في الحث على صلاة الجمعة وبيان فضلها | الشيخ د.صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله الذي جعل يوم الجمعة من أشرف الأيام. وجعله عيد الأسبوع لأهل الإسلام. وأمرنا بالسعي إلى ذكره عند النداء للصلاة فيه وترك الاشتغال بالدنيا لنتفرغ لذكر الله وأداء الصلاة. لننال الفلاح العاجل والآجل. نحمدك اللهم على نعمة الإسلام وهي النعمة الكبرى. ونشكرك اللهم في الشدة والرخاء وعلى السراء والضراء. ونشهد أن لا إله إلا أنت لك الأمر في الأولى والأخرى. ونشهد أن سيدنا محمداً عبدك ورسولك الذي قلت له: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى). اللهم صل وسلم تسليماً كثيراً عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله. عباد الله: يوم الجمعة يوم مبارك قد فضله الله على سائر الأيام، واختص به المسلمين من بين سائر الأمم. اختص الله هذا اليوم المبارك بخصائص لا توجد في سائر الأيام: منها أنه تقام فيه صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام، وهي من أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظم من كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضه سوى مجمع عرفة. من ترك صلاة الجمعة تهاوناً بها طبع الله على قلبه؛ كما صح بذلك الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهو اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة، وله على سائر الأيام مزية بأنواع العبادات الواجبة والمستحبة؛ فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يوماً يتفرغون فيه للعبادة، ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا؛ فيوم الجمعة يوم عبادة وهو يوم هذه الأمة، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور. ويوم الجمعة ميزان الأسبوع. عباد الله: إنه يستحب التبكير في الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة؛ ففي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قربة دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر قبيل خروج الإمام". فلما كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملاً على صلاة وذبح قربان، وكان يوم الجمعة صلاة – جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلاً من القربان وقائماً مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد: الصلاة القربان. فانظروا -يا عباد الله- إلى هذا الفرق العظيم بين أجر من يبكر إلى الجمعة، فيأتي في الساعة الأولى، وأجر من يتأخر فلم يأت إلا في الساعة الأخيرة. إنه الفرق بين من يهدي البعير ومن يهدي البيضة. بل إن من يتأخر إلى دخول الإمام؛ فإنها تطوى عنه الصحف، ولا يكتب له قربان بعد ذلك. إننا نرى بعض الناس -هداهم الله- يتأخرون عن الحضور إلى الجمعة إلى وقت دخول الإمام، ولا تسمح نفوسهم بالتقدم والتبكير؛ بخلاً بالوقت وتشاغلاً بما لا فائدة فيه، أو ما فائدته ضئيلة يمكنهم الحصول عليها في وقت آخر. إنهم بهذا التأخر يفوتون على أنفسهم خيراً كثيراً وأجراً جزيلاً. اسمعوا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام" رواه مسلم في صحيحه -والمراد غفر له الذنوب الصغائر؛ كما في قوله سبحانه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) [النساء:31] يا أخي المسلم: كيف تفوت على نفسك هذا الأجر العظيم مطاوعة لنفسك الأمارة بالسوء، وطاعة للشيطان الذي لا يريد لك إلا الهلاك؟! تقدم -يا أخي المسلم- في وقت مبكر إلى المسجد لانتظار صلاة الجمعة، واعمر وقتك بطاعة الله من الصلاة والذكر وتلاوة القرآن حتى يخرج الإمام، فإذا خرج فقد انتهى وقت الصلاة النافلة. وإذا شرع في الخطبة وجب الإنصات وحرم الكلام؛ فخروج الإمام يمنع الصلاة وخطبته تمنع الكلام؛ فإن من خصائص هذا اليوم العظيم أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره. فيجب حينئذ الإمساك عن الصلاة والاستماع للخطبة بإنصات. ومن دخل المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين خفيفتين. كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك. أخي المسلم: إن يوم الجمعة يوم عظيم اختصه الله بخصائص كثيرة لا توجد في غيره من الأيام؛ فقد ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع: اليهود غداً، والنصارى بعد غد". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يومُ السبت وللنصارى يومُ الأحد، فجاء الله بناء فهدانا ليوم الجمعة..". فهو يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد. وقد شرع الله لكل أمة في الأسبوع يوماً يتفرغون للعبادة فيه ويتذكرون فيه اجتماعهم يوم الجمع الأكبر قياماً بين يدي رب العالمين. وكان أحق الأيام بهذا هو اليوم الذي يجمع الله فيه الخلائق وذلك هو يوم الجمعة فادخره الله لهذه الأمة؛ لفضلها وشرفها. وكان -صلى الله عليه وسلم- يعظم هذا اليوم ويخصه بعبادات لا توجد في غيره من الأيام؛ فكان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في فجره بسورتي "ألم السجدة" "وهل أتى على الإنسان"؛ لأن هاتين السورتين تضمنتا ما كان وما يكون في هذا اليوم؛ فإنهما اشتملتا على ذكر خلق آدم وعلى ذكر يوم القيامة وحشر العباد. وذلك يكون يوم الجمعة. فكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان وما يكون في هذا اليوم. ومما يختص به يوم الجمعة كثرة الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه وفي ليلته. وأمر -صلى الله عليه وسلم- بالاغتسال في هذا اليوم وهو أمر مؤكد في حق من به رائحة كريهة يحتاج إلى إزالتها بالغسل، ويستحب التطيب فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من الأيام، ويستحب أن يلبس فيه أحسن اللباس الذي يقدر عليه. وفي هذا اليوم ساعة الإجابة؛ وهي الساعة التي لا يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه". أيها المسلمون: مع هذه المزايا الكثيرة والفضائل العظيمة لهذا اليوم الذي جعله الله موسماً عظيماً لنيل الدرجات وتكفير السيئات نرى بعض الناس لا يقيم لهذا اليوم وزناً ولا يحسب له حساباً، ولا يعرف هذا اليوم إلا بأنه يوم عطلة وفراغ يقضيه في اللهو واللعب وربما في المعاصي؛ يسهر ليله ويقضي نهاره بذلك. لا يعرف عن هذا اليوم إلا أنه يوم نزهة يعطي فيه نفسه ما تشتهي، والبعض من الناس ينفرون من البلد إلى البراري ولا يحضرون صلاة الجمعة. وقد نص العلماء على أنه لا يجوز السفر في يوم الجمعة لمن تلزمه صلاة الجمعة بعد دخول وقتها، وذلك حين تزول الشمس حتى يصليها. إلا إذا كان سيؤديها في مسجد في طريقه. وأما السفر في أول النهار فمكروه. هذا حكم السفر الذي يكون الإنسان محتاجاً إليه؛ فكيف بمن يخرج من البلد في هذا اليوم لتضييع الوقت والتغيب عن الصلاة. إن التحريم أو الكراهة في حق هذا أشد. إنه ينبغي للمسلم أن يخصص للخروج يوماً غير يوم الجمعة، وإذا خرج يوم الجمعة فليحرص على أداء صلاة الجمعة فيما حوله من المساجد، ولا يفرط فيها فهي من فرص العمر؛ وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. ثم اعلموا -رحمكم الله- أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدرك الجمعة، فليضف إليها ركعة أخرى بعد سلام الإمام وقد تمت جمعته، ومن جاء بعدما رفع الإمام رأسه من الركعة الثانية فقد فاتته الجمعة، فينوي صلاة الظهر ويدخل مع الإمام، فإذا سلم قام فصلى أربع ركعات صلاة الظهر. إذا كان قد دخل وقت الظهر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة:9] إلى آخر السورة. الشيخ د. : صالح بن فوزان الفوزان
السبت 22 ربيع الأول 1440
في شأن الصلاة | الشيخ د.صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله الذي جعل الصلاة عمود الدين. وقال: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة 45: 46] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. حث على إقام الصلاة في كتابه المبين. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. كان آخر وصيته لأمته عند خروجه من الدنيا الحث على الصلاة لما لها من الأهمية في الدين. صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى في دينكم عامة وصلاتكم خاصة. أقيموها وحافظوا عليها وأدوها بخشوع وطمأنينة وحضور قلب، ولازموا لها الجمع والجماعات، وابنوا لها المساجد، واهتموا بشأنها غاية الاهتمام؛ فهي عمود الدين، وعنوان السعادة. هي نور لكم في الأرض، وذخر لكم في السماء، وعون لكم على مشاق الحياة. (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ). (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت :45] هي قُرّة عين الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومفزعه عند الشدائد، وراحته من المشاق. هي الركن الثاني من أركان الإسلام. يجتمع فيها من أنواع العبادات ما لا يجتمع في غيرها. هي الصلة بين العبد وبين ربه. وهي الفارقة بين الكفر والإيمان، فلا حظ في الإسلام لمن ضيع الصلاة. عباد الله: إن ميزان الصلاة في الإسلام عظيم، ومنزلتها عند الله عالية؛ فاهتموا بشأنها غاية الاهتمام، وأدوها بالوفاء والتمام؛ فالصلاة مكيال من وَفّاه وُفِّيَ أجره من رب العالمين، ومن طفف فيه قد علمتم ما قال الله في المطففين. إنه لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، ولا تصح إلا إذا أُدِّيَت بطمأنينة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد، فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فرد عليه السلام فقال: "ارجع فصلَّ فإنك لم تصلّ". فعل الرجل ذلك ثلاثاً، وفي كل مرة يقول له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ارجع فصل فإنك لم تصلّ" فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ. ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". متفق عليه. وفيه دليل على وجوب الطمأنينة وأن من تركها لم يفعل ما أمر به ولم تبرأ ذمه منه؛ فمن صلى بدون طمأنينة أمر بإعادة الصلاة. قال بعض العلماء: في هذا الحديث دليل على أن الطمأنينة في الصلاة لا تسقط بحال، وإلا سقطت عن هذا الأعرابي الجاهل. وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نقر المصلي صلاته وأخبر أن النقر صلاة المنافقين. قال -صلى الله عليه وسلم-: "تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً". كما أن من صفات المنافقين في الصلاة أنهم لا يؤدونها مع الجماعة. ومن صفاتهم فيها ما قال الله عنهم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:142). قال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله: فهذه ست صفات في الصلاة من علامات النفاق: الكسل عند القيام إليها. ومراءاة الناس في فعلها. وتأخيرها. وقلة ذكر الله فيها. والتخلف عن جماعتها. وعن أبي عبد الله الأشعري قال: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم، فدخل رجل منهم فقام يصلي فجعل يركع وينقر في سجوده ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إليه فقال: "ترون هذا لو مات لمات على غير ملة محمد، ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم". الحديث رواه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه فأخبر أن الذي ينقر الصلاة لو مات لمات على غير الإسلام. وقد جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لص الصلاة وسارقها شراً من لص الأموال وسارقها فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته"قالوا: يا رسول الله كيف سرق صلاته؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها" أو قال: "لا يقيم صلبه في الركوع والسجود". رواه الإمام أحمد. فصرح النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الذي لا يتم صلاته أسوأ حالاً من سارق الأموال، ولا ريب أن لص الدين شر من لص الدنيا. أيها المسلمون: ومما يخل بالصلاة خللاً عظيماً مسابقة الإمام في الركوع والسجود والخفض والرفع. قال الإمام أحمد: ليس لمن سبق الإمام صلاة. بذلك جاءت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، جاء الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟". وذلك لإساءته في صلاته؛ لأنه لا صلاة له، ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب ولم يخف عليه العقاب أن يحول الله رأسه رأس حمار. قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمنا صلاتنا وعلمنا ما نقول فيها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا. وإذا قال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) فقولوا: آمين يجيبكم الله. وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا. وإذا رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده فارفعوا رؤوسكم وقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم، فإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا. وإذا رفع رأسه وكبر فارفعوا رؤوسكم وكبروا". قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تلك بتلك" قال الإمام أحمد: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا كبر فكبروا، معناه: أن تنتظروا الإمام حتى يكبر ويفرغ من تكبيره وينقطع صوته ثم تكبرون بعده. والناس يغلطون في هذه الأحاديث ويجهلونها، وكذلك بقية أفعال المأموم في الصلاة يجب أن تكون بعد نهاية فعل الإمام لا تكون معه ولا قبله. ومعلوم أن المأموم لا يستفيد من مسابقة الإمام؛ فإنه لن ينصرف من الصلاة قبل الإمام، ولكن يخدعه الشيطان فيحمله على المسابقة؛ ليفسد عليه صلاته. فاتقوا الله في أموركم عامة وفي صلاتكم خاصة فأحكموها؛ فإنها آخر دينكم، فتمسكوا بآخر دينكم وما أوصاكم به ربكم عز وجل؛ فإن الصلاة من آخر ما عهد إليكم نبيكم؛ فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان آخر وصيته لأمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا أن اتقوا الله في الصلاة وفيما ملكت إيمانكم، وهي آخر ما يذهب من الإسلام ليس بعد ذهابها إسلام ولا دين، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله وهي عمود الإسلام. وقد خصها الله عز وجل بالذكر من الطاعات كلها ونسب أهلها إلى الفضل، وأمر بالاستعانة بها وبالصبر على جميع الطاعة واجتناب المعصية. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون 1: 2] الآيات إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون 10: 11] الشيخ د. : صالح بن فوزان الفوزان
السبت 22 ربيع الأول 1440
في المحافظة على الصلاة عموماً والبردين خصوصاً | الشيخ د.صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين، جعل الصلاة كتاباً موقوتاً على المؤمنين، وأخبر أن التكاسل عنها من صفات المنافقين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى واهتموا بأمور دينكم عامة وبصلاتكم خاصة، فإنها عمود الإسلام، وهي تنهى عن الآثام: والفارقة بين الكفر والإسلام. وقد أوصى الله بها في محكم كتابه، قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) وتوعد المضيعين لها بأشد الوعيد. قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) وقال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)وأخبر أن أهل النار إذا سئلوا عن سبب دخولهم فيها أجابوا بقولهم: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ). عباد الله: والمحافظة على الصلاة يراد بها أداؤها في أوقاتها التي حددها الله لها مع الجماعة في المساجد التي بنيت من أجلها، وأن تكون مستوفية لشروطها وأركانها وواجباتها التي شرعها الله فيها. فمن أخل بشيء من ذلك لم يكن محافظاً على صلاته. كما أنه مطلوب من المسلم أن يهتم بجميع الصلوات الخمس فالتهاون ببعض الصلوات كالتهاون بجميعها، وبعض الناس قد ابتلوا في زماننا هذا بالتهاون في صلاتين هما صلاة العصر وصلاة الفجر، فصلاة العصر يتهاون بعض الموظفين حيث يخرج من الدوام الرسمي بعد الظهر ثم ينام ويترك صلاة العصر مع الجماعة ويؤخرها إلى أن يستيقظ ولو خرج وقتها. وصلاة العصر لها شأن عظيم وهي الصلاة الوسطى التي أوصى الله بالمحافظة عليها خصوصاً بعدما أوصى بالمحافظة على الصلوات عموماً. قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) والذي عليه أكثر أهل العلم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر لأدلة كثيرة مما يدل على تأكد الاهتمام بها خاصة وقد ورد الوعيد الشديد في حق من تهاون بها، عن بريدة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" رواه البخاري والنسائي وابن ماجه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" رواه مالك والبخاري ومسلم وقد فسره مالك رحمه الله بأن المراد به ذهاب الوقت. وإذا كان هذا الوعيد في حق من فاتته صلاة العصر مرة واحدة فكيف من اعتاد ذلك وداوم عليه وجعل وقت صلاة العصر وقت نوم له. اتقوا الله -يا من تفعلون هذا- وتوبوا إلى الله وأدوا صلاة العصر في وقتها مع الجماعة ما أمركم بذلك ولا يغوينكم الشيطان وتنساقوا مع العادات السيئة التي تخل بدينكم، وتوقعكم في غضب الله وألم عقابه، اجعلوا وقت نومكم وراحتكم بعد أداء الصلاة، وكونوا قدوة صالحة لغيركم ولا تكونوا قدوة سيئة. وأما صلاة الفجر فقد نوه الله بشأنها وأخبر أنها تحضرها الملائكة الكرام، قال تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) والمراد بقرآن الفجر صلاة الفجر، سميت بذلك لأنها تطول فيها القراءة ومعنى (مشهودا) أي تحضره الملائكة –ملائكة الليل وملائكة النهار- ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر. فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهو يصلون وتركناهم وهم يصلون". وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله وحسابه على الله" رواه الطبراني، وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء. فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه على وجهه في نار جنهم" رواه مسلم وغيره. ومع هذا الفضل العظيم لصلاة الفجر والوعيد الشديد في حق من تهاون بها فإن بعض الناس لا يهتمون بها فتجد أحدهم يسهر معظم الليل لمشاهدة ما يعرض على شاشة التلفاز من برنامج ربما يكون أكثرها ضاراً، ثم ينام عن صلاة الفجر ويؤخره عن وقتها فلا يصليها إلا بعد خروج وقتها، وهو بذلك يرتكب جريمتين عظيمتين: الأولى: ترك الصلاة مع الجماعة –الثانية: تأخير الصلاة عن وقتها. ويضاف إلى ذلك، إذا كان سهر لمشاهدة أفلام يحرم النظر إليها ومشاهدة ما يعرض فيها من جرائم. فاتقوا لله -عباد الله- ولا تكونوا ممن قال الله فيهم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) ومن الشهوات التي تسبب إضاعة الصلاة السهر لمشاهدة برامج التلفاز والتمتع برؤيتها ثم النوم بعد ذلك عن صلاة الفجر وأكثر ما يحصل التكاسل عن صلاة الفجر في يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام، لأن السهر في ليلة الجمعة أكثر من السهر في بقية الليالي- فاتقوا الله عباد الله واحسبوا للصلاة حسابها ناموا مبكرين لتستيقظوا مبكرين للصلاة، واعلموا أن كل ما يشغل عن الصلاة أو يسبب تأخيها عن وقتها من بيع أو شراء أو نوم أو عمل فهو محرم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر من ذلك شيء –فقال: ما هؤلاء يا جبريل. قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة، فاتقوا الله وأدوا الصلاة في وقتها كما أمركم الله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الشيخ د. : صالح بن فوزان الفوزان
السبت 22 ربيع الأول 1440
بعض خصائص يوم الجمعة | للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الخطبة الأولى: الحمد لله الذي جعل يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وجعل فيه ساعة الدعاء فيها مجاب ومسموع، وخصه بخصائص ليعرف الناس قدره، فيقوموا به على الوجه المشروع. