الحمد لله الذي شرع العبادة لعباده، ويسرها، وضاعف لهم عليها الأجور وكمّلها؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واحمدوه على ما أنعم به عليكم من هذا الدين القويم، والصراط المستقيم، واعرفوا نعمته عليكم بتيسيره، وتسهيله؛ فإنه تعالى لم يجعل عليكم فيه حرجًا، ولا مشقة، ولا تضييقًا، ولا عسرة، وإنما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحنيفية السمحة.
ولقد أنعم الله علينا مع التيسير والتسهيل بكثرة الأجور، والثواب الجزيل، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
عباد الله: إذا نظر الإنسان إلى هذه الشريعة وجدها -ولله الحمد- سهلة ميسرة في جميع أحكامها، فأصل العبادات أنها ميسرة، ثم إذا طرأ على العبد حال توجب التخفيف خفف الله عنه بحسب حاله.
فالطهارة للصلاة فرضها الله تعالى على وجهٍ سهْلٍ يسير، يطهر الإنسان في الوضوء أربعة أعضاء فقط، هي الوجه واليدان إلى المرفقين غسلاً، والرأس مسحًا لا غسلاً؛ لأن غسله يشق خصوصًا في أيام البرد ومع كثرة الشعر عليه، فإنه لو غسل لكان رطبًا دائمًا، وتسرّب من الماء إلى الثياب، فآذى الإنسان، ولكن الله خفّف عن عباده، وفرض مسحه دون غسله، والعضو الرابع الرجلان إلى الكعبين غسلاً.
هذه هي الأعضاء المفروض تطهيرها في الوضوء، وما أيسر تطهيرها! وما أعظم فائدته! فإن هذه الأعضاء هي أعضاء العمل غالبًا، ففي الوجه النظر والشم والكلام، وفي الرأس السمع والتفكير، وفي اليدين البطش، وفي الرجلين المشي، فأكثر عمل الإنسان بهذه الأعضاء، فتطهيرها تكفير للأعمال التي عملها بها، كما جاء ذلك في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل إذا غسل وجهه خرجت خطايا وجهه مع الماء، وإذا غسل يديه ورجليه خرجت خطايا يديه ورجليه، فإذا مسح رأسه خرجت خطايا رأسه حتى يخرج نقيًّا من الذنوب".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟!"، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره"، يعني إكماله بمشقة مثل أيام البرد والشتاء، "وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط".
أيها المسلمون: إن من تيسير الله عليكم في هذا الدين أن أجاز لكم المسح على الخفين بدلاً من الرجلين، يعني: إذا كان على رجل الإنسان كنادر أو شراب، وكان قد لبسهما وهو طاهر، فإن الله تعالى برحمته أجاز له المسح عليهما بدلاً من غسل الرجلين، إن كان مقيمًا فيومًا وليلة، وإن كان مسافرًا فثلاثة أيام بلياليها.
تبتدئ المدة المذكورة من أول مسحة مسحها، فإذا لبس الإنسان لصلاة الفجر، ولم يمسح عليهما أول مرة إلا لصلاة الظهر، فابتداء المدة من الوقت الذي مسح فيه لصلاة الظهر، فيمسح المقيم إلى مثل ذلك الوقت من الغد، وإذا تمت المدة، وهو على طهارة، فطهارته باقية حتى تنتقض، فإذا انتقضت بعد تمام المدة وجب عليه غسل رجليه إذا توضأ، ثم يلبس من جديد.
ومن تمت مدته، فنسي، ومسح بعد تمام المدة، فعليه أن يعيد الصلاة التي صلاها بالمسح الذي بعد تمام المدة، ومن لبس كنادر أو شرابًا، فهو مخير في أول الأمر، إن شاء مسح الكنادر، وإن شاء مسح الشراب.
فإذا مسح أحدهما أول مرة تعلق الحكم به، فإذا قدر أنه مسح الكنادر، فليستمر على مسحهما، ولا يخلعهما حتى تتم المدة، فإن خلعهما قبل تمام المدة لنوم أو لغيره، فإنه لا يعيدهما إذا توضأ حتى يغسل رجليه؛ لأن الممسوح إذا خلع لا يعود المسح عليه، إلا بعد غسل الرجلين، أما إذا مسح الإنسان على الشراب من أول مرة، فإنه لا يضر خلع الكنادر، فله أن يستمر على مسح الشراب حتى تنتهي المدة.
وكيفية المسح أن يبل يديه بالماء، ثم يمرهما على ظهر الخفين من أطرافهما مما يلي الأصابع إلى الساق مرة واحدة.
ومن رحمة الله بالعبد أن من احتاج إلى ربط شيء على كسر، أو جرح، أو "لزقة"، فإنه يمسح عليها كلها بدلاً عن غسلها في الوضوء والغسل حتى تبرأ، ويقوم مسحها مقام غسلها تيسيرًا من الله، وتسهيلاً على عباده، ولله الحمد والمنة.
وإن من رحمة الله بعباده أن شرع لهم التطهر بالصعيد إذا لم يجدوا الماء، أو تضرروا باستعماله، فمن لم يجد الماء لسفر أو غيره أو تضرر باستعماله لمرض أو غيره، فإنه يتيمم بأن يضرب الأرض بيديه ضربة واحدة، فيمسح وجهه وكفيه بعضهما ببعض، وبذلك يرتفع حدثه، ويكون طاهرًا طهارة كاملة يصلي بها ما شاء، ولا تنتقض إلا بما تنتقض به طهارة الماء.
فإذا وجد الماء، أو أمن من الضرر، توضأ إن كان تيممه عن حدث أصغر، أو اغتسل إن كان تيممه عن حدث أكبر.
قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…
الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين