وبعد: فإن لشرائع الدين الإسلامي وأحكامه محاسنَ تنجفل وتنجذب إليها قلوب الكثيرين عفويًا؛ والسرُّ في ذلك أن تلك الشرائع والأحكام مصدرها الله تعالى، وقد فطر الناس على هذا الدين في أصل خلقتهم، لولا أن الشياطين تجتالهم فيما بعد فتنأى بهم عن الحنيفية السمحة إلى عقائدَ وأفكار يَشْقون بها في دنياهم وأخراهم، والأصل في هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل مولود يولد على الفطرة".
ألا وإن من محاسن هذا الدين المسحَ على الخفين والجوربين؛ لما في ذلك من الجمع بين التطهر وأداء الفرض، ورفع الحرج.
التطهر: قد أذن به الشارع، ورخص فيه، وجعله بدلًا من الغَسل، فيكفي المسلمَ المسحُ عليهما عند الوضوء، ويكون وضوؤه صحيحًا.
ورفع الحرج: لأن غسل الرِّجلين في البرد يلحق الأذى بالمسلم، والله تعالى يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "بُعِثْتُ بالحنيفية السمحة". ومنهما قال العلماء: المشقة تجلب التيسير.
معشر المؤمنين: المسح على الخفين رخصة، والرخصة معناها التسهيل، وفي السنة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه"، وقال الحسن البصري: "حدثني سبعون من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه مسح على خفيه".
وقال الإمام أحمد: "ليس في نفسي من المسح شيء، فيه أربعون حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-"، وقال عبد الله بن المبارك: " ليس بين الصحابة خلاف في جواز المسح على الخفين"، ونقل ابن المنذر الإجماعَ على جوازه، واتفق عليه أهل السنة والجماعة، فهو جائز في الحضر والسفر، للرجال والنساء.
ومع أنه مسألة فرعية محلها كتب الفقه، إلا أن جمعًا من مصنفي كتب التوحيد من السلف كانوا يدرجون المسح على الخفين في جملة معتقد أهل السنة، ومن تلكم: ما كتبه الإمام أحمد من العقائد لأصحابه، وشرح السنة للبربهار، المتوفى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بعد الهجرة، ونونية القحطاني، المتوفى سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة بعد الهجرة، يقول فيها:
فإذا اسْتَوَتْ رجلاك في خُفَّيْهِمَا *** وهُما من الأحداثِ طاهِرَتَانِ
وأرَدتَّ تجديدَ الطهارة محدثـًا *** فتمامُهـا أنْ يُمسـحَ الخُفَّان
وممن أورد المسح على الخفين واعتبرها من معتقدات أهل السنة الإمام الطحاوي الحنفي المتوفى سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بعد الهجرة، قال: "ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر". قال ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية: "تواترت السنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين".
وإنما عمد المصنفون من السلف إلى ذكر مسألة المسح على الخفين أو الجوربين في كتب العقائد؛ لأن كثيرًا من أهل البدع كالروافض شنعوا على من يقول بالمسح عليهما، فأراد علماؤنا -رحمهم الله تعالى- التصدي لكل شبهة، وحماية جناب الشريعة ممن يرومون نقضها وهدمها.
أيها الأفاضل: وإنما يحتاج الناس إلى لبس الخفين أو الجوربين، أو هما معًا؛ توقيًا للبرد، وبعضهم بسبب تشقق في رجليه، وآخرون لطبيعة عملهم في ورش أو مصانع أو مزارع، أو يكونون عسكريين تفرض عليهم ظروفهم ذلك، ويشق على هؤلاء الأصناف خلعهما عند كل صلاة، فلأجل هذه ونحوها جاءت الرخصة بلبسهما، وشرع المسح عليهما.
عباد الله: دلت الأحاديث المتواترة على مشروعية المسح على الخفين والجوربين، منها حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-، قال:" كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فتوضأ، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: "دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين"، فمسح عليها". متفق عليه.
والخفان: ما يلبس في الرِّجل من جلد ساتر للكعبين، وقد يستر ما فوقهما، وفِعلُ المغيرة -رضي الله عنه- هذا وقع في غزوة تبوك في رجب سنة تسع للهجرة، أي قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- بأقل من سنتين، جاء ذلك مبيَّنًا في رواية أخرى من روايات صحيح البخاري؛ ما يؤكد على مشروعية وجواز المسح على الخفين.
ثم اعلموا -عباد الله- أنه كما يجوز المسح على الخفين المصنوعين من جلد فكذلك يجوز المسح على الجوربين، وهما الشُرَّاب؛ لأن اشتراط أن يكونا من الجلد وتقييده بذلك لم ترد به سنة، والعلماء -رحمهم الله تعالى- يضعون قاعدة في ذلك: إن ما أطلقته الشريعة لا يجوز لأحد أن يقيده إلا بدليل.
قال ابن المنذر: "تُروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة، وهم: علي وعمار وابن مسعود وأنس وابن عمر والبراء وبلال وابن أبي أوفى وسهل وسعد".
