تسخين الماء للوضوء في الشتاء:
بعض الناس يتحرج من تسخين الماء للوضوء في الشتاء، ظانًّا أن الوضوء في الماء البارد مع تحمل شدة البرد أثوب وأفضل، وهذا الكلام غير صحيح، ولم يرد أي دليل شرعي في عدم جواز تسخين الماء للوضوء.
وقال الإمام الأُبِّي المالكي في كتابه إكمال إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم: (تسخين الماء لدفع برده ليتقوى على العبادة لا يمنع من حصول الثواب المذكور)، يقصد الثواب المذكور في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره...))؛ (رواه مسلم وأحمد والنسائي والترمذي).
وبيَّن الشيخ ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين نقطة هامة فقال: (أن يشق الإنسان على نفسه ويذهب يتوضأ بالماء البارد ويترك الساخن، أو يكون عنده ما يسخن به الماء، ويقول: أريد أن أتوضأ بالماء البارد؛ لأنال هذا الأجر، فهذا غير مشروع؛ لأن الله يقول: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾ [النساء: 147]، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا واقفًا في الشمس، قال: ((ما هذا؟))، قالوا: نذر أن يقف في الشمس، فنهاه عن ذلك، وأمره أن يستظل؛ فالإنسان ليس مأمورًا ولا مندوبًا إلى أن يفعل ما يشق عليه ويضره، بل كلما سهلت عليه العبادة فهو أفضل، لكن إذا كان لا بد من الأذى والكره فإنه يؤجر على ذلك؛ لأنه بغير اختياره).
تنشيف الأعضاء بعد الوضوء في الشتاء:
بعض الناس يتحرج من تنشيف الأعضاء بعد الوضوء في الشتاء، وجمهور العلماء قالوا بإباحة تنشيف الأعضاء بعد الوضوء في الشتاء وغير الشتاء؛ لأن الأصل في هذا الفعل الإباحة.
وقال الإمام النووي: (وحكى ابن المنذر إباحة التنشيف عن عثمان بن عفان، والحسن بن علي، وأنس بن مالك، وبشير بن أبي مسعود، والحسن البصري، وابن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، والضحاك، ومالك، والثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد، وإسحاق).
وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه المغني: (لا بأس بتنشيف أعضائه بالمنديل من بلل الوضوء والغسل، وهو المنقول عن الإمام أحمد، وقد روي أخذ المنديل بعد الوضوء عن عثمان والحسن بن علي وأنس، وكثير من أهل العلم، وهو الأصح؛ لأن الأصل الإباحة، تركُ النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الكراهة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك المباح كما يفعله)؛ (بتصرف).
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حكم تنشيف أعضاء الوضوء، فأجاب فضيلته: (تنشيف الأعضاء لا بأس به؛ لأن الأصل عدم المنع، والأصل فيما عدا العبادات من العقود والأفعال والأعيان: الحلُّ والإباحة حتى يقود دليل على المنع، فإن قال قائل: كيف تجيب عن حديث ميمونة رضي الله عنها، حينما ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل، قالت: فأتيته بالمنديل فرده، وجعل ينفض الماء بيده؟!
فالجواب: أن هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم قضية عين تحتمل عدة أمور: إما لأنه لسبب في المنديل، أو لعدم نظافته، أو يخشى أن يبله بالماء، وبلله بالماء غير مناسب، فهناك احتمالات، ولكن إتيانها بالمنديل قد يكون دليلًا على أن من عادته أن ينشف أعضاءه، وإلا لما أتت به).
الطين والوحل في فصل الشتاء:
يعلق في ثياب المصلين وهم في طريقهم إلى المسجد الطين والوحل نتيجة المطر، فهل هذا الطين طاهر أم نجس؟
طين الشوارع ليس نجسًا، بل هو طاهر إذا لم تعلم نجاسته؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة، فإن خالطته نجاسة يسيرة يعفى عنه إن لم يظهر عين النجاسة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه مجموع الفتاوى: (فطين الشوارع إذا قدر أنه لم يظهر به أثر النجاسة فهو طاهر، وإن تيقن أن النجاسة فيه، فهذا يعفى عن يسيره؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم كان أحدهم يخوض في الوحل، ثم يدخل المسجد، فيصلي ولا يغسل رجليه، وهذا معروف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من الصحابة).
جاء في كتاب الشرح الصغير للإمام الدردير المالكي فيما يعفى عنه من النجاسات: (يعفى عن طين المطر، ونحوه، كطين الرش، ومستنقع الطرق، وكذا يعفى عن ماء المطر، وما ذكر معه، حال كون ما ذكر من الطين، أو الماء مختلطًا بنجاسة... سواء كانت النجاسة عَذِرة (أي غائط)، أو غيرها ما دام الطين طريًّا في الطرق يخشى منه الإصابة ثانيًا، ولو بعد انقطاع نزول المطر، ومحل العفو ما لم تغلب النجاسة على الطين بأن تكون أكثر منه يقينًا، أو ظنًّا كنزول المطر على مطرح النجاسات، أو ما لم تُصِبِ الإنسان عين النجاسة الغير المختلطة بغيرها، وإلا فلا عفو، ويجب الغسل).
