الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، الحمد لله الذي جعل الفقه في الدين من علامات الخير في المسلمين. وأصلي وأسلم على النبي الكريم الذي قال: "مَن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" متفق عليه.
أما بعد: عباد الله، نحن في كل يوم نمارس الوضوء الذي هو من أهم شروط الصلاة، وعبادة الوضوء من أشرف العبادات؛ لتعلقها بالصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام.
وبما أننا نتوضأ كل يوم مراتٍ عديدة، فاعلموا أنه يجب علينا تعلّم المسائل المتعلقة بالوضوء، حتى يكون وضوؤنا صحيحاً ليقبله الله تعالى، ولكي تكون الصلاة صحيحة؛ لأن الوضوء إذا كان يتضمن خللاً فيه ربما نقص الأجر، وربما كان النقص مبطلاً وناقضاً للوضوء بأكمله.
أولاً: فضل الوضوء: الوضوء يمحو الخطايا؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره" رواه مسلم.
والوضوء سبب لرفع الدرجات؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟"، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" رواه مسلم.
والوضوء علامة تميز أمتنا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء" متفق عليه. والغرة: بياض في الجبهة، والتحجيل: بياض في اليدين والقدمين. وهذه بشارة لأهل الصلاة، أنهم متميزون في أرض المحشر بهذه العلامة.
ومن فضائل الوضوء أنه من علامات الإيمان، قال -صلى الله عليه وسلم-: "سددوا وقاربوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" صحيح ابن حبان.
عباد الله: إليكم جملةً من أحكام الوضوء: يجب أن يكون الماء طاهراً، وعلامته أن يكون باقياً على خلقته، فإن تغير لونه أو طعمه أو رائحته بشيء نجس فلا يجوز استعماله.
واعلموا أنه تستحب التسمية قبل الوضوء حتى لو كنت في دورة المياه؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
ثم يسن لك أن تغسل كفيك ثلاثاً، ثم تتمضمض وتستنشق ثلاثاً، ثم تغسل وجهك من منابت الشعر إلى أسفل اللحية، ثم تغسل يديك من أطراف أصابعك حتى المرفقين، ثم تمسح رأسك وأذنيك مرةً واحدة، ثم تغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً. ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
واعلموا -رحمكم الله- أن الترتيب واجب في غسل هذه الأعضاء. وكذلك يجب أن يكون غسل كل عضو بعد الآخر مباشرة، ولا يجوز تركه حتى يجف؛ وهذا ما يسمى بالموالاة في الوضوء.
أحبتي الكرام: إن من سنن الوضوء: السواك قبله، وغسل كل عضو ثلاث مرات، وتخليل اللحية وأصابع اليدين والقدمين.
عباد الله: اعلموا أن هذا الوضوء له مبطلات يجب الحذر منها، ومن وقعت له فيجب عليه أن يعيد وضوءه.
فمن مبطلات الوضوء: الخارج من السبيلين من بول وغائط وريح ومني ومذي، وتزيد المرأة بخروج دم الحيض والنفاس.
ومن نواقض الوضوء أكل لحم الإبل وما تفرع عنه من الكرش وغيره، وأما اللبن فلا ينقض، وكذلك المرق. وقد سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت"، فقيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم". صحيح ابن حبان.
ومن نواقض الوضوء: مس الذكر للرجل، ومس الفرج للمرأة، لحديث: "من مس ذكره فليتوضّأ" صحيح الجامع. وأما المرأة التي تغسل ولدها أو بنتها الصغيرة فلا ينقض وضوءها بذلك، لعموم الحاجة لذلك.
ومن نواقض الوضوء: النوم العميق الذي لا يشعر المرء بما يخرج منه ولا يشعر بما يجري حوله، وأما النعاس الخفيف فلا ينقض.
وأما مس المرأة فلا ينقض الوضوء، سواء كان بشهوة أو بدونها, إلا إذا نزل منه شيء؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل زوجته ثم يخرج للصلاة ولا يتوضأ.
وأما خروج الدم أو القيء فلا يبطل الوضوء، لعدم وجود الدليل الصحيح الصريح في ذلك.
أيها الكرام: إن من السنن بعد الوضوء قول الشهادتين؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد يتوضأ، ثم يسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" رواه مسلم.
ويسن لك -يا عبد الله- بعد الوضوء أن تصلي ركعتين، كما كان يفعل بلال -رضي الله عنه-، وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دُفَّ نعليك بين يدي في الجنة"، قال: ما عملت عملاً أرجى عندي: "أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي" رواه البخاري.
وجاء في حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن توضأ فأحسن الوضوء, ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه، وجبت له الجنة" رواه مسلم. فيا له من فضل عظيم في عملٍ يسير!.
معاشر المسلمين: يجب أن نعلم أن هناكَ عبادات يجب أن تتوضأ قبلها وهي: الصلاة؛ لأن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة:6]، وفي الحديث: "لا يقبل الله صلاةً بغير طهور" رواه مسلم.