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي القهار، مبيد الأجناد والجموع، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أتقى عابد وأهدى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في القنوت والخضوع، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واشكروه أن جعلكم من هذه الأمة، وخصكم بهذه الملة، فأصبحتم بذلك خير الأمم، وأكرمها على الله -عز وجل-. وإن مما ادخره الله لكم من الفضائل هذا اليوم المبارك، يوم الجمعة، فقد أضل الله عنه اليهود والنصارى، وهداكم له، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة هدانا الله له وضل الناس عنه، فالناس لنا فيه تبع هو لنا ولليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد"[النسائي (1368) ابن ماجة (1083) أحمد (2/519)]. فاعرفوا -أيها المسلمون-: حق هذا اليوم المبارك، وما اختص به من الفضائل، لعلكم تقومون بتعظيمه، وتعرفون أهميته. ففيه تمام خلق السماوات والأرض، فقد خلقهما الله في ستة أيام، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة. وفيه خلق أبوكم آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة؛ ففي هذا اليوم ابتداء الدنيا وانتهاؤها. في هذا اليوم ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ما لم يسأل إثما. وأرجى الساعات للإجابة ساعتكم هذه، وما بعد العصر، فساعتكم هذه فيها صلاة الجمعة، وانتظارها، وساعة بعد العصر فيها صلاة تحية المسجد، وانتظار صلاة المغرب، ومن كان في المسجد ينتظر الصلاة، فهو في صلاة. فتحروا -أيها المسلمون-: ساعة الإجابة في هذا اليوم، لعلكم تدركونها، فتفوزون بما تسألون. ومن خصائص هذا اليوم: تأكد الاغتسال فيه لصلاة الجمعة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم"[البخاري ومسلم وغيرهما] أي على كل بالغ. فلا ينبغي للمسلم أن يترك الاغتسال ليوم الجمعة؛ لأنه أمر مؤكد جدا، قال ابن القيم -رحمه الله-: "ووجوبه أقوى من وجوب الوضوء من مس النساء، ومس الذكر والرعاف والحجامة والقيء وأقوى من وجوب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد. وينبغي أن يتطيب، ويلبس أحسن ثيابه، ويبكر إلى المسجد، فيشتغل بالصلاة والقراءة والذكر، حتى يأتي الإمام. وينبغي أن يتقدم في المكان كما تقدم في الزمان، فيدنو من الإمام ولا يتأخر. ولقد رأيت بعض المحسنين المحبين للخير يأتون مبكرين للمسجد، لكنهم يصلون في مؤخرة المسجد، وهذا خلاف السنة، بل السنة أن يتقدموا، ويكملوا الصف الأول فالأول، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تقدموا وائتموا بي وليأتم بكم من وراءكم لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله"[مسلم وغيره]. ومن خصائص هذا اليوم: صلاة الجمعة وخطبتها التي أمر الله بالسعي إليها في كتابه، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الجمعة: 9]. وأجمع المسلمون على فرضيتها، وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من التهاون بها، فقال صلى الله عليه وسلم: "من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه"[الترمذي والنسائي وغيرهما]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام عن تركهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، فليكونن من الغافلين"[مسلم (865) النسائي (1370) أحمد (1/239) الدارمي (1570)]. فما أعظم حرمان هؤلاء الذين اتخذوا يوم الجمعة يوما للنزهة في البر يخرجون، فيدعون صلاة الجمعة! أما يخشى هؤلاء أن يشملهم هذا الحديث؟! أما يخشون أن يطبع الله على قلوبهم، فيكونوا من الغافلين عن ذكره المعرضين عن أمره؟! أما يخافون أن يبدلهم الله بهذا الأمن والرخاء خوفا وشدة؟! لقد حرموا أنفسهم الاجتماع بالمسلمين في هذا اليوم العظيم، وحرموا أنفسهم هذه الصلاة التي تكفر ما قبلها من صغائر الذنوب، وحرموا أنفسهم ذكر الله ودعاءه في الصلاة وفي الخطبة. والله لقد حرموا أنفسهم خيرا كثيرا، وعرضوها إثما كبيرا، ففي الأيام غير يوم الجمعة متسع لنزهاتهم، وشغل لفراغهم الفكري والنفسي، وحل لمللهم الحاصل بالعمل، فإن عندهم نصف النهار الأخير واسع صالح للنزهة. ولكن إذا كانوا يخرجون يوم الجمعة ويؤدون صلاة الجمعة في المساجد مع المسلمين، فلا حرج عليهم. ومن خصائص هذا اليوم: أنه لا يجوز لمن تلزمه الجمعة أن يسافر بعد الأذان لها، حتى يصلي إلا أن يؤديها في بلد في طريقه أو يخاف فوت سفره، مثل أن يريد السفر في الطائرة، ويخشى أن تفوته إن تأخر. ومن خصائص هذا اليوم: استحباب كثرة الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه. ومن خصائصه: أن الله -تعالى- يتجلى فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة، ويزورونه، فيكون أقربهم منه أقربهم إلى الإمام، وأسبقهم إلى زيارة الله؛ أسبقهم إلى الجمعة؛ خرج عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- إلى الجمعة، فوجد ثلاثة وقد سبقوه، فقال: "رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد" ثم قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس يجلسون يوم القيامة من الله على قدر رواحهم إلى الجمعة" [ابن ماجة (1094)]. وفي حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن الله اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض يجتمع فيه أهل الجنة يوم الجمعة، فيجيء النبيون فيجلسون على منابر من نور، ثم يجيء الصديقون والشهداء فيجلسون على منابر من ذهب، ثم يجيء أهل الغرف فيجلسون على كثبان المسك، فيتجلى لهم ربهم -عز وجل-، فينظرون إليه، فيقول لهم: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي، فسلوني، فيسألونه الرضى، فيقول: رضاي أنزلكم داري، وأن لكم كرامتي، فسلوني، فيسألونه الرضى، فيشهد لهم بالرضا، ثم يسألونه حتى تنتهي رغبتهم، ثم يفتح لهم يوم الجمعة، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة، ليزدادوا من كرامة الله، والنظر إلى وجهه الكريم، فذلك يوم المزيد". أيها المسلمون: إن يومكم هذا يوم عظيم فعظموه، وإن خيره جسيم فاغتنموه. وفقني الله وإياكم لتعظيم شعائره العظيمة، ونيل ذخائره الجسيمة؛ إنه جواد كريم. الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
الخميس 25 ربيع الأول 1439
النوافل | للشيخ د.حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه. أما بعد: فياأيها المسلمون: خير الأعمال وخير المسالك مسالك التقوى ولزوم طاعة الرب؛ فاسلكوها ليلا ونهارا وتحلوا بها سرًا وجهرًا. أيها المسلمون: من نعم الله -جل وعلا- على عباده أن شرع لهم ما يرفع الدرجات ويزيد في الحسنات تكرمًّا منه -سبحانه- ومن ذلك صلاة التطوع.. في الحديث القدسي الوارد في الصحيحين يقول الرب -جل وعلا-: " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَ بالنوافل حتى أحبه ". إن الإكثار من نوافل الصلاة سبب عظيم من أسباب الجنان ونيل شفاعة سيد الأنام- عليه أفضل الصلاة والسلام- قال صلى الله عليه وسلم ربيعة بن كعب السلمي " قال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم وهو الكريم- أعنِّي على نفسك بكثرة السجود ".. رواه مسلم. أيها المسلمون: من أفضل صلوات التطوع التي رغَّب فيها الشرع المحافظة على صلاة الوتر؛ فربنا -جل وعلا- يقول في وصف المتقين: (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات:17]، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن الله أمدكم بصلاة هي صلاة الوتر؛ فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر ".. الحديث إسناده صحيح. صلاة الوتر -أيها المسلمون- آخر الليل لمن يثق بنفسه القيام أفضل.. كما أرشد إلى ذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم- في عدة أحاديث، يقول عليه الصلاة والسلام: " أفضل الصلاة صلاة داود.. كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه " متفق عليه.. وأقل الوتر عند جماهير العلماء ركعة كما ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والسنة اثنا عشر ركعة مثنى مثنى .. يوتر بركعة واحدة.. ولا حد لأكثر على الصحيح لأقوال أهل العلم كما في الصحيحين: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة توتر له ما قد صلى ".. ويجوز للمسلم أن يسرد عشر ركعات ثم يجلس للتشهد ولا يسلم، ثم يأتي للركعة الأخيرة يتشهد فيها ويسلم.. وله أن يوتر بخمس ركعات متواصلة يسردها لا يسلم إلا في آخرها أو بسبع يسردها ولا يسلم إلا في آخرها، كما ثبت ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وله أيضاً أن يصلي ستًا ثم يتشهد ثم ينهض ولا يسلم ثم يأتي بالسابعة فيتشهد ويسلم.. وللمسلم أيضا أن يوتر بتسع.. يسرد ثمان ركعات ثم يجلس ويتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم.. ثبت ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث عائشة -رضي الله عنها- في صحيح مسلم.. ويجوز أيضاً أن يصلي الوتر بثلاث ركعات يسردها بسلام واحد، وهي إحدى الصفتين في الثلاث ركعات والثابتة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال أهل العلم والمتمثلون بالسنة من أوجهها المختلفة: " ومثل هذه الصفات المتنوعة تستحب في بعض الأحيان محافظة على أنواع السنة الواردة ". أيها المسلمون: وللمسلم أن يقنت في الوتر كما دل على ذلك تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم-للحسن بن علي.. والحديث ثابت على الصحيح من أقوال المحدثين، والأفضل ترك القنوت أحياناً كما ذكر ذلك المحققون من أهل العلم؛ لأن الذين وصفوا صلاته -صلى الله عليه وسلم- في الليل لم يذكروا القنوت في أغلب الأحاديث.. والأفضل القنوت بعد الركوع، ويجوز له أن يكون قبله لورود السنة الصحيحة بذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قنوت النوازل، ويستحب للمسلم أن يقول بعد وتره ثلاثاً (سبحان الملك القدوس).. يمد بها صوته في الثالثة كما ثبت ذلك عن رسولنا-صلى الله عليه وسلم- وزاد الدار قطني بسند جيد في قوله: سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح في الثالثة. إخوة الإسلام: من آكد التطوعات السنن الرواتب والتي تفعل مع الفرائض.. جاء في الحديث عن أم حبيبة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة " ، وقد فصلتها الأحاديث الصحيحة بأنها ركعتان قبل الفجر وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء.. والأفضل أن يفعل المسلم هذه النوافل في بيته كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: " صلوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ".. وآكد هذه الرواتب ركعتا الفجر حتى قيل بوجوبها عند بعض أهل العلم؛ ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها: " لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر".. متفق عليه، وفي صحيح مسلم عنها قالت: " إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها".. ولهذا لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتركها سفراً ولا حضراً هي والوتر، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى في السفر سنة راتبة غيرهما.. كما قاله شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وغيرهما من أهل العلم. وأما بقية التطوعات المطلقة -كقيام الليل وسنة الضحى وتحية المسجد- فهي مشروعة للمسافر لعموم الأدلة في ذلك. أيها المسلمون: ومن فاته شيء من الرواتب لعذر سُن له قضاؤه كما ثبت في السنة الصحيحة قولاً وفعلاً، وكذا يسن قضاء الوتر بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح لمن تركه لعذر لما جاء بالحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا أصبح أو ذكره ".. الحديث صححه الجماعة.. ولكن لا يقضى على صفته التي يكون في الليل، وإنما يجعل الركعة التي تكون وتراً يجعلها شفعاً لحديث عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها قالت: " وكان صلى الله عليه وسلم إذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشر ركعة " رواه مسلم. أيها المسلمون: ومن السنن المطلقة التي يسميها الفقهاء بالسنن