جاء في الموسوعة الفقهية أقوال العلماء في طين الشوارع المختلط بنجاسة: (يرى الشافعية والحنابلة: العفو عن يسير طين الشارع النجس؛ لعُسر تجنبه، قال الزركشي تعليقًا على مذهب الشافعية في الموضوع: وقضية إطلاقهم العفو عنه، ولو اختلط بنجاسة كلب أو نحوه، وهو المتجه، لا سيما في موضع يكثُرُ فيه الكلاب؛ لأن الشوارع معدن النجاسات، ومذهب الحنفية قريبٌ من مذهب الشافعية والحنابلة، إذ قالوا: إن طين الشوارع الذي فيه نجاسة يُعفى عنه، إلا إذا علم عين النجاسة، والاحتياط في الصلاة غسله، ويقول المالكية: الأحوال أربعة: الأولى والثانية: كون الطين أكثر من النجاسة أو مساويًا لها تحقيقًا أو ظنًّا: ولا إشكال في العفو فيهما، والثالثة: غلبة النجاسة على الطين تحقيقًا أو ظنًّا، وهو معفوٌّ عنه على ظاهر المدونة، ويجب غسله على ما مشى عليه الدردير تبعًا لابن أبي زيد، والرابعة: أن تكون عينها قائمة، وهي لا عفو فيها اتفاقًا).
وقال الإمام المرداوي الحنبلي في كتابه الإنصاف: (طين الشوارع، فهو طاهر على الصحيح من المذهب، وقال ابن تميم: هو طاهر ما لم تُعلَم نجاسته)؛ (بتصرف).
وجاء في الموسوعة الفقهية: (ما يصيب ثوبه أو رِجله من طين المطر أو مائه المختلط بنجاسة ما دام موجودًا في الطرق ولو بعد انقطاع المطر، فيعفى عنه بشروط ثلاثة:
1- ألا تكون النجاسة المخالطة أكثر من الطين أو الماء، تحقيقًا أو ظنًّا.
2- ألا تصيبه النجاسة بدون ماء أو طين.
3- ألا يكون له مدخلٌ في الإصابة بشيء من ذلك الطين أو الماء؛ كأن يعدِل عن طريق خالية من ذلك إلى طريق فيها ذلك).
والأحوط العمل على أن طين الشوارع في الشتاء طاهرٌ ما لم يُعلم نجاسته، فإذا تيقنا أن ما مس الثوب من الطين والوحل فيه نجاسة ظاهرة، فلا بد من إزالتها، وغسل الثوب بالماء لتطهيره، والله تعالى أعلى وأعلم.
وبما أن طهارة البدن والثوب والمكان من شروط الصلاة، فلا تجوز الصلاة بالثوب الذي علقت فيه عين النجاسة، أما النجاسة اليسيرة التي لا يظهر عينها إذا خالطت طين الشوارع وأصابت الثوب فمعفوٌّ عنها.
ملاحظة هامة: من صلى وعلى ثوبه نجاسة فإن صلى وهو عالم بها، فلا تصح صلاته؛ لأنه خالف أمر الله ورسوله، فوجب عليه إعادة الصلاة، وإن صلى وهو متلبس بالنجاسة على الثوب، لكن جهِلها حتى فرغ من الصلاة، ففي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تفسد صلاته، وهو قول: ابن عمر، وعطاء، وسعيد بن المسيب، وسالم، ومجاهد، والشعبي، والزهري، وإسحاق، وابن المنذر، والشافعي في قول، وأحمد في رواية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ورجحه الشيخ ابن باز وابن عثيمين.
الثاني: يعيد الصلاة، وهو قول: الشافعي في الأصح، والإمام أحمد في رواية، وعليها المذهب؛ لأنها طهارة مشترطة للصلاة، فلم تسقط بجهلها، كطهارة الحدَث.
الثالث: يعيد الصلاة ما كان في الوقت، ولا يعيد بعده، وهذا قول مالك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة لم تجب عليه الإعادة في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره وأحمد في أقوى الروايتين، وسواءٌ كان علِمها ثم نسيها أو جهلها ابتداءً؛ لِما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه ثم خلعهما في أثناء الصلاة لَمَّا أخبره جبريل أن بهما أذى، ومضى في صلاته ولم يستأنفها مع كون ذلك موجودًا في أول الصلاة لكن لم يعلم به، فتكلفه للخلع في أثنائها - مع أنه لولا الحاجة لكان عبثًا أو مكروهًا - يدل على أنه مأمور به من اجتناب النجاسة مع العلم، ومظنة تدل على العفو عنها في حال عدم العلم بها).