ومن التابعين: عطاء والحسن وابن المسيب وابن المبارك وسفيان الثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا الإمام أبي حنيفة -رحم الله الجميع-؛ لما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على الجوربين والنعلين. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني. وقال النووي في المجموع: حكى أصحابنا -يعني الشافعية- عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي شرع ويسّر، وخلق فقدر، أحكم دينه تنظيمًا، وأودعه رحمة في كل أحواله ونظمه وتشريعاته، فسبحانه من حكيم عليم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أعطاه ربه وأرضاه، كما اختاره واصطفاه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
استنبط العلماء من حديث المغيرة بن شعبة وغيره من أحاديث المسح على الخفين جملة من الأحكام، ومنها:
أولاً: يشترط لجواز المسح على الخفين أو الجوربين كمال الطهارة قبل لبسهما؛ وعليه، فإنه حين الوضوء، لو غسل إحدى رجليه، ثم أدخلها الخف أو الشراب قبل غسل الأخرى لم يجزئ المسح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإني أدخلتهما طاهرتين"، أي: أدخلتُ القدمين، ثم قال المغيرة -رضي الله عنه-: "فمسح عليهما"، وتثنية الضمير لا يجوز في اللغة إلا إذا وجد دليل يعين مرجع كل ضمير، كما هو الحال هنا.
وثانيًا: لم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه مسح أسفل الخفين، والحديث الوارد في ذلك منقطع، وكل الأحاديث الصحيحة على خلافه، ويؤكد ذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح على ظاهر خفيه". أخرجه أبو داود بإسناد حسن، وصححه الحافظ ابن حجر. وقال ابن الوزير: "أجمعوا على أن المسح يختص بظاهر الخف".
ويكفي أن يمسح على أكثره؛ فيمسح بأصابع يديه على ظهور قدميه مرة واحدة، ولا يسن تكرار المسح، وكيفما مسح أجزأ.
وثالثًا: أن يكون الخف أو الجورب ساترًا محل العضو المفروض، فإن لم يستره لخرق أو شقوق ونحوها، فالراجح: جواز المسح عليه وإن ظهر بعض العضو. قال العلماء: "لأن الظاهر تابع للمستور، ويثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالاً؛ ولأن السنة وردت بالمسح على الخفين مطلقًا -كما يقول ابن تيمية-، ومعلوم أن الخفاف عادة لا يخلو كثير منها من فتق أو خرق، وكان كثير من الصحابة فقراء لم يكن يمكنهم تجديد خفافهم". اهـ.
وهذا ينسجم مع محاسن الشريعة الإسلامية السمحة في رفع الحرج، كما يتوافق مع مقصد الشارع الحكيم في أن الحكمة من مشروعية الرخصة في المسح الرفقُ في تحمل المشاق، فالأخذ بها مطلقًا أي بهذه الرخصة موافقة للعقيدة.
رابعًا: من أحكام المسح على الخفين والجوربين: هل يشترط في المسح عليهما أن يكون لبسهما بعد التطهر بالماء فقط؟! أم: لا مانع من ذلك حتى لو كان التطهر بالتيمم؟! والصحيح أنه إذا عُدم الماء أو تعذّر استعماله، فإن التيمم يقوم مقامه في كل شيء حتى في رفع الحدث، وعليه؛ فيجوز أن يمسح ولو كان لبس الخفين أو الجوربين على طهارة تيمم.
خامسًا: وكما يجوز المسح في الحضر، فيجوز في السفر، ومدته في السفر ثلاثة أيام بلياليهن؛ لحديث صفوان بن عسال -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة". أخرجه النسائي، والترمذي وابن خزيمة وصححاه. وقال النووي: إنه جاء بأسانيد صحيحة.
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم". يعني في المسح على الخفين. أخرجه مسلم.
سادسًا: مدة المسح تبدأ من ابتداء المسح بعد الحدث إلى مثل وقته من اليوم التالي للمقيم، وأما للمسافر فإلى مثل وقته من اليوم الرابع.
سابعًا: ومن أحكام المسح أيضًا: جواز المسح على العمامة وخمر النساء إذا كان نزعهما فيه مشقة، لحديث ثوبان -رضي الله عنه-، قال: "بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية فأمرهم أن يمسحوا على العصائب -يعني العمائم- والتساخين -يعني الخفاف-". رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
ثامنًا: المسح على الخفين أو الجوربين خاص بالحدث الأصغر، أما الحدث الأكبر فلا يجوز المسح عليهما معه، بل يتعين خلعهما وغسل القدمين لقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث صفوان بن عسال المتقدم: "إلا من جنابة".
وأخيرًا معشر الفضلاء: فمن الملاحظ أنه إذا تكرر لبس الشراب أيامًا متتالية، واكتُفي بغسل الرجلين غسلاً يسيرًا إذا انتهت مدة المسح، فإن رائحة منتنة تنبعث من الرجلين وخاصة ما بين الأصابع، فيتعين على المسلم أن يتنبه لذلك ويتعاهد غسل رجليه بالصابون بعد نهاية مدة المسح وخلع الشراب، كما يتعين عليه غسل الشراب بين حين وآخر حتى لا يتأذى منه المصلون، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.
وصلوا على الرحمة…
الشيخ د. : صالح بن عبد الله الهذلول