ولعب وغفلةٍ وإعراض حتى إذا آن وقتُ الفجر نِمتَ على فراشك، معرضًا عن طاعة ربِّك، ناسيًا لفضله وإحسانه، متجاهلاً نِعمَه عليك، هلاَّ حياء من الله يمنعُك ويحول بينك وبين هذا التغافل وهذا الإعراض؟ أخي المسلم: إنَّ مَن يُمضي ليلَه ونهارَه في غفلةٍ عن الله، وإعراضٍ عن الله؛ يوشِك أن يخسَرَ دنياه وآخرته. فاتَّق الله في نفسك، واعلم أنَّ قوَّةَ الإيمان في قلبك إنما تكون على قدر تعظيمك لفرائض الله، ومحافظتك عليها وملازمتِك لها. فيا أخي المسلم: إنما هي ساعةٌ يسيرة، تؤدِّي فريضةً من فرائض الإسلام، تفتتِح يومَك بطاعة الله، تفتتح بذلك العملِ الصالح، فيسجَّل في سجلِّ أعمالك تلك الفريضة التي أدَّيتها، وسترى يومَ قدومك على الله ثوابَ تلك الأعمال، (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمّا بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى. عبادَ الله: عدوُّ الله إبليس سُلِّط علينا ابتلاءً وامتحانًا، وربُّك حكيم عليم، ولا ينجو من عداوته وشرِّه ووساوسه إلاَّ من التجأ إلى ربِّه، وأناب إليه، ووثِق به، واعتمد عليه. عدوُّ الله يحاول إفسادَ ديننا، وصرفَنا عن الخير ما وجَد لذلك سبيلاً، فلقد أقسَم بعزَّة الله ليغوينَّ بني آدم، (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:16- 17]، ولكنَّ الله عصَم منه عبادَه المخلَصين، (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر:42] أخي المسلم: إنَّ عدوَّ الله يثقِّل الطاعةَ عليك، ويعظّمها في نفسِك، فيجعلُك تكسَل عنها، يقول: كيف تقوم من منامِك ووثير فراشك لتؤدِّي هذه الفريضةَ؟! انتظِر حتى تطلع الشمس، فتقوم إلى عملك، فتجمَع بين الأمرين، والكسلان ينقادُ لهذا الكسَل ويسترخي لتلك الوساوسِ الضالَّة، فيحرم نفسَه الخير. في الصحيح يقول: "يعقِد الشيطانُ على قافِية رأسِ أحدِكم إن هو نامَ ثلاثَ عُقَد، يضرِب على كلِّ عُقدة: عليك ليلٌ طويل فنَم، فإن قام فذكر الله انحلَّت عقدة، وإن توضَّأ انحلَّت عقدَة أخرى، وإذا صلَّى انحلَّت العقد كلُّها، فأصبح طيِّبَ النفس نشيطًا، وإلا أصبَح خبيثَ النفس كسلانًا". فأنت إذا قُمتَ من فراشك استجابةً للنداء: "حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح"، وقمتَ طاعةً لله: لبيك سمعًا وطاعةً لله، وخرجتَ من منزلك قائلاً: "اللهمَّ اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي لساني نورًا، وفي بصري نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، ومن فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، بسم الله، توكَّلت على الله، لا حولَ ولا قوّة إلا بالله، يتنحَّى عنك الشيطان ويقول: "كيفَ لي برجل قد هُدي وكُفي ووقِي"؟! هذا النورُ الذي أحاط بك من كلِّ الجهات؛ نورُ الإيمان والعمَل الصالح، فتؤدِّي تلك الفريضة في المسجد، تنالُ بها الثوابَ العظيمَ والأجرَ الجزيل، وتكون في نهارك في راحة بالٍ وانشراح صدر وطيب نفس، وإلا أصبحتَ خبيثَ النّفس كسلانًا عن الخير، قد استحوذ الشيطان عليك فأغواك. أيّها المسلم: إذا استيقظَ المسلم من منامه فذكّر الله وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمدُ لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوة إلاَّ بالله، ثم دعا استُجيب دعاؤه، وإن توضَّأ وصلّى تُقُبِّلت صلاته". فاحرِص -أخي- على هذا الفضلِ العظيم، وروِّض نفسَك على هذا الفضلِ العظيم، وإيّاك ودعاةَ الكسل والغفلة، ومَن يزهِّدك في الجماعة ويقول لك: تلك سُنَّة افعَل أو لا تفعل، كلُّ ذلك حرمانٌ لك من هذا الخير العظيم. أسأل الله أن يوفِّقني وإيّاكم للمحافظةِ على طاعته