يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)، ويقول الحق سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ).
يا رب لك الحمد والشكر بأن سخرت لبيوتك عمّارًا.
يا رب لك الحمد والشكر بأن جعلت لبيوتك عبّادًا.
يا رب لك الحمد والشكر بأن جعلت لمن يبني بيوتك في الجنّة دارًا.
يا رب لك الحمد والشكر بأن حططت عمن دخل بيوتك الآثام والأوزار.
يا رب لك الحمد والشكر بأن أذنت لبيوتك أن ترفع الأذان (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ).
عباد الله: فهذا إذن من الله بأن ترفع بيوته، والله لا يأذن لرفع بيوته إلا لمن يحب؛ لأن هذه البيوت بيوت الله لقوله عز وجل: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) وقوله تعالى في الحديث القدسي: «إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زواري فيها عمّارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره».
فالشكر لله أولاً وآخر، ثم لمن قام على إعمار بيوت الله، فكرّس ماله وجهده في سبيل بيوت الله لتكون منارة للعلم والدعوة، وإقامة شعائر الله من صلاة وتدريس وخطابة وذكر لله عز وجل.
ونظرًا لأهمية المسجد في الإسلام حث الله عز وجل عباده على المسارعة لإعمار بيوته في الأرض، فهي موئل للعلماء ومنارة للعلم وهي زينة الدنيا وبهجتها, وهو أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد استقرار دعوته بناء المسجد فأرسى قواعد مسجد قباء عند هجرته من مكة إلى المدينة، وشارك في بنائه بيده الشريفتين, فكان أول مسجد أُسِّس في التاريخ الإسلامي.
ثم أقام المسجد النبوي، فكان للعبادة والعلم ومركزًا للدولة الإسلامية؛ ليبين لنا رسولنا الكريم أهمية المسجد في حياة المسلمين, فهو نواة للتوحيد والوحدة والتآلف والتعارف، فمن هنا جاءت أهميتها العظمى.
ولأهميتها أيضًا فقد أضافها الله لنفسه, فحسبها فخرًا وشرفًا أن أضافها الله لنفسه بقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) فاقتصر عمارتها على المؤمنين فقط؛ لذلك قال تعالى في حق المشركين: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ) فهذه المساجد لله والمشرك بالله لا يجوز ولا يُقبل منه أن يكون ضيفًا على الله ومعمّرًا لبيوته، ثم قال الله عز وجل: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ).
فهذه شهادة من الله أن عمارة المساجد علامة من علامات الإيمان: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان»، هذا في العمارة المعنوية, ويقول ابن كثير: "شهد الله بالإيمان لعمّار المساجد، فهم أهل الله وزوّاره"، فهي من أفضل القربات لله، ولذلك يقول رسول الله: «ومن بنى بيتا لله بنى الله له بيتًا في الجنة»، وهذا في العمارة المادية.
وعندما نتحدث عن عمارة المساجد نقصد بها العمارة بشقيها المادي والمعنوي؛ لأن المساجد لم تقام لذاتها بل أقيمت لغيرها، وهي العبادة, والعمارة المعنوية من إقامة شعائر الله, فلا معنى للعمارة المادية دون المعنوية فلم تقام الحجارة لذاتها بل لغيرها من عبادة وذكر وصلاة وتعلم فهنيئًا لمن شيَّدها وزارها وأقام الصلاة فيها.
عباد الله: فتعتبر المساجد من أبرز معالم الإسلام ومكونات المجتمع الإسلامي، ومن أبرز المؤسسات التي تحفظ للأمة الإسلامية تاريخها الماضي وتربطه بواقعها الحاضر, ولقد اعتبر النبي المساجد أمارات تدل على إسلام أهل البلد، ومما يدل على ذلك فعن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله يُغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار».
وهذا دليل على ما للمساجد من أثر بالغ في الإسلام؛ حيث يعتبر وجودها وعمارتها بالأذان والصلاة صورة حية للمجتمع الإسلامي، كما يعني فقدها أو فقد عمارتها بعبادة الله تعالى ابتعاد المجتمع عن الإسلام وتلاشي مظاهره من واقع المجتمع, وفي هذا المعنى يرشد النبي أصحابه إلى وجوب الإمساك عن القتال إذا رأوا مسجدًا أو سمعوا مؤذنًا، وكان رسول الله إذا بعث جيشًا أو سرية يقول لهم: «إذا رأيتم مسجدًا أو سمعتم مؤذنًا فلا تقتلوا أحدًا».