غير الرواتب: أربع قبل الظهر وأربع بعدها كما جاء في الحديث: " من صلى أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرم الله وجهه على النار ".. الحديث صحيح عند أهل العلم، وأيضاً أربع قبل العصر.. كما جاء في الحديث الصحيح الذي صححه أهل العلم: " رحم الله امرءًا صلى قبل العصر أربعاً ". أيها المسلمون: ومن السنن الثابتة عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ركعتان قبل المغرب دل على ذلك عدة أحاديث، وهو فعل الصحابة -رضي الله عنهم- ويستحب للمسلم أن يصلي ركعتين بين الأذان والإقامة كما ثبت ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: " بين كل آذانين صلاة ". أيها المسلمون: ومن الصلوات المسنونة صلاة الضحى يقول أبي هريرة رضي الله عنه " أوصاني خليلي بثلاث وذكر منها ركعتي الضحى " وبمثل ذلك وصى أبي الدرداء عند مسلم ووصى أبي ذر كما عند النسائي، ووقتها من خروج وقت النهي أي من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى قبيل الزوال والأفضل إذا اشتد الحر وأقلها ركعتان ولا تحديد لأكثر ركعاتها على الصحيح لما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله ". ومما صح عن رسولنا صلى الله عليه وسلم الحث على الجلوس في المصلى بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح ثم أن يصلي بعد ذلك ركعتين وقد رتب على ذلك الأجر العظيم وجعله كأجر حجة وعمرة تامتين كما صحح ذلك الحفاظ. أيها المسلمون: ومن السنن المرغب فيها صلاة التوبة لحديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من عبد يذنب ذنب ثم يقوم فيتطهر فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له ".. ثم قرأ الآية (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135]. معاشر المسلمين: ومن السنن التي يترتب عليها الأجر العظيم ركعتا الوضوء لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال رضي الله عنه " يابلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة فقال: ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي " متفق عليه، وفي حديث عثمان في الصحيحين مرفوعاً لما وصف وضوئه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه "، فقادروا رحمكم الله إلى نيل الخيرات وسابقوا إلى الصالحات تنالوا رحمة رب الأرض والسماوات اللهم اغفر لنا أجمعين وأدخلنا في رحمتك يا أرحم الراحمين. الخطبة الثانية الحمد لله الذي بعث نبيه بالشرع القويم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحكيم، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله النبي الكريم اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها المسلمون.. اتقوا الله جل وعلا فمن اتقاه وقاه وأسعده ولا أشقاه. إخوة الإسلام: وهناك أوقات نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التطوع فيها تسمى عند أهل العلم أوقات النهي وهي ثلاثة في الجملة أحدها من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح وهو مقدر كما في بعض التقاويم الثابتة ولا يشرع التطوع بعد طلوع الفجر إلا بركعتي الفجر على الراجح من أقوال أهل العلم كما في الحديث الذي حسنه أهل العلم " إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر"، الوقت الثاني عند قيام الشمس حتى تزول، الثالث من بعد صلاة العصر حتى يتم غروب الشمس، ولكن للمسلم أن يصلي من النوافل في هذه الأوقات مما هو من ذوات الأسباب، أي التي جعل لها الشارع أسباب ولم يتركها تطوعات مطلقة على الراجح من أقوال أهل العلم مثل ركعتي الطواف وركعتي تحية المسجد وصلاة الجنازة وركعتي الوضوء. أيها المسلمون: لقد تسامع الناس عن الكارثة المالية العالمية والتي تهاوت فيها مصارف عالمية، وسقطت فيها شركات كبيرة، كل هذه المآسي ضمن سلسلة سلسلات التهاوي الاقتصادي الذي يحصل بين زمن وآخر كما لا يخفا على متابع ومستطلع، إن هذا كله برهان ساطع ودليل قاطع على أن المنهج البشري المخالف لمنهج الله جل وعلا لن يجر على البشرية إلا كل شر ووبال فهذه هي عاقبة الربا الذي حاربه الله ورسوله، وهذا مصير من قدم الدنيا على الدين وابتعد عن منهج المرسلين وصدق الله جل وعلا إذ يقول: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 276]، وإذ يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون) البقرة: [278 – 279] فيا أيها الناس في العالم كله: لقد اختار لكم ربكم جل وعلا رسولا عظيما جاء بالعقيدة الصافية والتشريع الكامل للخلق الذي يضمن لهم الحياة الطيبة والسعادة المنشودة في الدارين فا عرفوا شرع ربكم وهدي رسولكم تفلحوا و تسعدوا وتسلموا من كل الأخطار والشرور وتنجوا من العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، ثم إن الله جل وعلى أمرنا بأمر عظيم ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم. اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد وأرضى اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أحفظ المسلمين في كل مكان، اللهم أحفظ على المسلمين أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، اللهم اجعل لهم من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا، اللهم نفس كرباتهم يا ذا الجلال والإكرام اللهم اغفر لنا وللمسلمين الأحياء منهم والميتين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقنا لما تحب وترضى يارب العالمين، اللهم من أراد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل تدبيره في تدميره، اللهم بصر المسلمين بحقائق شرعهم وهدي سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم. اللهم وفقنا لطاعتك، اللهم وفقنا للعمل الصالح الذي ترضى به عنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما فيه خير رعاياهم في دنياهم ودينهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم وفق شبابنا للتعليم السليم الذي يرضي ربهم جل وعلا، اللهم وفقهم لصالح الأعمال ولأحسن الأخلاق وأحفظهم من الفتن والشرور يا ذا الجلال والإكرام . اللهم يا غني يا حميد مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين أجدبت ديارنا وقحطت أرضنا اللهم فأغثنا اللهم اسقنا برحمتك، اللهم لا تعاملنا بذنوبنا اللهم ارحمنا بشيوخنا الركع، اللهم ارحمنا ببهائمنا الرتع، اللهم ارحمنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم فأسقي ديارنا اللهم استجب لنا يا ذا الجلال والإكرام، عباد الله اذكروا الله ذكرا كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الشيخ د. : حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ
الأربعاء 24 ربيع الأول 1439
المحافظة على الصلاة وعقوبة من أضاعها | للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الخطبة الأولى: الحمد لله الذي فرض الصلوات على عباده رحمة بهم وإحسانا، وجعلها أعظم صلة بينه وبين عباده، فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأنعم بقرب مولانا، والحمد لله الذي رتب على إقامتها سعادة وبرا وإحسانا، وتوعد من أضاعها، أن يلقى غيا وشقاء وهوانا، وذلك ليحرص العباد على فعلها، ويحذروا من التهاون بها، فما أجدرنا بالشكر وأولانا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الجواد العظيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وأَقِيمُوا: (الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا)[النساء:103]. عظموها؛ فقد عظمها الله إذ فرضها على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من غير واسطة من فوق سبع سموات، هي عمود الدين، وآخر ما تفقدون من دينكم، فهل يستقيم الدين بلا عماد، وهل يبقى في الدين شيء إذا ذهب آخره؟ ألم تعلموا أن الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن من صغائر الذنوب؟ ألم تعلموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شبهها بنهر يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات فهل يبقى بعد ذلك في جسده شيء من الأوساخ والعيوب؟ ألم تعلموا أن من حافظ عليهن كانت له نورا في قلبه وقبره، ويوم القيامة، وكانت له حجة، وبرهانا، ونجاة من العذاب؟ لقد امتدح الله أباكم إسماعيل بأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة، أو قال: وجبت له الجنة"[أبو داود(429)]. عباد الله: إن لكم الخير الكثير في المحافظة على الصلوات وإقامتهن، فهن عون لكم على أمـور دينكم ودنيـاكم: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)[البقرة: 45]. أيها المسلمون: لقد حذركم الله من إضاعة الصلاة، والاستخفاف بها، فقال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ)[مريم: 59 – 60]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة"[مسلم (82) الترمذي (2620) أبو داود (4678) ابن ماجة (1078) أحمد (3/370) الدارمي (1233)]. وقال: "من حافظ عليها يعني الصلوات كانت له نورا، وبرهانا، ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عيها لم يكن له نور، ولا برهان، ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف"[أحمد (2/169) الدارمي (2721)]. وقال: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح، وأنجح، وإن فسدت، فقد خاب، وخسر"[الترمذي (413) النسائي (465) ابن ماجة (1425) أحمد (2/425)]. ألا وإن من أعظم صلاحها: أن يخشع فيها قلبك، وتخشع فيها جوارحك. فأما خشوع القلب، فحضوره واستحضاره بأن يحرص المصلي غاية ما يقدر عليه على إحضار قلبه، واستحضاره لمعاني ما يقول ويفعل، فإن الخشوع روح الصلاة ولبها ومعناها، وإن صلاة بلا خشوع كجسد بلا روح، وكلام بلا معنى. وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل لينصرف، وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها"[أبو داود (796) أحمد (4/321)]. يعني -والله أعلم- أن ذلك على حسب حضور قلبه فيها وإحسانها. وأما خشوع الجوارح، فمعناه: أن يحرص غاية الحرص على إتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في حركاته وسكناته، في ركوعه وفي سجوده، في قيامه وفي قعوده، وأن يحرص على أن لا يتحرك إلا لحاجة. ألا وأن من صلاح الصلاة: أن تطمئن في القيام والقعود والركوع والسجود، فمن نقر صلاته، ولم يطمئن فيها فلا صلاة له، ولو صلى مئة مرة حتى يطمئن فيها. ألا وإن من صلاح الصلاة: أن يؤديها جماعة في المساجد، فإن ذلك من واجبات الصلاة التي دل على مشروعيتها الكتاب والسنة. لقد خاب قوم تهاونوا بصلاتهم حتى ثقلت عليهم، فأشبهوا بذلك المنافقين تجد أحدهم تحبسه الحاجة الدنيوية ساعة أو ساعتين أو أكثر من ذلك، ولو كانت قليلة وزهيدة، ولا يستطيع أن يصبر عشر هذا الزمن للصلاة المكتوبة الصلاة عنده أثقل من الجبال، وتنعيم بدنه، واتباع لذاته عنده هو رأس المال. فما أعظم خسارته! وما أطول ندمه عند أخذ الكتب باليمين وبالشمال!. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ)[البقرة: 238]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم… الخ… الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
