الخطبة الأولى:
الحمد لله العفوِ الغفور، القديرِ الصبور، الحليمِ الشكور، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل الظلماتِ والنور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صاحب المقام المحمود يوم البعث والنشور، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -سبحانه-؛ فالتقوى طيبة الثمار في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة، قال الحق -سبحانه-: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل:30].
إخوة الإيمان: ومن أعظم خصال التقوى وأعظم شرائع الإسلام التعبد لله بالصلاة، فقد خصها -سبحانه- لما ذكر التقوى فقال: (وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنعام:72]، وفي موضع آخر: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الروم:31].
الصلاة -عباد الرحمن- قرة عين النبي -صلى الله عليه وسلم-، الصلاة من أبواب الرزق، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132]، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، الصلاة عمود الإسلام، الصلاة فيها الذكر بأنواعه، فيها القرآن والتسبيح والتحميد والتوحيد والتكبير والاستغفار والصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- والدعاء.
عباد الرحمن: إنها عبادة عظيمة تُحلّق بروح الخاشع، وتصله بربه -جل جلاله-، والصلاة حين تبعدنا الغفلة أو الذنوب من أعظم ما يقربنا إلى الله، فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
إخوة الإيمان: وإن من أعظم ما نذكر به أنفسنا أن نحرص على إقامة الصلاة، لا مجرد التأدية لها؛ ففي القرآن الكريم: (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) [البقرة:3]، (وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ) [الأعراف:170]، (رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ) [إبراهيم:37]، (وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ) [الحج:35]، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) [العنكبوت:45]، (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [الأنعام:72]، قال السعدي: أي: وأمرنا أن نقيم الصلاة بأركانها، وشروطها، وسننها، ومكملاتها.
وحديثنا اليوم عن سنن فعلية في هذه العبادة الجليلة فرضها ونفلها، واتباعُ السنة دليلٌ على محبة العبد لربه -سبحانه-: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران:31].
معشر الكرام: من السنن الفعلية: التجمل للصلاة، قال -سبحانه-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف:31]، قال ابن كثير: ولهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولاسيما يوم الجمعة، ويوم العيد، والتطيب؛ لأنه من الزينة، والسواك؛ لأنه من تمام ذلك. ومن أفضل الثياب البياض. اهـ.
ومن السنن الفعلية: رفع اليدين حذو المنكبين أو حذو الأذنين، ممدودة الأصابع، تجاه القبلة، في أربعة مواضع: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع، وعند القيام من التشهد الأول، ففي الصحيحين، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، “أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كان يرفعُ يديْهِ حَذْوَ مِنْكَبَيْهِ، إذا افتتحَ الصلاةَ، وإذا كَبَّرَ للركوعِ، وإذا رفعَ رأسَهُ من الركوعِ، رفعهما كذلكَ أيضًا، وقال: سمعَ اللهُ لمن حمدَهُ، ربنا ولكَ الحمدُ. وكان لا يفعلُ ذلكَ في السجودِ“.
ومن سنن الصلاة الفعلية: قبض اليد اليمنى على اليسرى حال القيام، وهي من كمال الأدب والتبجيل لله -سبحانه-، والقبض الثابت على صفتين: الأولى: وضع اليد اليمنى على اليسرى، والصفة الثانية: وضع اليد اليمنى على ذراع اليد اليسرى، قال وائل بن حجر -رضي الله عنه-: “رأيتُ رسولَ اللَّهِ إذا كانَ قائمًا في الصَّلاةِ قبضَ بيمينِهِ على شمالِهِ” أخرجه أبو داود والنسائي، وفي البخاري، عن سهل بن سعد الساعدي قال: ” كان الناسُ يؤمَرون أن يضَع الرجلُ اليدَ اليُمنى على ذِراعِه اليُسرى في الصلاةِ“.
ومن السنة في الركوعِ أن يستوي ظهُر المصلي، قال أبو حميد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في البخاري: “وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره“، أي: ثناه في استواء من غير تقويس، والرأس معتدل لا يرفعه ولا يخفضه، قالت عائشة -رضي الله عنها-: “وكان إذا رَكَع لم يُشْخِصْ رأسَه ولم يُصَوِّبَه، ولكن بين ذلك” رواه مسلم.
ويسن أن يمكّن يديه من ركبتيه حال ركوعه ويفرج بين أصابع يديه، قال أبو حميد مخبرا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: “فإذا رَكعَ أمْكنَ كفَّيهِ من رُكبتيهِ وفرَّجَ بينَ أصابعِهِ” رواه أبو داود وصححه الألباني. ويجافي مرفقيه عن جنبيه ما لم يكن هناك أذية لمن بجواره.
بارك الله لي ولكم…
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن الحرص على سنن الصلاة من إقامتها، ومما يضاعف أجرها وفضلها.
عباد الرحمن: ويسن في السجود أن يجعل كفيه حذو منكبيه أو حذو شحمه أذنيه ويفرج بينهما ما لم يؤذ من حوله، ويفرج بين ركبتيه في سجوده ويمكن أصابع القدمين بحيث تكون جهة القبلة، ومن السنة أن يجافي بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه؛ لثبوت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن السنة بين السجدتين وفي الجلوس للتشهد في الركعة الثانية الافتراش، بأن ينصب الرجل اليمنى ويستقبل بأصابعها القبلة ويجلس على القدم اليسرى، أخرج النسائي عن وائل بن حجر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “وإذا جلس في الركعتينِ أضجَع اليسرَى ونصبَ اليمنَى” صححه الألباني.
ومن السنن: الإشارة بالأصبع في التشهد الأول والثاني، قال ابن عمر مخبرا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: “كان إذا جلَس في الصلاةِ، وضَع كفَّه اليُمنى على فخِذِه اليُمنى، وقبَض أصابعَه كلَّها، وأشار بإصبَعِه التي تلي الإبهامَ، ووضَع كفَّه اليُسرى على فخِذِه اليُسرى” أخرجه مسلم.
ومن السنن الفعلية: التورك في التشهد الأخير في الثلاثية والرباعية إذا لم يؤذ مَن بجواره، وفي البخاري أن أبا حميد الساعدي -رضي الله عنه- كان جالسا مع نفر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكرنا صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو حميد الساعدي: “أنا كنتُ أحفظكم لصلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه استوى، حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته“.
وختاما: هذه سنن حري أن يستشعر حين يطبقها التعبد لله -سبحانه- بالاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، القائل: “صلوا كما رأيتموني أصلي” رواه البخاري.
ورضي الله عن صحابته الذين أخبروا بأدق التفاصيل عن صلاته -صلى الله عليه وسلم-.
ثم صلوا وسلموا…
الشيخ : حسام بن عبد العزيز الجبرين