الخطبة الأولى:
الحمد لله العليم خفي الألطاف، المنان بنعم متعددة الألوان والأصناف، القريب المجيب لكل من ارتاع وخاف.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تواب غفار ولو كان من العبد إسراف، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، متحل بكمال الأوصاف، صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الأشراف.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، وإن من أعظم خصالها إقامة الصلوات: (وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنعام:72].
إخوة الإيمان: لا يخفى على شريف علمكم أن أعظم عبادة بعد التوحيد هي الصلاة، وقد تكرر في القرآن كثيرا الأمر بإقامة الصلاة، قال السعدي: فإقامة الصلاة, إقامتها ظاهرا, بإتمام أركانها, وواجباتها, وشروطها؛ وإقامتها باطنا، بإقامة روحها, وهو حضور القلب فيها, وتدبر ما يقوله ويفعله منها. اهـ.
معشر الكرام: من المهم أن نتفقه في هذه الفريضة التي هي أحب الأعمال إلى الله، ونحن -ولله الحمد- في عصر تيسرت فيه وسائل العلم المرئية والمقروءة والمسموعة، فكم من سنن في الصلاة نجهلها، أو نعرفها ونفرط فيها.
والأسوأ، حين يكون الخطأ في واجبات الصلاة أو أركانها أو شروطها، فتمضي أعوام -وربما عشرات الأعوام- بصلاة فيها خلل، وفي حديث مالك بن الحويرث: "وصَلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي" أخرجه البخاري.
إخوة الإيمان: والمسلم المحب لربه يتبع نبيه -عليه الصلاة والسلام- في أفعاله وأقواله، سواء قال الفقهاء إنها واجبة أو مسنونة؛ لأن اتباع النبي -عليه الصلاة والسلام- دليل على محبة العبد لربه، كما قال -عز شأنه- على لسان رسوله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران:31]؛ ولأنه أكثر لثوابه، وأخشع لقلبه.
إخوة الإسلام: سنتذاكر شيئا من سنن الصلاة القولية؛ ففي الصلاة أذكار متعددة ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمشروع للمسلم أن ينوع بها، قال الشيخ العثيمين -رحمه الله-: في التنويع بينها ثلاث فوائد: حفظ السنة، واتباع السنة، وحضور القلب.
معشر الكرام: من سنن الصلاة دعاء الاستفتاح، قد ثبت أدعية استفتاح كثيرة، وكثير من الناس لا يستفتح إلا بـ "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"، بينما يوجد أدعية استفتاح سهلة مثل: "الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه".
أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ رجلًا جاء فدخل الصفَّ وقد حفَزَه النَّفَسُ، فقال: "الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه"، فلما قضى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صلاتَه قال: "أيُّكم المُتكلِّمُ بالكلماتِ؟"، فأرَمّ القومُ، فقال: "أيُّكم المُتكلِّمُ بها؟ فإنه لم يَقُلْ بأسًا!"، فقال رجلٌ: جئتُ وقد حفَزَني النَّفَسُ فقلتُها، فقال: "لقد رأيتُ اثنَي عشرَ ملَكًا يبتدِرونَها، أيهم يرفُعها".
ومن أدعية الاستفتاح اليسير حفظها: "اللهُ أكبرُ كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا، وسبحان اللهِ بكرةً وأصيلًا"؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: بينما نحن نصلي مع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذ قال رجلٌ مَن القومُ: اللهُ أكبرُ كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا، وسبحان اللهِ بكرةً وأصيلًا، فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن القائلُ كلمةَ كذا وكذا؟"، قال رجلٌ من القومِ: أنا، يا رسولَ اللهِ!، قال: "عجِبتُ لها! فُتِحَتْ لها أبوابُ السماءِ!"، قال ابنُ عمرَ: فما تركتُهنَّ منذُ سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك.
ومن أدعية الاستفتاح ما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، إذا كبَّر في الصلاةِ، سكتَ هُنَيَّةً قبل أن يَقرأَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، بأبي أنت وأمي! أرأيتَ سكوتَك بين التكبيرِ والقراءةِ، ما تقول؟. قال: "أقول: اللهمَّ باعِدْ بيني وبين خطايايَ كما باعدتَ بين المشرقِ والمغربِ، اللهمَّ نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَسِ، اللهمَّ اغسِلْني من خطايايَ بالثَّلجِ والماءِ والبَرَدِ" أخرجه الشيخان.
ويسن للمصلي أن يستعيذ بالله من الشيطان ويبسمل قبل قراءته القرآن.
