إن الحمد لله نحمده ونستعينه
كان حبيبنا المصطفى عليه الصلاة والسلام إذا أتعبته الدنيا بمشاغلها.. وأنهك التعب جسده الشريف.. وتكالبت عليه الهموم والغموم.. توجه إلى بلال قائلًا له: "أرحنا بالصلاة يا بلال"، وقال عليه الصلاة والسلام: "حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة"، أي: تقر وتسعد عيناه بالصلاة رواه النسائي.
نعم!! فالصلاة راحة للقلب.. راحة للجسد.. راحة للنفس.. راحة للخاطر والفكر.. الصلاة سعادة وأنس، كيف لا؟ وهي الصلة بين العبد وربه، فكلما أحسن صلته به وزاد تقويتها وإحسانها، زاد في السعادة والارتياح.
كم سمعنا هذه الأحاديث مرات ومرات وكم منا من حرم هذه السعادة والراحة.. إما لأنه بعيد عن الصلاة بجسده، فلا يكاد يصلي إلا بعض الأوقات، وإما لأنه بعيد عن الصلاة بقلبه، فتجده يصلي ولكنه يصلي حاضر الجسد غائب القلب والروح..
عباد الله:
يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45] فالصلاة الحقيقية التي أمرنا الله بها هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.. وكم نرى ونسمع ممن يصلي ومع ذلك لا تمنعه صلاته لا من منكر ولا فحشاء، ولا خلق سيء، ولا قول فاحش بذيء.
إذًا أين الخلل وما السبب؟
أيها المؤمنون: إن أردنا تحصيل الراحة في صلاتنا وأردنا أن تكون صلاتنا مانعة لنا عن كل منكر وفحشاء.. فعلينا أن نصلي الصلاة الحقيقية التي يريدها الله منا.. الصلاة التي صلاها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. الصلاة التي أُمرنا بإقامتها وليس بأدائها.. نريد الصلاة التي تُؤثر فينا في زيادة إيماننا، وصلاح قلوبنا وأجسادنا، والرقي بسلوكنا وأخلاقنا.
دعونا أيها الكرام نتعرف على هذه الصلاة التي بها يحصل كلُّ ذلك.
عبد الله:
إذا قمت إلى صلاتك وتوجهت لربك، فاستشعر قبل كل شيء أنك تقف بين يدي ربك جل وعلا، بين يدي الكبير السميع البصير العليم، فكيف سيكون وقوفَك؟
لو وقَف أحدُنا أمام ملك من ملوك الدنيا، أو أمير من أمرائها، لوجدته يقف خاضعًا خاشعًا لا يلتفت كثيرًا، ولا ينشغل بشيء، ولا يحرك يديه يعبث بهما، ولله المثل الأعلى فالله أحق وأولى أن يكونَ حالنا بين يديه مثل ذلك خشوع وخضوع واستكانة.. يقول عليه الصلاة والسلام: « إذا قام أحدكم في الصلاة فإنه يُناجي ربه ».
ثم بعد ذلك يا عبدالله كبِّر واستشعر أنَّ اللهَ أكبر من كل شيء سبحانه وتعالى، ففي كل ركوع، وقيام، وسجود، وجلوس تقول: " الله أكبر " نعم فالله أكبر جلا وعلا.
ثم اقرأ فاتحة الكتاب قراءة متدبرة متأملة متأنية.. فللأسف البعض إن صلى بمفرده صلاة جهرية، أو صلاة سرية، أو نافلة، تجده يقرأ الفاتحة بسرعة عجيبة، ولو رفع صوته بها قليلًا وسمعه من بجانبه لربما لم يعرف ماذا يقول؟ وماذا يقرأ؟ من شدة سرعته، وقد تَبطُل صلاتُه بهذه السرعة المخلة بالمعنى، وإن صليت خلف الإمام في صلاة جهرية، فتأمل وتدبر ما يقرأ من الفاتحة وما بعدها من آيات، يقول تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204]، فالرحمة تُطلب من الاستماع والإنصات إلى آيات كتاب الله.
