إن الحمد لله نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: تتفاوت الهمم، وتتباين الهموم، وتختلف الرغبات بين الأنام، فلربما رأيت من تعلق بالرياضة حتى ملكت وجدانه فقلبه معلق بها، ولربما رأيت من تعلق بالدنيا فلها يوالي، ولنيلها يمضي، وفؤاده متيم بها.
ولكن؛ ثمة أقوام تعلقوا بأعظم الأماكن، وأجل العبادات، إنهم أناس أجسادهم بين الناس، بينما قلوبهم قد تعلقت في بيوت الله.
وحديثنا اليوم هو عن أحد المستظلين بظل العرش، وهو عن رجل قلبه معلق بالمساجد.
أيها الفضلاء: هل رأيتم ذلك الرجل كبير السن وهو يمشي متوكئاً على عصاه يتهادى في مشيته ويدب فيها دبيباً؟ تراه خارجاً من بيته آمَّاً بيت الله، فرغم ما يعانيه من الآم ومتاعب إلا أنه يتحمل كل هذا في سبيل أن يقف بين المصلين ليقوم لله رب العالمين، ويقول مع الناس: آمين، إنه رجل قلبه معلق بالمساجد.
هل رأيتم ذلك الشاب؛ أقرانه قد خطفتهم الملهيات، وبهرتهم المغريات، وهو لا تراه إلا في المسجد يحفظ آية، أو يصلي ركعة؟ فحقاً إنه رجل قلبه معلق بالمساجد.
هل رأيتم ذلك الرجل لم ينس نصيبه من الدنيا بوظيفة أو تجارة؛ لكنه إذا دنت الصلاة وسمع النداء أو ربما قبله فرح وارتاح لأنه يجد في بيوت الله أنسه وراحته، ففيها يصفو القلب، ويسعد العبد؟ فحقا إنه رجل قلبه معلق بالمساجد.
المسجد، وما أدراكم ما المسجد! ذلكم البناء الأرضي الذي به يتصل العبد بالعالم السماوي، وبه يقف العباد بين يدي رب العباد.
المسجد ليست قيمته بجودة بنائه، ولا بكثرة زخرفاته، ولا بسعة حيطانه، بل بما تؤدى فيه من العبادات، فمنه ينطلق الأذان، وبه يجتمع الإخوان والجيران، وفيه يؤدى الصلوات للرحيم الرحمن، وعن طريقه يسمع الناس ترتيل آي القرآن.
المساجد أحب البلاد إلى الله، وخير بقاع الأرض، وهي بيت كل مؤمن؛ فلماذا لا تعلق القلوب المؤمنة بها؟.
هي أماكن الصالحين، وسلوة المحزونين، وملاذ الخائفين؛ ومن غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح، ومن توطّن المساجد تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم، فهل تلام القلوب حين تتعلق بأطهر البقاع وخيرها؟ كلا والله! بل يلام العبد حين يضل طريقها.
معاشر المسلمين: وكم للمتعلقة قلوبهم بالمساجد من أخبار وأسرار، وروائع وعجائب، ويوم أن يأتي ذكرهم فإن مقدمهم في ذلك كله هو محمد رسول الله، فلله! كم للمسجد من قدر في قلبه عليه السلام.
ففي المسجد يوزع الصدقات، ويلقي العظات، ويعقد الرايات، ويتفقد كل محتاج من المسلمين والمسلمات.
وإذا دعا داعي الصلاة: حي على الصلاة؛ هرع مبادرا ملبيا؛ تقول عائشة: "كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام -وفي لفظ- كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه".
ولما مرِض مرَض الموت أمر بأن يحمل بين يدي رجلين إلى المسجد، وأريق عليه ثلاث مرات الماء ليخرج للصلاة، وبعد كل مرة يغمى عليه حتى عجز عن الخروج، فقال: "مُروا أبا بكر فليصل بالناس".
وفي آخر لحظات الدنيا وعند الوداع أوصى الأمة كلها بأن تتعلق قلوبها بالمساجد وبالصلاة، فهل رأيت أحدا يوصي عند موته بشيء ليس هو أهم الأشياء لديه؟ "الصلاةَ الصلاةَ! وما ملكت أيمانكم!". فأين أتباع رسول الله من المساجد؟ وما قدر الصلاة في قلوبهم؟.