والقيام بما أوجب علينا، وأن يحبِّب لنا هذه الصلاة، أسأل الله أن يحبِّبها لنفوسنا، ويمكِّنها من قلوبنا، ويجعلنا جميعًا من المحافظين عليها المؤدِّين لها حقَّ الأداء، لننال ثوابَ الله، (أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:10- 11] واعلموا -رحمكم الله- أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار. وصلّوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال الله جل جلاله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين. الشيخ : عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
السبت 22 ربيع الأول 1440
في بيان فضل صلاة الجماعة في المساجد | الشيخ د.صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله الذي شرع لنا أكمل الشرائع. ووعد من أطاعه بأوفر الجزاء. وحث على الازدياد من الخير، ورغب في الأعمال الصالحة لتتوفر لعباده سعادة الدنيا والآخرة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي دعا إلى كل خير، وكان أول المسلمين السابقين إليه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان تنافسهم وتسابقهم في الأعمال الصالحة. وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: اتقوا الله واعلموا أن من أفضل شعائر الإسلام ومزاياه العظام صلاة الجماعة في المساجد. هذه الشعيرة التي قد خف ميزانها اليوم عند كثير من الناس اتباعاً للشيطان ومجاراة لهوى النفس الأمارة بالسوء. واقتداء بمن قل خوف الله في قلوبهم من الكسالى والمنافقين.. وإنها لخسارة كبيرة أن نرى أعداداً كثيرة وجموعاً غفيرة من الناس في مجتمع المسلمين لا يبالون بصلاة الجماعة، ولا يرتادون المساجد، وهم يسمعون المنادي يدعوهم بأعلى صوته ويقول لهم: "حي على الصلاة. حي على الفلاح" فيعرضون عنه وهم يقولون بلسان حالهم: لا نريد الصلاة ولا نريد الفلاح –أي حرمان أعظم من هذا؟! إن المؤذن يقيم عليك الحجة في اليوم والليلة خمس مرات. والملك يكتب عليك امتناعك عن الحضور، ويسجل عليك الغياب في سجلات محفوظة تعرض عليك يوم القيامة وتوضع في ميزان عملك. إنك لو دعيت إلى طمع أطماع الدنيا لحضرت وبادرت ولو مع تحمل المشاق رغبة في الحطام الفاني. ولو دعاك السلطان إلى الحضور لديه لبادرت بالإجابة؛ خوفاً من عقابه ورهبة من تهديده ودفعاً لغضبه؛ فما بالك لا تجيب دعوة الله الذي له ملك السموات والأرض، وبيده الخير وهو على كل شيء قدير. كيف تتجرأ على مخالفة أمره ولا تجيب دعوته، وأنت لا تخرج عن قبضته ولا تستغني عن رزقه طرفة عين؟! أما حذرك وأنذرك؟ أما دعاك وأمرك؟ أما وهبك الصحة والقوة، أما أعطاك المال وأغناك، أما أمهلك وحثك على العمل، فما لك لا تجيب دعوته. ولا تحضر لأداء عبادته في بيت من بيوته؟!. عباد الله: إن شأن الجماعة في الإسلام عظيم. ومكانتها عند الله عالية. ولذلك شرع الله بناء المساجد لها فقال سبحانه وتعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور: 36] وأول عمل بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة بناء المسجد لأداء الصلاة فيه. وشرع الله النداء لصلاة الجماعة من أرفع مكان بأعلى صوت، وعينت لها الأئمة. وكان –صلى الله عليه وسلم- يتفقد الغائبين ويتوعد المتخلفين. وشهد الله لمن يحافظ على صلاة الجماعة في المساجد بالإيمان حيث يقول سبحانه: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18] إن صلاة المسلم مع الجماعة تفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة؛ أي فضل أعظم من هذا؟ إنه لو قيل للناس: إن المساهمة في التجارة الفلانية يكسب فيها الدرهم الواحد سبعة وعشرين درهماً، لا قتتلوا على المساهمة فيها طمعاً في هذا الربح العاجل الزائل الذي قد يحصل وقد لا يحصل. وأما المساهمة في التجارة الرابحة بالأعمال الصالحة التي ربحها مضمون وخيرها معلوم فلا يتقدم لها إلا الأفراد. والأكثر كما قال الله تعالى فيهم: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى 16: 17] إن الخطا التي يمشيها المسلم لصلاة الجماعة تحتسب له عند الله أجراً وثواباً، فلا يخطو خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي –صلى الله عليه وسلم- إن انتظار الجماعة في المسجد كالرباط في سبيل الله، والمنتظر لها في صلاة مادامت الصلاة تحبسه، والملائكة تستغفر له كما ثبت ذلك عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. فالذي ينتظر إقامة الصلاة في المسجد يحصل على ثلاث مزايا: الأولى: أنه كالمرابط في سبيل الله. الثانية: أنه يكتب له أجر المصلي وهو جالس. الثالثة، أن الملائكة تستغفر له، أضف إلى ذلك إذا كان في هذه الحالة يتلو القرآن أو يذكر الله، فإنه يكتب له أجر التالي أو الذاكر. إن المصلي مع الجماعة يخلص من أسر الشيطان وشره، ويدخل في جماعة المسلمين فيبتعد عنه الشيطان. والذي يترك صلاة الجماعة يستحوذ عليه الشيطان. قال –صلى الله عليه وسلم-: "ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية" رواه الإمام أحمد وأبو داود. إن صلاة الجماعة فيها تعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يقف المسلمون فيها صفاً واحداً خلف إمام واحد بين يدي الله تعالى كالبنيان المرصوص، مما به تظهر قوة المسلمين واتحادهم؛ في صلاة الجماعة اجتماع كلمة المسلمين وائتلاف قلوبهم وتعارفهم وتفقد بعضهم لأحوال بعض. فيها مظهر التعاطف والتراحم. ودفع الكبر والتعاظم. وفيها تقوية الأخوة الدينية، فيقف الكبير إلى جانب الصغير، والغني إلى جانب الفقير، والملك والقوي إلى جانب الضعيف، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، مما به تظهر عدالة الإسلام، وحاجة الخلق إلى الملك العلام. صلاة الجماعة تؤخذ منها الدروس الإيمانية. وتسمع فيها الآيات القرآنية. فيتعلم بها الجاهل ويتذكر الغافل ويتوب المذنب. وتخشع القلوب وتقرب من حضرة علام الغيوب. صلاة المسلم في جماعة أقرب على الخشوع وحضور القلب والطمأنينة. وإن الإنسان ليجد الفارق بين ما إذا صلى وحده وإذا صلى مع الجماعة. إن صلاة الجماعة فيها إظهار شعار الإسلام وإرهاب الأعداء وإعلان ذكر الله في بيوته التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه. إن صلاة المسلم مع الجماعة في المساجد تجعله في عداد الرجال الذين مدحهم الله ووعدهم بجزيل الثواب في قوله سبحانه وتعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ *رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النور 36: 37] يا من ضيعت الصلاة مع الجماعة ورضيت بالتفريط والإضاعة. لقد خسرت ورب الكعبة كل هذه الفضائل وفاتتك كل هذه الخيرات. وعصيت الرحمن. وأرضيت الشيطان. لقد ظلمت نفسك أعظم الظلم حيث حرمتها ثواب الله وعرضتها لعقابه وأخرجتها عن جماعة المسلمين وموطن الأمان. إلى مواطن الهلكات والمخاوف وحشرتها مع الذئاب المفترسة. يا من تدعى إلى المسجد فلا تجيب. ويطلب منك الحضور فتغيب. سوف تندم مع النادمين: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم 42: 43] وما ذلك اليوم منك ببعيد. فانتبه لنفسك وتب إلى ربك. وحافظ على الصلاة مع الجماعة. وإن شق عليك مخالفة هواك ورأيت كثيراً من الناس في غفلة معرضون (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) [الروم: 60] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأحقاف : 32] الشيخ د. : صالح بن فوزان الفوزان