الأحد 21 ربيع الأول 1439
العناية بالصلاة والخشوع فيها | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الخطبة الأولى: الحمد لله الذي فرض على عباده الصلوات لحكم بالغة وأسرار، وجعلها صلة بين العبد وبين ربه ليستنير بذلك قلبه، ويحصل له المطلوب في الدنيا ودار القرار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الغفار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله –تعالى-؛ و(حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ)[البقرة:238]. حافظوا على الصلوات بأداء أركانها وشروطها وواجباتها، ثم كملوها بفعل مستحباتها، فإن الصلاة عمود الدين، ولا دين لمن لا صلاة له. أيها المسلمون: لقد فرضت الصلاة على نبيكم من الله -تعالى- إليه بلا واسطة، وفرضت فوق السماوات العلى، وفرضت خمسين صلاة حتى خفضت إلى خمس صلوات بالفعل، وخمسين بالميزان. ألم يكن هذا أكبر دليل على فضلها والعناية بها؟ الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، يقف بين يديه مكبرا معظما، يتلو كتابه، ويسبحه ويعظمه، ويسأله من حاجات دينه ودنياه ما شاء. جدير بمن كان متصلا بربه: أن ينسى كل شيء دونه، وأن يكون حين هذه الصلة، خاشعا قانتا معظما مستريحا. ولذلك كانت الصلاة قرة أعين العارفين، وراحة قلوبهم لما يجدون فيها من اللذة والأنس بربهم ومعبودهم ومحبوبهم. جدير بمن اتصل بربه: أن يخرج من صلاته بقلب غير القلب الذي دخلها فيه أن يخرج منها مملوءا قلبه فرحا وسرورا وإنابة إلى ربه وإيمانا. ولذلك كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما يحصل للقلب منها من النور والإيمان والإنابة. جدير بمن عرف حقيقة الصلاة وفائدتها وثمراتها: أن تكون أكبر همه، وأن يكون منتظرا إليها، مشتاقا إليها، ينتظر تلك الساعة بغاية الشوق، حتى إذا بلغها ظفر بمطلوبه، واتصل اتصالا كاملا بمحبوبه. أيها المسلمون: إن كثيرا من المصلين لا يعرفون فائدة الصلاة حقيقة، ولا يقدرونها حق قدرها، ولذلك ثقلت الصلاة عليهم، ولم تكن قرة لأعينهم، ولا راحة لأنفسهم، ولا نورا لقلوبهم، ترى كثيرا منهم ينقرون الصلاة نقر الغراب، لا يطمئنون فيها، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلا. وهؤلاء لا صلاة لهم، ولو صلوا ألف مرة؛ لأن الطمأنينة في الصلاة ركن من أركانها، ولذلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي كان لا يطمئن في صلاته: "ارجع فصل، فإنك لم تصل". فصلى عدة مرات، وكل مرة يقول له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ارجع فصل، فإنك لم تصل" حتى علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره بالطمأنينة". وتجد كثيرا من الناس إن لم يكن أكثر الناس يصلي بجسمه لا بقلبه جسمه في المصلى، وقلبه في كل واد، فليس في قلبه خشوع؛ لأنه يجول، ويفكر في كل شيء، حتى في الأمور التي لا مصلحة له منها. وهذا ينقص الصلاة نقصا كبيرا، وهو الذي يجعلها قليلة الفائدة للقلب، بحيث يخرج هذا المصلي من صلاته، وهي لم تزده إيمانا ولا نورا، وقد فشا هذا الأمر، أعني الهواجيس في الصلاة. ولكن الذي يعين على إزالته، هو: أن يفتقر العبد إلى ربه، ويسأله دائما أن يعينه على إحسان العمل. وأن يستحضر عند دخوله في الصلاة: أنه سيقف بين يدي ربه وخالقه الذي يعلم سره ونجواه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وأن يعتقد بأنه إذا أقبل على ربه بقلبه أقبل الله عليه، وإن أعرض أعرض الله عنه. وأن يؤمن بأن روح الصلاة ولبها، هو الخشوع فيها، وحضور القلب. وأن الصلاة بلا خشوع القلب كالجسم بلا روح، وكالقشور بلا لب. ومن الأمور التي تستوجب حضور القلب: أن يستحضر معنى ما يقول، وما يفعل في صلاته، وأنه إذا كبر، ورفع يديه، فهو تعظيم لله، وإذا وضع اليمنى على اليسرى، فهو ذل بين يديه، وإذا ركع، فهو تعظيم لله، وإذا سجد، فهو تطامن أمام علو الله، وأنه إذا قال: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الفاتحة:2]. أجابه الله من فوق عرشه قائلا: حمدني عبدي، فإذا قال: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)[الفاتحة:3]. قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5] قال الله: "هذا بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل". هكذا يجيبك مولاك من فوق سبع سموات، فاستحضر ذلك، وإنك إذا قلت: "سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى" وإن كنت تقولها بصوت خفي، فإن الله -تعالى- يسمع ذلك، وهو فوق عرشه، فما ظنك إذ آمنت بأن الله -تعالى- يقبل عليك إذا أقبلت عليه في الصلاة، وإنه يسمع كل قول تقوله، وإن كان خفيا، ويرى كل فعل تفعله، وإن كان صغيرا، ويعلم كل ما تفكر فيه، وإن كان يسيرا. إذا نظرت إلى موضع سجودك، فالله يراك، وإن أشرت بأصبعك عند ذكر الله في التشهد، فإنه تعالى يرى إشارتك، فهو تعالى المحيط بعبده علما وقدرة وتدبيرا وسمعا وبصرا، وغير ذلك من معاني ربوبيته. فاتقوا الله -تعالى- أيها المسلمون- وأقيموا صلاتكم، وحافظوا عليها، واخشعوا فيها، فقد قال ربكم في كتابه: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[المؤمنون: 1- 11]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم… الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
السبت 20 ربيع الأول 1439
الصلاة وحكمة تشريعها | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الخطبة الأولى: الحمد لله الذي فرض على عباده الصلوات لحكم عظيمة وأسرار، وجعل هذه الصلوات مكفرات لما بينهن من صغائر الذنوب والأوزار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والعزة والاقتدار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين الأبرار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعرفوا ما لله من الحكم العظيمة فيما أمركم به من العبادات، وفيما نهاكم من موجبات الإثم والسيئات، فإن الله -تعالى- لم يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم، فإن الله غني عن العالمين، وإنما أمركم بما أمركم به لاحتياجكم إليه وقيام مصالحكم الدينية والدنيوية عليه. فالعبادات التي أمر الله بها كلها صلاح للأبدان، وصلاح للقلوب، وصلاح للأفراد، وصلاح للشعوب، وإذا صلحت القلوب صلحت الأبدان، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"[البخاري (52) مسلم (1599) ابن ماجة (3984) أحمد (4/270) الدارمي (2531)]. أيها الناس: إنكم محتاجون إلى ربكم، ومضطرون إليه ليس بكم غنى عنه طرفة عين، فاعبدوه، واشكروه، وأديموا ذكره وشكره. ولقد شرع الله لكم من العبادات ما يقربكم إليه، ويستوجب الأجر والثواب. شرع لكم هذه الصلوات الخمس التي تطهر القلوب من الذنوب، وتوصل العبد إلى غاية المطلوب الصلوات التي هي صلة بين العبد وبين خالقه وفاطره، يطهر ظاهره وباطنه حين يريد الصلاة، فيأتي إليه بطهارة الباطن والظاهر، ويقف بين يدي ربه خاشعا خاضعا لا يلتفت بقلبه، ولا بوجهه قلبه متصل بالله، ووجهه إلى بيت الله. فهو متوجه إلى ربه ظاهرا وباطنا يتلو كتابه، ويتدبر ما يقوله ربه من أوامر ونواهٍ، ويتأمل ما يتلوه من أحسن القصص التي بها المواعظ والاعتبار، إذا مرت به آية رحمة طمع في فضل الله، فسأل الله من فضله، وإذا مرت به آية وعيد خاف من عذاب الله، فاستعاذ به منه، ثم يركع حانيا ظهره، ورأسه تعظيما لله الرب العظيم، فيقول: "سبحان ربي العظيم" مستحضرا بذلك عظمة من لانت لعظمته الصعاب، وخضعت لعزته الرقاب، فيكون معظما لله بقلبه ولسانه وجسده بظاهره وباطنه، ممتثلا بذلك أمر ربه ورسوله، حيث يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)[الحج: 77]. ويقول سبحانه: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[الواقعة: 74]. قال النبي -صلى الله عليه وسلم–: "اجعلوها في ركوعكم"[أبو داود (869) ابن ماجة (887) أحمد (4/155) الدارمي (1305)]. ثم بعد أن يقول ما شاء الله من تعظيم ربه، يرفع رأسه مثنيا على ربه، حامدا له على إحسانه الكامل، وصفاته العليا، فإنه المحمود على كل حال المشكور بكل لسان. ثم بعد ذلك يخر ساجدا واضعا أعلى جوارحه، وأشرف أعضائه على الأرض، جميع أعضائه العاملة: الوجه واليدان والرجلان، كلها لاطئة في الأرض، ليس فيها شيء عال على شيء. وحينئذ يستحضر من تنزه عن السفول يستحضر علو الرب الأعلى، فيقول: "سبحان ربي الأعلى" ينزه ربه عن السفول، ويصفه بالعلو المطلق، فإنه تعالى عال بذاته، عال بصفاته، فهو فوق كل شيء، وصفاته أعلى الصفات وأكملها. ومن أجل هذا التواضع الذي يضع الساجد فيه نفسه تعظيما لربه، كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فبعد أن يسبح ربه الأعلى، يدعو الله -تعالى- بما أحب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي حري- أن يستجاب لكم"[مسلم (479) النسائي (1120) أبو داود (876) أحمد (1/219) الدارمي (1325)]. وبعد هذا السجود، والذل لله يقوم، فيجلس جلسة الخاضع واضعا يديه على فخذيه يسأل ربه المغفرة والرحمة والعافية. ويختم صلاته بتعظيم الله -تعالى- ووصفه بما هو أهله: التحيات لله، الصلوات، الطيبات، ويسلم على نبي الله، ثم على نفسه، ومن معه، ثم على كل عبد صالح في السماء والأرض، ثم يعود للصلاة والتبريك على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يستعيذ بالله من مضار الدنيا والآخرة، يقول: "أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال". ويدعو بما شاء، فالمصلي -أيها المسلمون-: متنقل في رياض العبادة ما بين قيام، وقعود، وركوع، وسجود، وقراءة، وذكر، ودعاء قلبه عند ربه في كل هذه الأحوال، فأي نعيم أعظم من هذا النعيم، وأي حال أطيب من هذه الحال؟ ولهذا كانت الصلاة قرة عيون المؤمنين، وروضة أنس المشتاقين، وحياة قلوب الذاكرين، فتثمر نتائجها العظيمة، ويخرج المصلي بقلب غير قلبه الذي دخل به فيها يخرج بقلب ممتلئ نورا وسرورا وصدر منشرح للإسلام فسيحا، فيجد نفسه محبا للمعروف كارها للمنكر، ويتحقق له قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)[العنكبوت: 45]. عباد الله: إن عبادة هذه نتائجها، وعملا هذا شأنه، لجدير بنا أن نسعى لتحقيقه، والعناية به، وأن نجعله نصب أعيننا، وحديث نفوسنا. والله نسأل أن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يعيذنا من نزعات الشيطان، وصده، وأن يجعلنا ممن حقق قول الله -تعالى-: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ)[البقرة: 238]. إنه جواد كريم… الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
الاثنين 15 ربيع الأول 1439
الذكر بعد الصلاة | الشيخ د.صالح بن فوزان الفوزان
الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمين، أمر بذكره في كل الأوقات، وخاصةً في أدبارِ الصلوات، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أرجو بها النجاةَ، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله وخيرته من جميع البريات، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّمَ تسليماً كثيراً ما تعاقبت الأوقات. أما بعدُ: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلمُوا أَنَّ الله أمرَكُم بالإِكثار من ذكره، فقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41-42]. وخصَّص سبحانه: الأمرَ بذكره بعد أداء العبادات، فأمرَ بذكره بعد الفراغ من الصلوات، فقال سبحانه: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) [النساء:103]. وقال سبحانه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10]. وأمر بذكرِهِ بعد إكمال صيام رمضان، فقال سبحانه: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]. وأمر بذكره بعد قضاء مناسك الحج، فقال سبحانه: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة:200]. وذلك -والله أعلم- جبرٌ لما يحصُلُ في العبادة من النقص والوساوس، ولإِشعار الإِنسان أنَّهُ مطلوبٌ منه مواصلةُ الذكر والعبادة، لئلاَّ يَظُنَّ أنه إذا فَرَغَ من العبادة، فقد أدَّى ما عليه. والذكرُ المشروع بعد صلاة الفريضة: يجبُ أن يكونَ على الصفةِ الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا على الصفة المحدثة المبتدعة التي يفعَلُها الصوفية المبتدعة. ففي صحيح مسلم عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا انصرَفَ من صلاته، استغفرَ الله، ثلاثاً، وقال: "اللهُمَّ أنتَ السلامُ، ومنك السلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرام". وفي الصحيحين عن المغيرةِ بن شُعبة -رضي الله عنه-: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كانَ إذا فَرَغَ من الصلاةِ، قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، اللهُمَّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ". وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كانَ يُهَلِّلُ دُبُرَ كل صلاةٍ حينَ يُسَلِّمُ بهؤلاء الكلمات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير، لا حولَ ولا قوة إلا بالله. لا إله إلا الله، ولا نعبُدُ إلا إيَّاهُ، له النعمة، وله الفضلُ، وله الثناءُ الحسن، لا إله إلا الله مخلصينَ له الدين ولو كَرِهَ الكافرون". وفي السنن من حديث أبي ذر: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قال في دُبُرِ صلاة الفجر وهو ثانٍ رجلَيْه قبل أن يتكلَّمَ: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، يحيي ويميتُ وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، عشر مرات، كُتِبَ له عشر حسنات، ومُحِيَ عنه عشرُ سيئات، ورُفِعَ له عشرُ درجات، وكان يومهُ ذلك كلُّه في حِرْزٍ من كل مكروهٍ وحرس من الشيطانِ، ولم ينبغِ لِذَنْبٍ أن يُدرِكَه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله"[قالَ الترمذي: "هذا حديث حسنٌ صحيح]. وَوَرَدَ: أنَّ هذه التهليلات العشر تُقالُ بعدَ صلاةِ المغرب أيضاً، من حديثِ أم سلمة عند أحمد وحديثِ أبي أيوب الأنصاري في صحيح ابن حبان، ويقول بعد المغرب والفجر أيضاً: "ربِّ أجِرْني من النارِ" سبعَ مرات، لِما رواه أحمدُ وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم. ثُم يسبِّحُ الله بعدَ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، ويحمَدُه ثلاثاً وثلاثين، ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويقولُ تمامَ المئةِ: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ" لِما روى مسلم: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَبَّحَ الله في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، وحَمِدَ الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّرَ الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعةٌ وتسعون، ثم قالَ تمامَ المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؛ غُفِرَتْ له خطاياه، وإن كانت مثلَ زَبَدِ البحر". ثم يقرأُ: آيةَ الكرسي، وقل هو الله أحد، وقُل أعوذ بربِّ الفلق، وقل أعوذُ بربِّ الناس؛ لِما رواه النسائي والطبراني عن أبي أُمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قرأَ آيةَ الكرسي دُبُرَ كُلِّ صلاة لم يمنَعْهُ من دخولِ الجنة إلا أن يموتَ". يعني: لم يكن بينَه وبينَ دخول الجنة إلا الموتُ. وفي حديث آخر: "كانَ في ذِمَّةِ الله إلى الصلاة الأخرى". وفي السنن عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "أمرني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أقرأَ المعوذتين دُبُرَ كل صلاةٍ". عبادَ الله: دلَّت هذه الأحاديث الشريفة على مشروعيةِ هذه الأذكار بعد الصلواتِ المكتوبة، وعلى ما يحصُلُ عليه مَنْ قالَها من الأجرِ والثواب. فينبغي لنا المحافظةُ عليها، والإِتيان بها على الصفةِ الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن نأتيَ بها بعدَ السلام من الصلاة مباشرةً قبلَ أن نقومَ من المكان الذي صلَّينا فيه، ونرتِّبَها على هذا الترتيب. فإذا سلَّمنا من الصلاةِ، نستغفرُ الله ثلاثاً، ثم نقولُ: اللهُمَّ أنتَ السلام ومنك السلام تباركتَ يا ذا الجلال والإِكرام، ثم نقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم لا مانَع لِما أعطيتَ ولا مُعطيَ لما مَنَعْتَ، ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ. أي: لا ينفع الغنيَّ منك غناهُ، وإنَّما ينفعُه العملُ الصالح. ثم نقولُ: لا حول ولا وقوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبُدُ إلا إيَّاهُ، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسنُ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كَرَه الكافرون. ثم نسبِّحُ الله ثلاثاً وثلاثين، ونحمَدُه ثلاثاً وثلاثين، ونكبِّرهُ ثلاثاً وثلاثين، ونقولُ تمامَ المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير. وبعدَ صلاةِ المغرب وصلاة الفجر نأتي بالتهليلاتِ العشرِ، ونقول: ربِّ أَجرنِي من النارِ، سبعَ مراتٍ. ثم بعدَ أن نفرَغَ من هذه الأذكار على هذا الترتيب نقرأُ آيةَ الكرسي، وسُوَرَ: قُل هو الله أحد، والمعوِّذتين، ويُستحَبُّ تكرارُ قراءة هذه السُّوَرِ بعد صلاةِ المغرب، وصلاةِ الفجر ثلاثَ مراتٍ. ويُسْتَحَبُّ الجَهْرُ بالتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير، عَقِبَ الصلاة، لكن لا يكون بصوتٍ جماعي، وإنَّما يرفع به كلُّ واحدٍ صوتَه منفرداً. ويستعين على ضبط عدد التهليلات، وعددِ التسبيح والتحميد والتكبير، بعقد الأصابعِ؛ لأنَّ الأصابعَ مسؤولات مُستنطَقات يومَ القيامة. ويُباحُ استعمالُ السبحةِ، لِيَعُدَّ بها الأذكارَ، والتسبيحات من غيرِ اعتقاد أنَّ فيها فضيلةً خاصةً، وكَرِهَها بعضُ العلماء، وإن اعتقد أنَّ لها فضيلةً، فاتخاذُها بدعةٌ، وذلك مثلُ السُّبَحِ التي يتخذُها الصوفيةُ، ويعلِّقُونها في أعناقِهم، أو يجعلونها كالأسورةِ في أيديهم. وهذا مع كونه بدعةً، فإنَّ فيه رياءً وتكلُّفاً. ثم بعدَ الفراغ من هذه الأذكار يدعو سرّاً بما شاء، فإنَّ الدعاءَ عَقِبَ هذه العبادة وهذه الأذكار العظيمة أحرَى بالإِجابة، ولا يرفَعُ يديه بالدعاءِ بعد الفريضة كما يفعَلُ بعضُ الناس، فإن ذلك بدعةٌ، وإنما يفعَلُ هذه بعدَ النافلة أحياناً. ولا يجهَرُ بالدعاءِ، بل يُخفيه؛ لأنَّ ذلك أقربُ إلى الإِخلاص والخشوع، وأبعدُ عن الرياء. وما يفعلُه بعض الناس في بعضِ البلاد من الدعاء الجماعي بعد الصلوات بأصوات مرتفعة مع رفعِ الأيدي، أو يدعو الإِمام والحاضرون يؤمِّنونُ رافعي أيديهم، فهذا العملُ بدعةٌ منكرةٌ؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كانَ إذا صلَّى بالناسِ يدعو بعدَ الفراغِ من الصلاة على هذه الصفة لا في الفجر ولا في العصر، ولا غيرهما من الصلوات. ولا استحَبَّ ذلك أحدٌ من الأئمة. قالَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية، مَنْ نَقَلَ ذلك عن الإِمام الشافعي فقد غَلِطَ عليه، فيجبُ التقيدُ بما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك وفي غيره؛ لأنَّ الله -تعالى- يقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7]. ويقول سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، أمرَ بالتزوُّدِ من الخيرات، وذلك بفعلِ الطاعات، والإِكثار من الحسنات. وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، تُسَبِّحُ بحمدِهِ الأرضُ والسماواتُ وجميع المخلوقات، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، حَثَّ على أداءِ السنن والرواتبِ بعد الصلوات المفروضات، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانَ تنافُسُهم في المسابقةِ إلى الخيرات، وسلَّمَ تسليماً كثيراً. أمَّا بعدُ: عبادَ الله: اتقوا الله -تعالى-، وأكثروا من الحسنات، وتوبُوا من السيئات، وحافظوا على الصلوات، قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود:114]. ثم اعلموا -رحمكم الله- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- شَرَعَ لكم سنناً رواتبَ مع الفرائض، وهي سننٌ متأكدة يُكْرَهُ تركُها، ومن دوامَ على تركِها سَقَطَتْ عدالتُه، فتُرَدُّ شهادتُه؛ لأنَّ ذلك يدُلُّ على قلةِ دينه، فحافِظُوا عليها. وهي عشرُ ركعات أو اثنتا عشرة ركعة، ركعتان قبلَ الظهر، وقيل: أربع ركعات، وهو الصحيح، وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبلَ صلاة الفجر بعدَ طلوع الفجر؛ لقولِ ابنِ عُمر -رضي الله عنهما-: "حَفِظْتُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرَ ركعات: ركعتينِ قبلَ الظهر، وركعتين بعدَها، وركعتين بعدَ المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبلَ الصُّبح، كانت ساعةً لا يدخُلُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها أحدٌ، حدَّثتني حفصةُ: أنَّه كان إذا أذَّنَ المؤذنُ، وطلع الفجر صَلَّى ركعتين" [متفق عليه]. وقالت عائشةُ -رضي الله عنها-: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- على شيءٍ من النوافل أشدَّ تعاهُداً منه على ركعتي الفجرِ"[متفق عليه]. وفي صحيح البخاري: عن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ لا يَدَعُ أربعاً قبلَ الظهر. ومَنْ فاتته راتبةُ الفجر قبلَها، فالأفضلُ أن يصلِّيَها بعدما تطْلُعُ الشمس، وإن صلاَّها بعدَ صلاة الفجر، فلا بأسَ. واعلموا أنَّ خيرَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهَدْيِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-… الشيخ د. : صالح بن فوزان الفوزان