أيها المصلون: وإليكم ثلاثة أذكار يستحب قولها في الركوع وفي السجود، فبعد أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وبعد أن يقول في السجود: سبحان ربي الأعلى، يستحب قول "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أنْ يقولَ في رُكوعِهِ وسُجودِهِ: سُبحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ اغفِر لي، يَتأوَّلُ القُرآنَ" متفق عليه. تقصد أنه يمثل أمر ربه: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر:3].
وعنها أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كان يقولُ في ركوعِه وسجودِه: "سُبوحٌ قدوسٌ ربُّ الملائكةِ والروحِ" رواه مسلم.
والذكر الثالث مما يستحب قوله في الركوع والسجود: "سبحانَ ذي الجبروتِ والملَكوتِ والْكبرياءِ والعظمةِ"، كما حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه-.
وصح في ذكر الحمد الواجب لمن رفع من الركوع أربع صيغ: "ربنا لك الحمد"، أو: "ربنا ولك الحمد"، أو: "اللهم ربنا لك الحمد"، أو: "اللهم ربنا ولك الحمد".
ويستحب الزيادة عليها؛ فعن رفاعة بن رافع قال: كنا يومًا نصلِّي وراءَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فلما رفَع رأسَه من الركعةِ، قال: "سمِع اللهُ لمَن حمِدَه"، قال رجلٌ وراءَه: ربَّنا ولك الحمدُ، حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرَف، قال: "مَنِ المتكلِّمُ؟" قال: أنا، قال: "رأيتُ بِضعَةً وثلاثينَ مَلكًا يبتَدِرونها، أيُّهم يكتبُها أول" أخرجه البخاري.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسَه من الركوعِ قال: "ربنا لك الحمدُ ملءَ السماواتِ والأرضِ وملءَ ما شِئتَ من شيءٍ بعدُ، أهلَ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلُّنا لك عبدٌ. اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ" رواه مسلم.
عن أبي سعيد، وعنده زيادة، من حديث عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع قال بعد ذلك: "اللهم طهّرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهّرني من الذنوب والخطايا، كما يُنقّى الثوبُ الأبيض من الوسخ".
الخطبة الثانية:
أما بعد، فأوصي نفسي وإياكم بحفظ أذكار الصلاة، والتنويع بينها، والتأمل في معانيها، فالصلاة كلها ذكر، في القيام وفي الركوع وفي الاعتدال وفي السجود وفي الجلوس.
وجدير بالمسلم أن يتقن لفظ الذكر ما استطاع، ففي الصحيحين أن النبي علّم البراء بن عازب ذكرا عند النوم وفيه: "آمنتُ بكتابِك الذي أنزلت، وبنبيِّك الذي أرسلتَ"، قال: فرددتهن لأستذكرهن فقلت: آمنتُ برسولِك الذي أرسلت، قال: "قلْ: آمنت بنبيِّك الذي أرسلتَ".
وعَودا على أذكار الصلاة، نعلم -أيها الأحبة- أن الواجب قول: "رب اغفر لي" بين السجدتين، ووردت زيادة عليه مستحبة؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ يقولُ بينَ السَّجدَتَينِ: "اللَّهمَّ اغفِر لي، وارحَمني، واجبُرني، واهدِني، وارزُقني" رواه الترمذي وغيره، وصححه الألباني.
ويسن للمصلي بعد التشهد والصلاة الإبراهيمية أن يستعيذ بالله. في البخاري، كان سعدٌ يُعَلِّمُ بَنيهِ هؤلاءِ الكلماتِ، كما يُعَلِّمُ المُعَلِّمُ الغِلمانَ الكتابةَ، ويقولُ: إن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كان يَتَعَوَّذُ منهن دُبُرَ الصلاةِ: "اللهم إني أعوذُ بك من الجُبنِ، وأعوذُ بك أن أُرَدَّ إلى أرذَلِ العُمُرِ، وأعوذُ بك من فِتنَةِ الدنيا، وأعوذُ بك من عذابِ القبرِ".
وفي صحيح مسلم مرفوعا: "إذا تشهد أحدُكم فليستعذْ باللهِ من أربعٍ، يقولُ: اللهم إني أعوذُ بك من عذابِ جهنمَ، ومن عذابِ القبرِ، ومن فتنةِ المحيا والمماتِ، ومن شرِّ فتنةِ المسيحِ الدجالِ".
فحري بالمصلي أن يحفظ هذه الأذكار النبوية، وأن ينوع بينها؛ فهو أكمل في اتباع النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأدعى للخشوع واستحضار معانيها.
وبعد: عباد الله، صلوا وسلموا…
الشيخ : حسام بن عبد العزيز الجبرين