السبت 22 ربيع الأول 1440
في وجوب صلاة الجماعة | الشيخ د.صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين. شرع للمسلمين أفضل الشرائع وأكملها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله، واعلموا أن أداء الفريضة مع جماعة المسلمين في المساجد شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام؛ فقد اتفق المسلمون على أن أداء الصلوات الخمس في المساجد من آكد الطاعات، وأعظم القربات. فقد شرع الله لهذه الأمة الاجتماع في أقوات معينة؛ من هذا الاجتماع ما يتكرر في اليوم والليلة؛ كالاجتماع للصلوات الخمس في المساجد؛ فإن المسلمين يجتمعون لذلك في مساجد الحارات بصفة مستمرة، لا يغيب عن هذا الاجتماع إلا من هو معذور بعذر شرعي، أو من هو منافق معلوم النفاق. ومن هذه الاجتماعات المباركة ما يتكرر على المسلمين في الأسبوع مرة: وهو الاجتماع لصلاة الجمعة يجتمع فيه عدد ضخم من المسلمين لا يغيب عنه إلا معذور. أو من طبع الله على قلبه وكان من الغافلين. ومن هذه الاجتماعات الإسلامية ما يتكرر على المسلمين مرتين في السنة: وهو الاجتماع صلاة العيدين، يجتمع فيه جميع أهل البلد حتى الحُيَّض والعواتق من النساء؛ ليشهدن دعوة المسلمين ويعتزل الحيض المصلى. ومن هذه الاجتماعات الدينية العظيمة ما يتكرر على المسلمين مرة واحدة في السنة: وهو الاجتماع للوقوف بعرفة وهذا الاجتماع يحضره المسلمون من كافة أقطار الأرض في صعيد واحد محرمين ملبين داعين مستغفرين. أيها المسلمون: إنما شرعت هذه الاجتماعات العظيمة لمصالح عظيمة عاجلة وآجلة، يحصل بها التعارف بين المسلمين والتواصل بينهم بالبر والإحسان. يحصل بها التعارف والرعاية. يحصل بها التواد والتحابب في القلوب. يحصل بها تفقد بعضهم لأحوال بعض؛ ليعودوا مريضهم، ويشيعوا ميتهم. ويواسوا فقراءهم. يحصل بها تعليم الجاهل، وتذكير الغافل. يحصل بها إظهار قوة المسلمين وإغاظة الكفار والمنافقين. يحصل بهذه الاجتماعات تكفير السيئات ورفعة الدرجات. يحصل بها النشاط والجد في الأعمال الصالحة والتعاون على البر والتقوى؛ وفي الحديث -المتفق على صحته-: أن الصلاة في الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة. أيها المسلمون: إن صلاة الجماعة واجبة على الرجال في الحضر والسفر، وفي حال الأمان وحال الخوف وجوباً عينياً؛ والدليل على ذلك الكتاب والسنة وعمل المسلمين قرناً بعد قرن. ومن أجل ذلك عمرت المساجد ورتب الأئمة والمؤذنون. وشرع لها لنداء بأعلى صوت: "حي على الصلاة حي على الفلاح" وقال تعالى -آمراً نبيه أن يقيم صلاة الجماعة في حال الخوف-: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [النساء:102] والأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- أمر لأمته ما لم يدل دليل على خصوصيته به. فدلت هذه الآية الكريمة على وجوب صلاة الجماعة حيث لم يرخص للمسلمين في تركها في حال الخوف؛ فلو كانت غير واجبة لكان أولى الأعذار لتركها عذر الخوف؛ فإن صلاة الجماعة في حال الخوف يترك فيها كثير من الواجبات في الصلاة مما يدل على تأكد وجوبها، وقد اغتفرت في صلاة الخوف حركات كثيرة وتنقلات وحمل أسلحة ومراقبة لتحركات العدو وانحراف عن القبلة.. كل هذه الأمور اغتفرت من أجل الحصول على صلاة الجماعة فهذا من أعظم الأدلة على وجوبها وتأكدها. ومن الأدلة على وجوب صلاة الجماعة ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ولقد هممت أن آمر الصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس. ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". فقد وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث المتخلفين عن صلاة الجماعة بالنفاق، وهذا أيضاً وصفهم في القرآن الكريم. قال تعالى -عن المنافقين-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء:142] وقال تعالى عنهم: (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) [التوبة:54] ثم هدد -صلى الله عليه وسلم- المتخلفين عن صلاة الجماعة بأن يحرق عليهم بيوتهم بالنار، وهذه عقوبة شنيعة. فوصفهم بالنفاق أولاً، وهددهم بالتحريق بالنار ثانياً- ولم يمنعه من ذلك إلا ما في البيوت من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم صلاة الجماعة. مما يدل دلالة صريحة على عظم جريمة المتخلف عن صلاة الجماعة، وأنه مستحق لأعظم العقوبات في الدنيا والآخرة. وفي صحيح مسلم: أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله: ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له. فلما ولّى دعاه فقال: "هل تسمع النداء". قال: نعم. قال: "فأجب" فهذا رجل أعمى أبدى أعذاراً كثيرة، ومع هذا لم يسقط عنه حضور الجماعة؛ فما حال الذي يتخلف عنها من غير عذر، وهو مجاور للمسجد وأصوات المؤذنين تخترق بيته من كل جانب، يدعى فلا يجيب، ويؤمر فلا يمتثل، ويعصي فلا يتوب؟! أيها المسلمون: لقد بلغ من اهتمام صدر هذه الأمة بصلاة الجماعة ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. ولقد كان الرجل يؤتى يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف". يعني: إذا كان الرجل منهم لا يستطيع المشي لمرض أو كبر أخذوا بعضديه وساعدوه على المشي حتى يقيموه في صف المسلمين للصلاة؛ فما بال الذي يتخلف عن الصلاة اليوم وهو صحيح قوي الجسم؟ لقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يحضر الجماعة، فقال: "هو في النار". وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار". أيها المسلمون: ومكان صلاة الجماعة هو المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"وروي عن علي رضي الله عنه مثله وزاد: "وجار المسجد من أسمعه المنادي" رواه البيهقي بإسناد جيد. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان، إلا لعارض يجوز معه ترك الجماعة. فترك حضور المساجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر. وبهذا تتفق الأحاديث وجميع الآثار". وفي إقامة صلاة الجماعة في غير المساجد تعطيل للمساجد، أو تقليل من المصلين فيها، ويكون ذلك سبباً لتقليل أهمية الصلاة في النفوس، وقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) [التوبة:18] وقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) [النور:36] ففي هاتين الآيتين تنويهُ بشأن المساجد وعُمّارها، ووعدهم بجزيل الثواب. وفي ضمن ذلك ذم المتخلفين عنها؛ لكن إذا دعت حاجة لإقامة صلاة الجماعة في غير المسجد؛ كالموظفين الذين يصلون في محل عملهم؛ لأنهم إذا صلوا في دائرتهم كان أضبط لعملهم وأحزم لجمع الموظفين لأداء الصلاة لعله لهذه المبررات يكون لهم عذر في عدم الذهاب إلى المسجد؛ نظراً للمصالح المترتبة على ذلك. أيها المتخلف عن صلاة الجماعة لغير عذر: لقد عصيت ربك وحرمت نفسك ثواباً عظيماً. وعرضتها لسخط الله وعقوبته. لقد شاركت المنافقين في صفاتهم، وأصبحت أسيراً للشيطان. لقد سمعت داعي الله فامتنعت عن إجابته مراراً، ليلاً ونهاراً؛ فتب لله وحافظ على الجمع والجماعات؛ فإن الله يتوب على من تاب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[هود:115] الشيخ د. : صالح بن فوزان الفوزان
السبت 22 ربيع الأول 1440