الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، نحمدُه سبحانَه ونشكُره، ونسبِّحُه ونقدسُه، فلَم يزلْ بِنعُوتِ الجلاَلِ والكَمالِ متصفاً، وأشهدُ أنْ لاَ إله إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شريكَ لهُ، مُقراً بوحدَانيَّتِه ومُعْترِفاً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسُولُه، الرسولُ المصطفَى، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وأصحاَبِه ومن سَار علَى نهِجِهم المُبَاركِ واقتفى.
أما بعد: فإن تقوى الله حصن عزيز تمنع أهلها، وتحرِّز من لجأ إليها: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 132].
أيها المصلون: لعلكم سمعتم بتلك الوليمة العظيمة المشتملة على ألوان من الأطعمة والأشربة لكل لون لذة وفي كل لون منفعة، إنها وليمة لا كالولائم. أتدرون ما هي؟!
إنها الصلاة التي دعانا الرب إليها في اليوم خمس دعوات “وهيَّأ لنا فيها أفعالاً مختلفة وأذكارًا؛ فتعبدنا بها ليَلذَّنا بكل لون من العبودية، فالأفعال كالأطعمة، والأذكار كالأشربة، فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه بخلع القبول، وأغناه” (أسرار الصلاة لابن القيم ص2).
أخي: أليس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “قُمْ يَا بِلاَلُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاَةِ“.
فعجبًا لمن فقد الراحة والسعادة وهو يلتمسها في غير الصلاة!! فكم من محزون اكتسى بالصلاة فرحًا وسرورًا! وكم من مهموم انجابت عنه بالصلاة غيوم الهم!
إننا نحتاج بين فينة وأخرى أن نتذاكر مع أولادنا أمر صلاتهم، وفي حديثٍ صحيح صريحٍ قال نبينا-صلى الله عليه وسلم- للآباء والأمهات: “مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ” (سنن أبى داود 495 وصححه الترمذي).
ومن يُطبِّق هذا الحديث من الآباء فلن يحتاج إلى الضرب بعد العاشرة!
فيا أيها الأب الموفَّق اصطحب ابنك للصلاة، واجعله بجوارك ليتعلَّم منك، ولتحافظ عليه من العبث. أبشر وأمِّل، ولا تقُل: تعبتُ! وردِّد كثيرًا دعاء الأنبياء (ربِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) [إبراهيم: 40].
ولا تقل إنهم صغار لا يَعُون، واستشعر أنَّ ابنك الذي تحب إذا لم يُصلِّ فسيكون حطبًا لجهنم فـ(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6].
وليكن بينك وبين إمام المسجد تعاون في تشجيعهم وتقديم الجوائز لهم. ولا تلقِ الحِمل على أمِّهم؛ فأنت أهيب، واصطبر فأنت في خير طريق، وتذكر أن بيوت الأنبياء فيها أمر للأهل بالصلاة، فالتقصير والغفلة واردة، فهذا نبي الله إسماعيل كان (يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم: 55].
فمن أراد ذلك أن يكون عند ربه مرضياً فليحضَّ أهله كلما أذن للصلاة. ومن المهم أن تكون حازمًا في تحديد أوقات لهم مع هذه الأجهزة الذكية، وإلا ضيَّعوا صلاتهم، وضيعوا ليلهم بالسهر، ونهارهم بالنوم.
وإنك واجدٌ في بعض المساجد مناظرَ تبهج النفس وتسر الخاطر: ففي بعضها المهجرون للمسجد قبل أذان المؤذن، لا سيما صلاة الفجر والجمعة.
وفيها صبيان وشُبان تحلقوا بالمساجد كأجمل ما أنت راءٍ من مناظر النُضرة والثمرة.
وفي ولدان أدبهم معلموهم وآباؤهم آداب الإسلام، فلا ترى منهم عبثًا يوم عبث العابثون.
وفي المقابل؛ فمن المظاهر السيئة المتكررة في كثير من مساجدنا: العبث واللعب في المسجد، لا سيما عند قرب ركوع الإمام. وهذا يحصل من أطفال، بل من فتيان ناهزوا الاحتلام أحياناً، فإن كان الولد سفيهًا، فليس أبوه سفيهًا وهو يراه يلعب ويزعج؟! وليت الذين يوصلون أولادهم لحلقات المساجد أن يصلوا معهم؛ ليعودوهم على الطمأنينة والمبادرة للصلاة.
