الخطبة الأولى:
أما بعد: أيها المسلمون: فإن رفع الحرج ودفع المشقة والتيسير في الشريعة، وعدم تعنيت المكلفين، سمة من أهم سمات هذا الدين العظيم، ومقصد من مقاصد هذه الشريعة قال -تعالى-: (هُوَ اجْتَبَـاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرهِيمَ هُوَ سَمَّـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [الحج:78]، وقال -جل وعلا-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185].
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة: "إن الدين يسر، ولا يشادّ الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة".
أيها المسلمون: إن مما جاءت به الشريعة في باب الطهارة: مشروعية المسح على الخفين. والخفان هما ما صنع من جلد ونحوه، وهي الأحذية والكنادر، وأما الجوربان فهما ما صنع من قطن ونحوه، وهي الشراب.
وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على جواز المسح عليهما، فمن الكتاب قوله -تعالى-: ( ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) [المائدة:6]، على قراءة الجرِّ من إحدى القراءتين السبعيتين.
وأما من السنة فقد تواترت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الإمام أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب النبي أنه مسح على الخفين. رواه ابن المنذر في الأوسط.
وأما من الإجماع: فقد أجمع أهل السنة على جواز المسح على الخفين، نقل الإجماع ابن عثيمين -رحمه الله- في الممتع.
وقد خالف في ذلك الرافضة؛ ولهذا قال الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته: ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر. قال شيخ الإسلام في المنهاج: واليهود لا يرون المسح على الخفين، وكذلك الرافضة.
أيها المسلمون: إن الكلام على مسألة المسح على الخفين تشتد حاجة الناس إليها اليوم، وخصوصا في فصل الشتاء، وقد ذكر الفقهاء شروطا للمسح استنبطوها مما ورد من النصوص.
فمن هذه الشروط: أولا: أن يكون لبسهما على طهارة، والدليل على هذا حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- حيث قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فأهويت لأنزع خفيه فقال: "دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين" فمسح عليهما. متفق عليه.
ثانيا: أن يكون الممسوح عليه طاهراً مباحا، وذلك بألا يكون مصنوعا مما يحرم لبسه، سواء كان محرما لنجاسته، كجلد الكلب ونحوه، أو لحرمته في الأصل على الرجال، كالحرير، أو محرما لحق الآخرين، كالمغصوب أو المسروق.
ثالثا: أن يكون المسح في المدة المشروعة، للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، فعن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسألناه، فقال: "جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم" رواه مسلم.
رابعا: أن يكون المسح من الحدث الأصغر، فعن صفوان بن عسال -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. رواه أحمد والترمذي والنسائي والدارقطني.
وهل يشترط أن يكون الجورب صفيقا؟ أي: سميكاً؟ فيه خلاف، والصواب أنه لا يشترط؛ لأنه لا دليل على هذا الشرط، فلو كان شفافا أو به بعض الخروق جاز المسح عليه، وقد صح عن الثوري أنه قال: "امسح عليها ما تعلقت به رجلك، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة مشققة مرقعة؟" أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه البيهقي.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اختياراته): ويجوز المسح على اللفائف في أحد الوجهين، وحكاه ابن تميم وغيره، وعلى الخف المخرق ما دام اسمه باقياً، والمشي فيه ممكناً، وهو قديم قولي الشافعي، واختيار أبي البركات، وغيره من العلماء.
أما عن كيفية المسح: فهي أن يبل المتوضئ يديه بالماء ثم يمرهما على ظاهر خفيه أو جوربيه فقط، اليد اليمنى على القدم اليمنى واليسرى على اليسرى، مرة واحدة، ومع بعضهما، مثلما يفعل بالأذنين، من أطراف أصابع القدمين إلى بداية الساق، وإن لم يتيسر ذلك بدأ باليمنى ثم اليسرى، وذلك عند كل وضوء.
قال علي -رضي الله عنه-: " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يمسح على ظاهر خفيه" رواه أبو داود.
إن بعض المسلمين يمسح على ظاهرهما وباطنهما وجانبيهما، ولا شك أن هذا العمل ليس من السنة.
واعلم -أخي المسلم- أن بداية توقيت المسح تكون من أول مسحةٍ بعد حدث، وليس من لبسهما، فلو لبست الجوربين على طهارة بعد صلاة العشاء مثلا ثم لما استيقظت لصلاة الفجر توضأت ومسحت عليهما، فإن بداية المسح تكون من هذه المسحة، ولك أن تمسح إلى مثل هذا الوقت من الفجر لليوم التالي إن كنت مقيماً.
ثم اعلم -أيها المسلم الكريم- أن بعض الناس يغسل رجله اليمنى ثم يدخلها في الجورب، ثم يغسل رجله اليسرى ثم يدخلها في الجورب الآخر، وهذا أمر مرجوح؛ لأنه في الحقيقة لم يتحقق لبسهما على طهارة. قال العلامة ابن باز -رحمه الله-: لا يجوز للمسلم أن يمسح على الخفين إلا إذا كان قد لبسهما بعد كمال الطهارة، والذي أدخل الخف أو الشراب برجله اليمنى قبل غسل رجله اليسرى لم تكمل طهارته. اهـ.
ومما يحسن بك أخي المسلم أن تعرفه أن من مسح في سفر ثم أقام فانه يتم مسح مقيم، وكذلك من مسح وهو مقيم ثم سافر فانه يتم مسح مسافر، وهو الراجح من أقول أهل العلم.
وإذا شك شخص في ابتداء مدة المسح ووقته فإنه يبني على اليقين، فمثلا: لو شك: هل مسح لصلاة الظهر أم لصلاة العصر؟ فإنه يجعل ابتداء المدة من صلاة العصر؛ لأن الأصل عدم المسح، وهو بقاء ما كان على ما كان.
وإذا مسح على الحذاء(الكنادر) ثم خلعهما وأراد أن يتوضأ فله أن يمسح على الشراب على القول الراجح، كما أنه إذا مسح على الشراب ثم لبس عليها شراباً أخرى أو حذاءً ومسح على العليا فلا بأس به على القول الراجح، ما دامت المدة باقيةـ لكن تحسب المدة من المسح على الأول لا من المسح على الثاني.
من المشهور عند العامة أن المسح يوم وليلة، يعني أنه لا يمسح إلا خمس صلوات، وهذا ليس بصحيح، بل التوقيت بيوم وليلة يعني أن له أن يمسح يوماً وليلة سواء صلى خمس صلوات أو أكثر، فليس لعدد الصلوات تأثير في الحكم.
واعلم -أيها المسلم- أنه لو مسح شخص ثم خلع الجورب وهو على طهارة وقد مسحه فإن وضوءه لا ينتقض، وذلك لأن الرجل إذا مسح على الخف فقد تمت طهارته بمقتضى الدليل الشرعي، فإذا خلعه فإن هذه الطهارة لا يمكن نقضها إلا بدليل شرعي، فالمسح هو الذي يبطل أما الطهارة فإنها باقية، وهو الراجح من أقوال أهل العلم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم، وهو أن الوضوء لا ينتقض بخلع الخف، ولا دليل على أن خلع الممسوح من الخفاف أو الجوارب ينقض الوضوء.
وعلى هذا فيكون وضوءه باقياً، ولكن لو أعاد الخف بعد ذلك وأراد أن يمسح عليه مستقبلا فلا يجوز حتى يتوضأ ويغسل القدمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من العلم والحكمة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على عظيم امتنانه، وأشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فاعلموا -رحمكم الله- أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم ارزقنا الفقه في الدين، والثبات عليه، وأصلح ولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
فاذكروا الله العلي العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
الشيخ : عبد الله الواكد