الأربعاء 10 ربيع الأول 1439
الخشوع في الصلاة | للشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
أمّا بعد: فيا أيّها الناس: اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى. عبادَ الله: إنَّ الله -جلّ وعلا- وصفَ عبادَه المؤمنين بصفاتٍ حميدة، بيّنها لنأخذَ بها ونطبِّقها لننالَ برحمةِ الله الثوابَ العظيم المترتِّب على ذلك العمل، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـاشِعُونَ) [المؤمنون:1- 2]، إلى أن قال: (وَلَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوتِهِمْ يُحَـافِظُونَ * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْورِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ) [المؤمنون:9-11]. أيّها المسلم: ابتَدأ الله صفاتِ المؤمنين بقوله: (لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـاشِعُونَ)، مدَح المؤمنين بأنهم خاشِعون في صلاتهم. ومعنى الخشوع: السكينةُ في الصلاة، خشوعُ القلب وذلُّه لله. ذلكم الخشوعُ نتيجة استحضار قلب المسلم حينما يقِف بين يدَي الله، يستحضِر عظمةَ من يقف بين يدَيه وكبريائه وجلاله، وأنّه يقف بين يدَي ربِّه وخالقه ورازقه والمتصرِّف في أحواله كلِّها. إذًا: فتصوُّر عظمةِ ذلك الموقِف يؤدِّي إلى خشوعِ القلب، وإقباله على الله. أيّها المسلم: الصلاةُ من أجلِّ الأعمال وأفضلِ الأعمال، هي الركنُ الثاني من أركانِ الإسلام، هي عمودُ الإسلام. هذه الصلوات الخمس المحافظةُ عليها والعنايةُ بها سببٌ لزكاءِ القلب وطهارةِ النفس وتهذيب الأخلاق والسلوك، ولكن لا يتحقَّق ذلك إلاَّ إذا خشَعتَ في صلاتك وأقبلتَ عليها بقلبِك وفرَّغتَ قلبك من كلّ شُغل أثناء الأداء إلاَّ بهذه الصلاة، بقراءَتها وأذكارِ ركوعها وسجودِها وجلوسها، وتأمَّلتَ ذلك حقَّ التأمّل، فإنك بذلك تخشع في صلاتك. أيّها المسلم: مقامُ الخشوعِ القلب؛ فالقلبُ ملِك الأعضاء، في الحديث: "ألا وإنَّ في الجسد مضغةً؛ إذا صلح لها صلح الجسد كلّه، وإذا فسدَت فسد لها الجسد كلّه، ألا وهي القلب". فمقام الخشوع في قلبِ العبد؛ فإذا خشَع قلبه خشعت جوارحُه، إذا خشَع قلبه خشعَت لله جوارحه، فترى ذلك المصليَ مقبلاً على صلاته، قليلَ العبَث والحركة، مقبِلاً بقلبه على صلاته، متدبِّرًا لقراءتها والأذكار المشروعةِ في كلّ ركن من أركانها، فيخرُج منها وقد زَكت نفسُه وصلح قلبه واستقام حالُه وتأثَّر بأداء تلك الفريضة التأثرَ المطلوب شرعًا، (وَأَقِمِ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:45]. أيّها المسلم: إنَّ الصلاة شاقّةٌ على الكثير إلاَّ على الخاشعين؛ فالخاشعون يؤدّون هذه الصلاةَ عن رغبةٍ وحبٍّ وشوق إليها، قال تعالى: (وَسْتَعِينُواْ بِلصَّبْرِ وَلصَّلَوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَـاشِعِينَ) [البقرة:45]. إذًا فالخاشِعون فيها أداؤها يسير عليهم، وفعلُها غير شاقّ عليهم، بل يجدون في أدائها راحةَ القلب، وطمأنينةَ النفس، وانشراحَ الصدر، فهي قرّة أعينِ أهل الإيمان وراحتُهم ولذّة نفوسِهم، (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَـاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رجِعُونَ) [البقرة:45- 46]، فليقينِهم بملاقاة الله، وأنّ مردَّهم إلى الله؛ سهُلت تلك الصلاة عليهم، فأقبلوا عليها بقلوبهم مطمئنِّين خاشعين ذليلين مستكينين لرب العالمين. أيّها المسلم: إنَّ للخشوعِ في الصلاة أسبابًا، بيَّن ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأولاً: يقول: "أمِرت أن أسجدَ على سبعةِ أعظُم، وأن لا أكفَّ شعرًا ولا ثوبًا". إذًا فالعبَث بالثياب والشعر ونحو ذلك مما يضعِف خشوعَ القلب في الصلاة، فمن كان في صلاتِه يعبِث بملابسِه بشَعره ونحو ذلك؛ فذاك مما يسبِّب عدمَ خشوع قلبه. ومن الأسباب أيضًا: عدمُ رفعِ البصر هنا وهناك، فالنبيّ يقول: "لينتهينَّ أقوامٌ عن رفعهم أبصارَهم إلى السماء"، فاشتد قوله حتى قال: "أو لا ترجع إليهم". ومن أسباب ذلك: البعدُ عن نظرِ كلِّ شيء يمكن أن يشغلَ القلبَ ويلهيَه، جاء في الحديث أنّ عائشة -رضي الله عنها- سترت بيتَها بسِتارة فيها تصاوير، فقال لها النبي: "أزيلي عنّا قرامَك هذا؛ فإنّ تصاويرَه لا تزال تعرِض لي في صلاتي". فابتعَدَ عن كلِّ مظهر ورؤيةِ كلّ شيء يمكِن أن يشغل قلبَه. صلّى في خميصةٍ لها أعلام، فنظر إلى أعلامِها، فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهمٍ، وأتوني بأنبجانيّة أبي جَهم، فإنّ أعلامَها أشغلتني عن صلاتي".فصلوات الله وسلامه عليه، ما أشدَّ خوفَه من الله وبعدَه عن كلّ شيء يشغِله عن خضوع قلبه في صلاته. ومن الأسباب -أيضاً-: ما جاء في الحديث أنّه قال: "لا صلاةَ بحضرةِ طعام، ولا وهو يدافِعه الأخبثان"، فأخبرَ أنّ المسلمَ لا يدخُل في الصلاة وعنده توَقانٌ للطعام لشدة جوعه وحِرصه، حتى يدخلَ الصلاةَ وهو حاضرُ القلب لا يتعلَّق قلبه بذلك. وكذلك من حُصِر ببولٍ أو غائط، فلا بدّ من استفراغِ ذلك حتى لا يكون ذلك مشغِلاً له عن حضورِ الصلاة، وقال: "إذا حضَر المغرب والعَشاء فابدؤوا بالعشاء قبلَ المغرِب". أيّها المسلم: ومن الأسبابِ -أيضًا-: البعدُ عن العبَث بالأشياء؛ فالنبيّ نهى المسلمَ عن مسِّ الحصَى وهو يصلّي، وقال: "إن كان لا بدّ فواحدة"، حتى تسلَم له صلاته. أيّها المسلم: أوصيك بالخشوعِ في صلاتك، أقبل عليها بقلبك، واتّق الله فيها، واعلم أنه لن تستفيدَ من صلاتك إلاَّ على قدرِ خشوعك فيها، جاء في الحديث عنه قال: "إنّ العبدَ ليصلّي الصلاةَ ما يكتَب له إلاَّ نصفُها، إلا ثلثُها، إلا ربعُها، إلا سدسُها"، حتى قال: "إلا عشرها"، بمعنى أنَّ هذه الصلاةَ لا تنال منها إلا على قدرِ حضور قلبِك وإقبالِك عليها. قال بعض السلف: "يقِف الناسُ في الصفِّ وما بين هذا وهذا ما بين السماء والأرض". أحدٌ قلبه معلَّق بالخير، دائرٌ حولَ الخير والهدى، وإنسانٌ واقف بجسده وقلبُه يجول في الدنيا هنا وهناك. أيّها المسلم: كلما عظُمت الصلاة في نفسِك وكلّما كانت غاليةً عندك عزيزةً عليك كلّما ازددتَ خشوعًا وإقبالاً على القلبِ فيها وعدمِ الحركة والعبث فيها. أقبل عليها، أدِّها مطمئنًّا فيها، خاشعًا في قيامها وركوعِها وسجودِها لاستحضارِك عظمةَ مَن تقف بين يديه، فيكون المسلم محبًّا لهذه الصلاة راغبًا فيها متعلِّقًا قلبُه بها. أيّها المسلم: يقول: "ما مِن مسلم تحضرُه صلاة مكتوبةٌ فيحسِن وضوءَها وركوعَها وخشوعَها إلاَّ كفَّرت ما بينه وبين الصلاة الأخرى ما لم تؤتَ كبيرة، وذلك الدهرَ كله" أيّها المسلم: فإذا كان الخشوع في الصلاة سببًا لأن تكفِّر عنك ما بين الصلاة والصلاة الأخرى من صغائرِ الذنوب فاحرص على هذا الخشوع، وأقبِل على صلاتك، ولا تكن فيها من العابثين المتساهلين. كم يصلّي الفردُ منا وللأسف الشديد لو تسأله: ماذا قرأ الإمام؟ لم يعطك جواب، وكم صلى الإمام؟ لم يعطك جواب. لماذا؟ وقف في الصفّ بجسده، ولكنَّ القلبَ غائب. رأى عمر -رضي الله عنه- رجلاً يعبث في صلاتِه فقال: "لو خشَع قلبُ هذا لخشعَت جوارحه". فالقلبُ لو خشع لكانت الجوارحُ خاشعة، لكن لما كان القلبُ غافلاً وغائبًا كان أثرُ ذلك على جوارحِ ذلك المصلّي. فاعلم أنّ خشوعَ القلب بقلّة العبث، واعلم أن كثرةَ العبَث دليلٌ على قلّة الخشوع وضّعف الخشوع. فيا أخواني: احرِصوا على صلاتكم، واحفَظوها تبقَ لكم، وأدّوها كما أمِرتم، لتكونَ عونًا لكم على كلّ خير، ومسهِّلةً لكم القيامَ بالواجب. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمّا بعد: فيا أيّها الناس: اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى. عبادَ الله: النبيّ قال: "إذا صلّى أحدُكم إلى شيء يستُره من الناس فأراد أحدٌ أن يمرَّ بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتِله فإنما هو شيطان". أيّها المسلم: ما السببُ في أن المصلّيَ يتأكَّد في حقّه، بل قد يجب في حقِّه أن يمنعَ المارَّ بينه وبين سُترته، لماذا؟ الحكمة من ذلك أن لا يشتغلَ القلب بأيّ منظَر؛ فمنعُك الإنسانَ من المرورِ بين يديك حرصًا على حضور قلبك، وأن لا يكونَ ذلك المارّ مشغِلاً لقلبك وملهيًا لنفسك، بل تقبِل على صلاتك، فإذا كثُر المارّون بين يديك فإنّ ذلك يشغل قلبَك ويلهيه، ولا يجعلك تخشَع في صلاتك الخشوع المطلوب. أيّها المسلم: إنّ عدوَّ الله إبليس يحاوِل إفسادَ صلاة العبدِ بكلّ ما أوتي من إمكان، لأنّه إذا أشغلَ قلبَه في صلاته ضاعت عليه صلاتُه وقلَّ تأثّره واستفادته منها. جاء في الصحيح: "أنّ الشيطان يقِف عند بابِ المسجد، فإذا أذِّن للصلاة ولى وله ضراط حتى لا يسمعَ الأذان، فإذا انقضى الأذان أقبل عند بابِ المسجد، فإذا ثوِّب بالصلاةِ -الإقامة- ولى له ضُراط، فإذا انقضت أقبل حتى يحولَ بين الرجل وبين قلبِه"، يقول: "اذكُر كذا اذكر كذا"، بمعنى أن يذكّره ما غابَ عنه، وأن يحضِر له كلَّ بعيد، ويقرِّب له كلَّ بعيد، حتى يشغلَ قلبَه ويلهيه عن صلاته. لكن إذا وجَد قلبًا حيًّا يقضًا، وقلبًا مستنيرًا بالخير، وقلبًا مقبلِاً على الله وقلبًا واثِقًا بالله، وقلبًا مفرَّغًا لطاعة الله؛ فإنّ عدوَّ الله لا يجِد لذلك ملجأً، عدوّ الله يغتنم فرصات الغفلة، فإذا وجَد قلبًا يقضًا مستنيرًا بالخير، محروسًا بالأذكار والأوراد؛ فإنّ الشيطان لا يجد له منفذًا، فيرجع خائبًا خاسئًا. أيّها المسلم: فأقبِل على الصلاة، واعلم أنّك في جهاد في صلاتك، بينك وبين عدوّ الله الذي يريد أن يفسدَها عليك، ويضعِف دورَها في نفسك. فأنت في جهادٍ في صلاتك، فأقبِل عليها واستعِن بالله على ذلك، وتدبَّر قراءة القرآن، وأنصِت لقراءةِ الإمام، وتذكَّر أذكارَ الركوع والذكرَ بعد الركوع وأذكارَ السجود والذكرَ بين السجدتين والتشهدَ الأوّل والأخير، وأقبِل على الدعاءِ في الصلاة، فإنّك بذلك تسلَم من مكائد عدوّ الله، أعاذني الله وإيّاكم من ذلك. واعلموا -رحمكم الله- أنّ أحسن الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار. وصلّوا -رحمكم الله- على عبدِ الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم حيث يقول: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56] اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين. الشيخ : عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