أيها المسلمون: ولقد سطر لنا التاريخ مآثر أقوام كان لهم مع المساجد شأن وأي شأن! فهل سمعتم بالمسمى بحمامة المسجد؟ وهل أتاكم نبأ الربيع بن خيثم الذي يقول: إني لآنس بصوت عصفور المسجد أشد من أنسي بزوجتي! وهل سمعتم بمن يقول: إذا أذن المؤذن فإن لم تجدوني في المسجد فاطلبوني في المقبرة.
هل سمعتم بمن مكث أربعين سنة لا يؤذن المؤذن لصلاة إلا وهو في المسجد؟ وكم من أقوام في القديم والحديث قبضت أرواحهم وهم في المساجد! وكم في المساجد من هم في أشد أحوال المرض وهم معذورون..
لقد حدّث من رأى أحد كبار السن في إحدى القرى وهو ضرير ولا يجد من يقوده يخرج من بيته ويضع يده على طرف حبل يوصله إلى المسجد، ولما سئل عنه أُخبِر بأنه ربط الحبل بين باب بيته والمسجد ليصل إليه ويعود ولا تفوته صلاة! ولم يترك المسجد يوما بسبب أنه لم يجد من يوصله! فأين الأصحاء؟ إنها نماذج رائعة، وفي الأمة من ذلك الشيء الكثير.
ونحن -أيها الكرام- نطمح أن نكونَ من المستظلين بظل العرش، ونكونَ من قوم تعلقت قلوبهم بالمساجد؛ فأين البرهان على صدق هذا الكلام؟.
إن المتعلقةَ قلوبهم بالمساجد لا يتأخرون عن الصلاة؛ بل تراهم أول من يقدم للمساجد، وربما آخر من يخرج منها.
إنك تراهم لا يفوّتون التكبيرة الأولى للصلاة، همّ أحدهم أن يدنو من الإمام، وأن يدرك الصف الأول.
إنك تراهم -يا من رمت فعالهم- يأتون للمساجد ولو نأت وبعُدت، ويتحرون أن يأتوا على أقدامهم؛ لأنهم يعلمون أن الله يكتب لمن مشى للمسجد وقد توضأ بكل خطوة حسنة، وتكفر عنه سيئة.
المتعلقةُ قلوبهم بالمساجد يؤدون الصلاة في المساجد لا في البيوت، ولا يتخلفون عنها إلا لظرف لا يقدرون معه على الحضور، شأنهم في ذلك شأن الصالحين الذين كانوا إذا فاتت أحدهم الصلاة في المسجد حزن لذلك وعُزّي لها أياماً، ولم يشلغهم عنها تجارة أو مؤانسة،
إنهم يخرجون للمساجد ولو في الظُلَم لصلاة الفجر، يخرج الواحد منهم يرافقه من ولاه الله عليهم من الأبناء، يخرجون ونُصب أيديهم بشرى الحبيب عليه السلام: "بشِّر الـمَشَّائين في الظُّلَمِ إلى المساجد بالنُّورِ التامّ يوم القيامة".
المتعلقة قلوبهم بالمساجد لا يضجرون من طول مكثهم في المسجد، بل ربما سعوا لذلك، وهم يعلمون أن الملائكة تصلي على المرء ما دام في المسجد، تقول: اللهم اغفر له وارحمه وتب عليه. ما لم يؤذ فيه أو يحدث فيه.
إن هؤلاء هم الذين تعلقت قلوبهم بالمساجد؛ فهل أحد أفضل منهم؟! هم في ضمان الله حتى يرجعوا، وهم وفد الله أعد لهم نزلهم حتى يخرجوا، وهم في ذمة الله حتى يمسوا، فهنيئاً لهم موعود رسول الله يوم الشدائد والحر في القيامة بأن يستظلوا بظل العرش آمنين مطمئنين، من الشدائد ولهب الشمس ناجين، جعلنا الله منهم أجمعين.
أقول ما سمعتم…
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد معاشر المسلمين: إذا كان للمساجد أناس بها يتعلقون، ولها يألفون، فللمساجد أيضا هاجرون، وكم هي خسارة أن يهجر المرء بيت ربه! وكم هو حرمان أن يضل طريق المسجد ودربه!.