فكل ما يسمى صلاة فتجب له الطهارة؛ كصلاة الفريضة، والنافلة، والجنازة، وغيرها. وأما سجود التلاوة وسجود الشكر فلا يجب له الطهارة؛ لأنه ليس بصلاة.
ومن العبادات التي يجب الوضوء قبلها مس المصحف؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يمس القرآن إلا طاهر" صحيح الجامع. والقول بوجوب الطهارة لمس المصحف هو مذهب جمهور أهل العلم.
ولكن؛ يجوز لك أن تقرأ من حفظك بدون أن تمس المصحف إذا كنت على غير طهارة. ومن كان على جنابة فلا يجوز له أن يقرأ ولا يمس المصحف.
وأما المرأة الحائض أو النفساء فيجوز لها القراءة ولكن بدون أن تمسه، فتقرؤه من الجوال، أو تلبس القفاز وتقرأ.
ومن الأمور التي يجب لها الوضوء: الطواف بالبيت؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- توضأ قبل طوافه، وقال: "خذوا عني مناسككم", وذهب بعض العلماء، ومنهم ابن تيمية وابن عثيمين، إلى القول بعدم وجوب الطهارة للطواف؛ لعدم وجود دليل صريح وواضح في المسألة.
ومن أحكام الوضوء: أن من كان حدثه دائماً من ريح أو سلس بول فيجوز له أن يتوضأ إذا دخل الوقت، ثم يصلي ولا حرج عليه، حتى لو انتقض وضوؤه بعد ذلك؛ لأنه لا يقدر على منعه، والله -تعالى- يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16].
ومن شك أن وضوءه انتقض فلا يلتفت لهذه الشكوك حتى يتيقن ذلك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله. وبعد: معاشر المسلمين، إليكم جملة من أخطاء الوضوء التي يقع فيها بعض الناس.
من الأخطاء ترك إسباغ الوضوء، ومعنى الإسباغ: أن يصل الماء لكل عضو من أعضاء الوضوء، وعلى المصلي أن ينتبه عند الوضوء إذا كان في يده ساعة أو خاتم أو غير ذلك، فلا بد أن يحركها ليصل الماء إلى العضو.
ومن الأخطاء عدم إكمال غسل اليدين إلى المرفقين، والواجب غسل يديه كلها من أطراف الأصابع إلى المرافق؛ لأن الكفين داخلان في مسمى اليد.
ومنها أن بعضهم يكتفي بمسح مقدمة رأسه، أو يمسح إلى منتصف الرأس، والصحيح أن عليه أن يمسح جميع الرأس؛ روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أنه قال في صفة وضوء الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه".
ومن الأخطاء في الوضوء: الإسراف في الماء، قال -تعالى-: (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام:141].
روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد. وهذا شيء قليل يدل على توفير الماء عند الوضوء والاغتسال.
ومنها: الإسراع في استعمال ماء الوضوء، وربما لم يصل الماء للعضو المراد غسله، وهذا يوجد عند بعض الناس، كالذي يريد اللحاق بالصلاة فيسرع بالوضوء.
ومن أخطاء الوضوء: بعض الناس يحدد ذكراً ودعاءً عند غسل كل عضو ولا دليل على ذلك.
ومنها اعتقاد أنه لا بد أن يستنجي قبل كل وضوء، وهذا لا دليل عليه، بل يكفي فقط أن تغسل كفيك ثم تتوضأ، وأما الاستنجاء فلا يكون إلا إذا خرج منك ما يوجب غسله، كالبول والغائط ونحو ذلك.
ومنها أن بعض الناس يخرج للبر، وحينما لا يجد الماء يتيمم مباشرة، مع أن هناك محلات قريبة منه لبيع الماء، والواجب هو الذهاب لإحضار الماء.
ومن المخالفات في الوضوء الوسوسة فيه، حتى إنه ربما يعيد الوضوء عشرات المرات، وهذا يوجد عند بعض الإخوة، والحل هنا هو عدم الالتفات للوساوس، والاستعانة بالله -تعالى-، وتحصين النفس بالأوراد الشرعية؛ لتحميك من نزغات الشيطان.
ومنها أن بعض النساء تضع المناكير وتتوضأ، وهذا لا يصح؛ لأن المناكير تمنع وصول الماء.
ومنها أن بعض عمال البناء والدهانات يكون عليهم دهان "البوية"، وهذا يمنع وصول الماء؛ لذلك يجب إزالته قبل الوضوء.
عباد الله: ومما يجب علينا فعله أن نعلم والدينا وزوجاتنا وأولادنا وبناتنا صفة الوضوء الصحيحة؛ لأنهم ربما جهلوها، وخاصة كبار السن الذين لم يتعلموا، وكذلك الصغار.
والتعليم بالفعل من أقوى الوسائل في إيصال المعلومة، فجميل أن تأخذ إناءً فيه ماء ثم تبدأ وتطبق صفة الوضوء فعلياً أمام أسرتك.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم ارزقنا الفقه في الدين، والعمل بما يرضيك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، اللهم تب علينا، وتجاوز عنا، إنك أنت التواب الرحيم.
والحمد لله رب العالمين.