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه… نعم لأن الرسالة السماوية التي يؤديها المسجد رسالة عظيمة هي رسالة التوحيد وفي ذلك فليتنافس المتنافسون هنا الاستثمار وهنا التنافس، وهنا الاتجار مع الله فمن تاجر مع الله فلا خسران لتجارته.
نعم عباد الله: بيوت الله تعمر بالذكر والصلاة والقرآن (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ).
بيوت الله تعمر بالمحافظة على صلاة الجماعة (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).
بيوت الله تعمر بالمحافظة على صلاة الفجر في جماعة قال: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله» فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيء….
بيوت الله تعمر بالمحافظة على صلاة الجمعة «من تركها تهاونًا طبع الله على قلبه».
بيوت الله تعمر بالمحافظة على نظافتها والعناية بها، وعدم التدخل بشؤونها، وترك الأمور لأهلها.
بيوت الله تعمر بهجران المعصية والإقبال على الطاعة والتوبة، وعدم إيذاء المصلين.
عباد الله: بادروا بالأعمال الصالحة, وإعمار المساجد بشقيها المادي والمعنوي، وهما من الأعمال الصالحة فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا» رواه مسلم.
وإذا وُفِّق الإنسان لعمل صالح ففيه دلالة على محبة الله له؛ لأن الله إذا أحب عبدًا استخدمه لطاعته كما جاء في الحديث القدسي: «ومازال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي بها، وإذا سألني لأعطينه وإذا استغفرني لأغفرن له وإذا استعاذني أعذته».
فبادروا بالأعمال الصالحة فهي سبب لنزول رحمة الله.
وبادروا بالأعمال الصالحة، فهي سبب نزول المطر.
وبادروا بالأعمال الصالحة فهي سبب للحياة الطيبة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). و«إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»، فبادروا قبل أن تبادروا بالحساب الشديد وسارعوا بالتوبة قبل أن يسارعكم ويعاجلكم الموت (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) وفاجئوه بالتوبة فبل أن يفاجئكم (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).
كم من إنسان الآن في قبره يقول: رب أرجعني لأصلي.
كم من إنسان الآن في قبره يقول: رب أرجعني لأزكي.
كم من إنسان الآن في قبره يقول: رب أرجعني لأصوم.
كم من إنسان الآن في قبره يقول: رب أرجعني لأصلي الفجر في جماعة.
كم من إنسان الآن في قبره يقول: رب أرجعني لآمر زوجتي وابنتي بالحجاب يقال لهم كلا (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
عباد الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها».
وجاء في الحديث عن أبي هُريرة رضي الله عنه أن فقراء المُهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم فقال: «وما ذاك»؟، فقالوا يُصلون كما نُصلي، ويصومون كما نصومُ، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتقُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكونُ أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم»؟
قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تُسبحون وتحمدون وتكبرون، دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة»، فرجع فقراءُ المُهاجرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهلُ الأموال بما فعلنا، ففعلُوا مثلهُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذلِك فضلُ الله يؤتيه من يشاءُ» متفق عليه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن من أهم الأعمال الصالحة التي تؤدَّى في المساجد: صلاة الجماعة، وقد رُويت عن رسول الله أحاديث عديدة تأمر بصلاة الجماعة وتبين فضلها. ومن الأعمال الصالحة أيضًا: المداومة على مجالس الذكر والعلم فيها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا, قال فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول هل رأوني؟ قال فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدًا وتحميدًا وأكثر لك تسبيحًا, قال يقول: فما يسألوني؟ قال يسألونك الجنة. قال يقول: وهل رأوها؟ قال يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول فكيف لو أنهم رأوها؟ قال يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا وأشد لها طلبًا وأعظم فيها رغبة.
قال فمم يتعوذون؟ قال يقولون من النار. قال يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون لا والله يا رب ما رأوها، قال يقول: فكيف لو رأوها؟ قال يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد لها مخافة، قال فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة؟ قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم» رواه البخاري ومسلم..
الشيخ : بركات أحمد بني ملحم