ومنظر مزعج مؤرق: حين ترى كثيرًا من جماعة المسجد يمرون بالواقفين عند أبواب المساجد أو حماماتها فلا يأمرونهم ولا يَنهونهم. وهذا الأمر يزداد سوءًا في المساجد المجاورة للملاعب.
ألا إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مقتصر على الهيئة أو إمام المسجد.
ونداء مشفقٍ محبٍ إليك أخي، يا مَن تعودتَ أن تصلي بما يسمى بـ”مساجد الجماعات” أتدري أنك قد خسرتَ أرباحًا منها:
نقص فضل الصلاة الأولى سبعًا وعشرين درجة.
الإسراع في أداء الصلاة، وقد يؤم من ليس أحقَّ بالإمامة.
انقطاع سنة الجلوس بعد الصلاة، وقد قلَّ في أزماننا الجالسون في المساجد بعد الصلوات، ولو لدقائق معدودات. فهنيئًا للمتوطنين بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلاَةِ وَالذِّكْرِ إِلاَّ تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ“(صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبوصيري والألباني).
تعويد أولادك على التأخر عنها، وربما يتركونها، وأنت السبب.
والعجيب أن بعضَ أحبابنا يُصلون في المساجد التي تتعددُ فيه الجَماعات مع أنه يستطيع أن يصلي في غيره! ! وهذا تفريطٌ، وتعويد للنفس على الكسل. وفي صلاتَي الفجر والعصر منظر متكرر مؤسف؛ حيث تتعدد الجماعات إلى قُرب غروب الشمس وقرب شروقها. وهذا دليلُ ضعفِ إيمانٍ وبداية انحدارٍ. فالبِدار البِدار، قبل الرحيل عن الدار.
ونداء من الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- لمرتادي الاستراحات الذين يتركون الصلاة مع الجماعة, ويصلون باستراحاتهم؛ يقول الشيخ: “فلا عذر لهم فيما نرى، بترك الصلاة في المساجد حتى لو صلوا جماعة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل حين استأذنه في ترك الحضور: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَجِبْ.. فإن كنتم في مكان بعيد لا تسمعون فيه النداء لولا مكبر الصوت فصلوا جماعة في أماكنكم)( مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 15/ 29 و 15/ 23).
الخطبة الثانية:
فهذه دعوة تخص أئمة المساجد: أن يتأنوا في صلاتهم، ويطبقوا السنن فيها، فهم ضامنون، مسئولون عن صلاة من خلفهم. قال -صلى الله عليه وسلم-: “الإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الأَئِمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ” (رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان).
وقَالَ: “يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ“(صحيح البخاري 694).
ويا أئمة المساجد وطلاب العلم: اعمروا بيوت الله بالعلم والوعظ، وقوموا بالواجب عليكم، وأحيوا مساجدكم بالتحديث على الجماعة، فبعض المساجد قلما تسمع فيها حديثًا إلا في رمضان، وأحد عشر شهرًا يعلو سباتُ الغفلة أهلَ المسجد وإمامَهم.
ودعوة أخيرة لجيران المسجد: أن يتعاونوا ويتناصحوا فيما بينهم، وأن يُكَمِّل بعضهم بعضًا، حتى تشيع فيهم المحبة، وليكونوا إخوة مترابطين متعاونين، بينهم لقاءات خير وبركة وتفقد وإعانة، بعقد اجتماع دوري يتدارسون فيه وضع الحي، فهذا من التعاون على البر والتقوى. والمسجد سبب لاجتماع قلوب جيرانه.
ولكن مما يُؤسَف له أن توجد بين بعضهم الخصومة والملاحاة، وكثيرًا ما يكون النزاع بسبب أمور صغيرة، كإطفاء المكيّفات أو رفعها، ومع ذلك فَقَلَّ من يحرص على الإصلاح، وجمع الكلمة. بل قد يوجد من حمَّالة الحطب من يغري بينهم العداوة والبغضاء.
اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ.
اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ.
اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ.
اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ.
اللَّهُمَّ إِنّا عَائِذون بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا.
اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ.
الشيخ : راشد البداح