الثلاثاء 9 ربيع الأول 1439
الحث على الجمعة والجماعة | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الخطبة الأولى: الحمد لله الحكيم في خلقه، وأمره القوي في أخذه، وقهره شرع لعباده الشرائع لينالوا بها أعلى الدرجات، وينجوا بها من الهلاك والدركات. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم، والخير العميم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المصطفى الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وأقيموا الصلاة، فإنها عمود الدين، وهي العهد الذي بين المؤمنين والكافرين، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. أقيموها بفعلها في وقتها بجميع أركانها وواجباتها وشروطها. اطمئنوا فيها في القراءة والركوع والسجود والقيام والقعود، فلا صلاة لمن لا طمأنينة له. فالمصلي قائم خاشع بين يدي ربه، وكلما كان الإنسان أعظم راحة وفرحا بالصلاة كان إيمانه أكمل، ولذلك كانت الصلاة قرة عين النبي -صلى الله عليه وسلم- وراحة قلبه، أقيموا الصلاة، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد، وأدوا الصلاة جماعة في المساجد، فإن ذلك من واجبات الصلاة كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة؛ قال الله -تعالى-: (وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ)[البقرة: 43]. وأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقيم الجماعة في أصحابه، وهم في الحرب عند التقاء الصفوف، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: أن أعمى جاءه، وليس له قائد يقوده إلى المسجد، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: "هل تسمع النداء؟" قال: نعم، قال: "فأجب"[مسلم (653) النسائي (850)]. وأخبر أن أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، وأنهم لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، وإن أحدهم لو يعلم أنه يجد عرقا سمينا، وهو العظم عليه بقية اللحم، أو مرماتين حسنتين، وهما ما بين ظلفي الشاة، أو أضلاعها لشهد العشاء"[البخاري (626) مسلم (651) أحمد (2/472)]. فالمنافق تثقل عليه صلاة الجماعة لكن لو يجد شيئا زهيدا من الدنيا لبادر إليه وذلك؛ لأنه لا إيمان في قلبه، ولو كان مؤمنا لبادر إلى فضل الآخرة، وسارع إليه؛ لأن الآخرة هي المآل، وهي المستقبل. فاحذروا -أيها المسلمون-: من صفات المنافقين، وجاهدوا أنفسكم على الطاعات، ومرنوها عليها تكونوا من المفلحين، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "من سره أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر، فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، أو مريض، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين، حتى يقام في الصف هكذا حال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يتخلف منهم أحد عن صلاة الجماعة إلا بعذر، ومن تخلف بلا عذر، فهو معلوم النفاق عنـدهم". وعن أبي بن كعـب -رضي الله عنه- قـال: "صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما الصبح، فقال: "أشاهد فلان؟" قالوا: لا، قال: "أشاهد فلان؟" قالوا: لا، قال: "إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه"[النسائي (843) أبو داود (554) أحمد (5/140) الدارمي (1269)]. أيها المسلمون: حافظوا على صلاة الجمعة، وإياكم والتهاون بها، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين"[مسلم والنسائي وغيرهما]. وقال: "من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه"[الترمذي والنسائي وأبو داودوغيرهما] ولقد كان بعض الناس يخرجون بأهليهم أو مع أصحابهم في هذا اليوم المبارك الذي من الله به على أمة محمد، وأضل عنه اليهود والنصارى، فيفوتون صلاة الجمعة، وهؤلاء قد عرضوا أنفسهم لعقاب الله، وسخطه، فليحذروا ذلك، فليحذروا ذلك، فليحذروا ذلك، ولقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الراعي يتخذ الغنم على رأس ميل أو ميلين، فيتعذر عليه الكلأ، فيرتفع، ثم تجيء الجمعة، فلا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها حتى يطبع على قلبه"[ابن ماجة (1127)]. فهؤلاء الذين يخرجون إلى البر في يوم الجمعة إن كانوا يصلون الجمعة في بلدهم أو غيرها، فقد أدوا ما بينهم وبين الله، ولكنهم قد عرضوا أنفسهم لكلام الناس فيهم، وإن كانوا لا يصلون الجمعة، ولا يبالون بها، فما أعظم خسارتهم لقد فوتوا الخير الكثير، وعرضوا أنفسهم للعذاب الأليم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الجمعة: 9 – 10]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…الخ… الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
الخميس 4 ربيع الأول 1439
الحث على إقامة الصلاة مع الجماعة | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الخطبة الأولى: الحمد لله الذي فرض الصلاة على عباده رحمة بهم وإحسانا، وجعلها صلة بينه وبينهم ليزدادوا بذلك إيمانا، وكررها كل يوم حتى لا يحصل لهم الجفاء، ويسرها عليهم حتى لا يحصل لهم التعب والعناء، وأجزل لهم ثوابها، فكانت بالفعل خمسا، وبالثواب خمسين فضلا منه وامتنانا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالقنا، ومولانا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أخشى الناس لربه سرا، وإعلانا الذي جعل الله قرة عينه في الصلاة، فنعم العمل الصلاة لمن أراد به فضلا ورضوانا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- و(حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ)[البقرة: 238]. عباد الله: إن الصلاة عمود دينكم وقوامه، فلا دين لمن لا صلاة له، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. إقامة الصلاة إيمان، وتركها كفر. من حافظ عليها كانت له نورا في قلبه، ونورا في وجهه، ونورا في قبره، ونورا في حشره، وكانت له نجاة يوم القيامة، وحشر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور، ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف. أيها المسلمون: كيف تضيعون الصلاة وهي الصلة بينكم وبين ربكم إذا لم يكن بينكم وبين ربكم صلة؟ فأين العبودية؟ وأين المحبة لله والخضوع له؟ لقد خاب، وخسر قوم إذا سمعوا داعي الدنيا وزهرتها لبوا له سراعا، وإذا سمعوا منادي الله يدعو: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" تثاقلوا عنه، وولوا أدبارا. أيها المسلمون: ألم تعلموا أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله. يا أمة محمد: أقيموا صلاتكم ما دمتم في زمن المهلة، تعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، فإن من ينسى الله نسيه، ومن أضاع أمره أضاعه. يا أمة محمد: من منكم عنده أمان من الموت حتى يتوب، ويصلي أليس كل منكم يخشى الموت ولا يدري متى يأتيه؟ لا يدري أيصبحه أم يمسيه؟ ألم يكن الموت يأخذ الناس بغتة وهم لا يشعرون؟ أما هجم على أناس في دنياهم غافلون؟ أما بغت أناسا خرجوا من بيوتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون؟ فمن منكم أعطي أمانا أن لا تكون حاله كحال هؤلاء؟ أيها المسلمون: وماذا بعد الموت الذي لا تدرون متى يفاجئكم؟ إنه ليس بعده عمل، ولا استعتاب ليس بعده سوى الجزاء على العمل: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7 – 8]. أيها المسلمون: أيها المؤمنون بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وما أنزل عليه من ربه: إن مما أوجب الله عليكم في صلاتكم: أن تؤدوها في المساجد في جماعة المسلمين: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ)[البقرة: 43]. هذه هي طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم -صلى الله عليه وسلم- سنن الهدي، وإنهن من سنن الهدي، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر، فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف". أيها المسلمون: إن الصلاة مع الجماعة في المساجد من واجبات صلاتكم، ومن إقامتها والمحافظة عليها، المصلي مع الجماعة قائم بما فرض الله عليه، والمتخلف عن الجماعة، بلا عذر، عاص لربه، مخاطر بصلاته، فإن من علماء المسلمين من يقول عن من ترك الصلاة مع الجماعة بدون عذر؛ فصلاته باطلة، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وقاله الإمام أحمد في رواية عنه: "المصلي مع الجماعة هو الكيس الحازم الحائز للغنيمة، فإن الصلاة مع الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، والمتخلف عن الجماعة بلا عذر كسول مهمل محروم تشبه حاله حال المنافقين الذين قال الله فيهم: (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى)[النساء: 142]. وقال فيهم نبيهم -صلى الله عليه وسلم-: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، والذي نفس محمد بيده لو يجد أحدهم عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء"[النسائي (843) أبو داود (554) أحمد (5/140) الدارمي (1269)]. أقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الواحد من هؤلاء المنافقين المتخلفين عن الجماعة، لو وجد شيئا زهيدا من الدنيا لحضر الصلاة، وإن كثيرا من المتخلفين عن الجماعة لو كان له شغل من الدنيا وقت طلوع الفجر مثلا لوجدته حريصا عليه حاضرا في وقته. الصلاة مع الجماعة، نشاط وطمأنينة، والتخلف عنها كسل وإسراع بها غالبا بدون طمأنينة ينقرها المصلي نقر الغراب، وربما أخرها عن وقتها. صلاة الجماعة، تجلب المودة والألفة، وتنير المساجد بذكر الله، وتظهر بها شعائر الإسلام. في صلاة الجماعة، تعليم الجاهل، وتذكير الغافل، ومصالح كثيرة. أرأيتم لو لم تكن الجماعة مشروعة، وحاش لله أن يكون ذلك، فماذا تكون حال المسلمين؟ الأمة متفرقة، والمساجد مغلقة، وليس للأمة مظهر جماعي في دينهم، ومن أجل ذلك كان من حكمة الله ورحمته أن أوجبها على المسلمين، فاشكروا الله -أيها المسلمون- على هذه النعمة، وقوموا بهذا الواجب، واستحيوا من ربكم أن يفقدكم حيث أمركم، واحذروا عقابه ونقمته أن يجدكم حيث نهاكم. أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره، وحسن عبادته، وجمعنا في هذه الدنيا على طاعته، وفي الأخرى في دار كرامته، وهدانا صراطه المستقيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم … الخ… الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين
الخميس 4 ربيع الأول 1439