صليتُ الفجر في رحاب البيت العتيق، يوم الجمعة 14 جمادى الآخرة من عام 1436هـ.
كان الجو جميلاً، وكان الهواء عليلاً.
وقد قرأ إمام الحرم سورة السجدة في الركعة اﻷولى، وسورة الإنسان في الركعة الثانية؛ تطبيقًا للسنة النبوية الواردة في ذلك.
فسألتُ نفسي: ما الحكمة من قراءة هاتين السورتين في فجر كل جمعة؟
تأمَّلت في ذلك واﻹمامُ يَقرأ، فرأيتُ أن السورتين تحكيانِ قصة حياة الإنسان؛ من بداية خلقه، مرورًا بحياته في الدنيا واختياراته فيها، ثم مصيره في اﻵخرة.
وحولَ هذه المحاور الثلاثة تتحدَّث السورتان!
وكأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يحكي قصة حياة الإنسان في فجر كل يوم جمعة؛ ليكون على ذُكْر منها في كل أيام اﻷسبوع، وبعض البيان في اﻵتي:
1 - المحور اﻷول: بداية خلقه:
قال تعالى في سورة السجدة: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ﴾ [السجدة: 7 - 9]، إلى أن قال: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 9].
وفي سورة الإنسان قال تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [الإنسان: 2].
2 - المحور الثاني: حياته واختياراته:
وفي سورة السجدة هناك الإنسان المؤمن الصالح، الشاكر الساجد - وفيها سجدةٌ تحقيقًا لذلك، وتحققًا فيه - والقائم في الليل، المنفق في النهار.
وهناك الإنسان الكافر المجرم، الظالم الفاسق.
وفي سورة الإنسان: هناك الإنسان الشاكر البار، العابد الخائف، المطعِم لوجه الله تعالى، وعلى حبِّه من غير جزاءٍ على فعل، ولا طلبٍ لشكر!
وهناك الإنسان الكافر الظالم.
3 - المحور الثالث: مصيره:
ويلاحَظ أن الحديث عن مصير المؤمن في سورة السجدة كان موجَزًا؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17].
بينما جاء في سورة الإنسان مفصَّلاً بصورة واضحة، وهناك تفصيلاتٌ دقيقة عن النعيم في الجنة؛ لا حَرَمنا الله سبحانه منها!
كما يُلاحَظ أن الحديث عن مصير الكافر في سورة السجدة كان مطوَّلاً، بينما كان موجزًا في سورة الإنسان!
ولعل الحكمة من ذلك: أن اﻹنذار في الركعة اﻷولى كان مطوَّلاً، بينما جاءت البشارة في الركعة الثانية مطولة؛ رحمةً بهذا المؤمن الساجد؛ لِيَسكن بذلك قلبه، وتطمئنَّ نفسه!
وكأن الحق سبحانه يخاطب الإنسان: يا أيها الساجدُ بين يديَّ، ارفع رأسك، واستَمِع إلى ما أخفيتُ لك من نعيم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17].
ثم جاء التفصيل والبيان في سورة الإنسان التي اختار النبيُّ صلى الله عليه وسلم قراءتها في الركعة الثانية؛ ليبيِّن جانبًا من إكرام الحق تعالى لهذا الإنسان الساجد.
فصلى الله عليك يا رسول الله، ما أشدَّ عطفك وحنانك ورحمتَك بالمؤمنين!