ونحن نرى كثرة المساجد والتنافس في بنائها وتشييدها، فأهم من ذلك أن نتساءل عن عمارة المساجد المعنوية والتي لأجلها أوجدت.
ويحز في قلب كل مسلم يوم أن يرى فئاماً من المسلمين قد هجروا بيوت الله بلا عذر ولا مرض، وبات الخلل واضحا بإلقاء نظرة على أعداد المصلين وأعداد الساكنين.
الهاجرون لبيوت الله هم قوم لم يشهدوا الصلاة في المساجد ولم يركعوا في بيوتهم، سول لهم الشيطان أن الإسلام انتساب وكفى، وغفلوا عن قول المصطفى: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة".
الهاجرون لبيوت الله هم قوم جاوروا المساجد فشكت هجرانهم، وسمعوا النداء فصلوا في بيوتهم كالنساء، يفرحون بمن يقول لهم: الصلاة في المساجد سنة، ويغفلون عن قول رسول الأمة: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أنطلق فأحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة مع المسلمين". أفلا يكفي هذا دليلا على وجوب الصلاة في المساجد؟.
إن الهاجرين هم قومٌ أصح الله أبدانهم، ومن الخوف آمنهم، فطريقهم للمسجد آمن، وتقودهم إليه أعينهم وأقدامهم، فيخرجون لكل شيء ولا يشق عليهم، فإذا حانت الصلاة جاء التكاسل. فهل هذا شكر الله على نعمائه؟.
إن الأعمى جاء إلى الرسول عليه السلام يستأذنه إذ لم يجد من يقوده، فقال له: "أتسمع النداء؟"، قال: نعم، قال: "فأجِب؛ لا أجد لك رخصة". فماذا سيقول هؤلاء؟.
إن أقواما لزموا الأسرة البيضاء وركبوا الكراسي المتحركة من الإعاقة وهم اليوم يتمنون أن يمرغوا جباههم لله سجّداً في بيوت الله؛ فأين أنتم أيها الأصحاء؟.
يا هؤلاء: ما غركم بربكم الكريم، الذي قال في كتابه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59].
يا هؤلاء: ماذا ستقولون لربكم؟ والصلاة أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة؛ فإن كانت صالحة فقد أفلح، وإلا خاب وخسر.
يا هؤلاء، لئن اعتذرتم لأنفسكم اليوم بطول صلاة الإمام أو تأخر إقامته أو سرعة صلاته أو عدم احتمال برد أو حر في المسجد، ولئن قلتم للناس إنكم صليتم في مساجد أخرى؛ فلتعلموا أن الذي يحاسبكم هو الذي لا تخفى عليه خافية، والناس ليس بيدهم جزاء ولا عقاب.
ويوم أن يودع المرء في قبره فلن ينفعه سعة أمواله، ولا كثرة أولاده، ولا قوةُ بدنه، ولا شرفُ نسبه؛ بل ينفعه الركعات والسجدات، وينفعه أوقات قضاها مناجيا رب الأرض والسموات، وينفعه أوقات مكث فيها في المساجد للصلوات.
فلنسأل أنفسنا جميعا: كيف نحن والصلاة؟ إن المسجد ينادينا وصفه الأول يتوق إلينا، ومصاحفه تنتظر أن نمد لها أيدينا.
وإن أقواماً خطت للمساجد، وجِباها سجدت له ذلا بين يديه، وأعينا هجرت النوم يوم أن سمعت المنادي للصلاة، وقلوبا أقبلت على الله في كل يوم خمس صلوات، لحريةٌ أن تكون من قوم سيظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وقد روى البخاري عن عباية بن رفاعة، قال: أدركني أبو عبس وأنا أذهب إلى الجمعة، فقال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار".
فلنعُد لبيوت الله، ولنُعِد لبيوت الله قدرها، ولنعلق القلوب بها، وإذا أغلقت دوننا أبواب الدنيا وأهلها فباب الله لا يغلق، وبيته مفتوح، وما خاب من قضى وقته ببيت رب الأرباب، وعلق قلبه بالمساجد مناجياً الإله الوهاب.
أسال الله أن يحيي قلوبنا، وأن يوفقنا لما فيه خيرنا وفلاحنا.
اللهم اجعلنا وذرياتنا من المقيمين الصلاة، واجعلنا ممن تكون الصلاة حجه لهم لا عليهم…
الشيخ : منصور محمد الصقعوب