ثم صلي صلاة خاشعة.. فالخشوع هو لب الصلاة.. فأجرك في الصلاة على قدرك خشوعك فيها.. فكلما خشعت زاد أجرك وكنت من المفلحين، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2]، يقول ابن القيم رحمه الله: "علَّق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم، فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح"، وقال ابن كثير رحمه الله: " الخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فرَّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين"ويقول عليه الصلاة والسلام: « إن الرجل لينصرفُ - أي: من صلاته - وما كُتب له إلا عُشر صلاته، تُسعُها، ثُمُنُها، سُبعها، سُدُسها، رُبُعها، ثُلُثها، نصفها»؛ رواه أبو داود، فقد يتوضأ العبد ويصلي ويُتعب نفسه، فيركع ويسجد ثم ينصرف وما كُتب له أجر في صلاته كلها؛ لأنه فارغ القلب، قلبه لاهٍ خارج عن الصلاة مشغول بالدنيا وبأشغالها، فاحرص أيها المصلي كلما خرج قلبك منها، رُدَّه إليها وجاهد نفسك فيها، ولا تكن ممن يدخل في صلاته ثم يخرج منها وما علم ما قرأ الإمام وما فعل فيها؟ والشيطان حريص أن يُلبِّس عليك صلاتك ويُبطلها عليك، فقد ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ العبد إذا دخل في صلاته أقبل عليه الشيطان يوسوس له: « يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكرُ حتى يَظَلَّ الرجلُ لا يدري كم صلى »؛ رواه البخاري.
أيها المؤمنون:
والصلاة ثقيلة وكبيرة إلا على الخاشعين، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]، فهي على الخاشع سهلة يسيرة يتلذذ ويستمتع بها، وأما غير الخاشع فكأنها مثل الجبل على رأسه يريد الخلاصَ منها، لذلك تجده إن أتى إلى الصلاة فعادته يأتي إليها متأخرًا متثاقلًا، ويخرج منها مسرعًا مهرولًا، وممن يعين على الخشوع في الصلاة الحضور مبكرًا لها والمشي إليها، فإذا سمعت النداء بالصلاة، فاترك كل ما في يديك من شغل مهما كان ولبي منادي الرحمن حي على الصلاة حي على الفلاح، فهذا هو هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، سُألت عائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله - أي في خدمتهم - فإذا سمع الأذان خرج. رواه البخاري
كذلك مما يُعين على الخشوع الصلاة في الصف الأول، وقراءة آيات من القرآن، وذكر الله، والدعاء بين الأذان والإقامة، فكل ذلك من التهيؤ للصلاة والاستعداد لها.
ثم بعد ذلك اطمئن في جميع صلاتك في وقوفك وركوعك وسجودك وجلوسك.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل، فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد وقال: « ارجع فصل، فإنك لم تصل - الرجل صلى ولكن صلاته غير صحيحة - فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « ارجع فصل، فإنك لم تصل »؛ ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره، فعلمني، فقال: « إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها»؛ رواه البخاري، نعم؛ لأن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة إن ذهبت بطلت الصلاة، والكثير وخاصة من الشباب قد يصلي ويخل بهذا الركن ولا يأتي به، فتراه إذا ركع قام مباشرة، وإذا رفع سجد، وإذا سجد رفع بسرعة عجيبة كأنه آلة تعمل، وكم نرى من يصلي بجوارنا بعد أن فاتته ركعات، فتجد المطمئن في الركعة الثانية، والآخر في الركعة الأخيرة ثم يسلم بسرعة ويخرج. فهل هذه صلاة؟.
ثم بعد ذلك أيها المصلي إذا ركعت وسجدت وجلست، فقل كل ذكر بتمهل وتمعن، ولا تسرع في الإتيان به، فقل سبحان ربي العظيم في الركوع، وسبحان ربي الأعلى في السجود، واجعل نزولك وقيامك وجلوسك بتمهل وتُؤدة، ولا ترم بنفسك رميًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد:
عباد الله: كم من آيات ذكر الله فيها الصلاة وحث عليها، وكلها كانت بالحث على إقامته وليس أدائها، فإقامة الصلاة هي الإتيان بها كما أمر الله، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وأما أدائها فقد يكون مجرد حركات يأتي بها العبد بجسده بدون قلب ولا روح. فقد قال تعالى: (﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾، ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾، ﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾، ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾، ﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ﴾ ولم يأت لفظٌ بأدائها؛ لأن المقصود هو إقامتها كما أمر الله عز وجل.
أيها المؤمنون: هذه هي صفة الصلاة الحقيقية التي يريدها الله منا، فلنقف مع أنفسنا وقفة محاسبة مع صلاتنا، فننظر كيف قيامنا بها، وكيف خشوعنا فيها، وكيف حالنا معها؟.
فاللهم أعنا ووفقنا لإقامة الصلاة إقامة كما أمرتنا.. ووفقنا للخشوع فيها.. ووفق أولادنا وأهل بيتنا لطاعتك ومرضاتك.. واحفظنا واكفنا شر كل وباء ومرض.
ألا فصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه..