الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، فالدنيا غير مأمونة، ومن أراد السفر تزوّد بالمؤونة، ومن أحب النجاة شمّر وعزم، والاجتهاد على قدر الهمم، اهتمّ بالخلاص أولو التُّقى والإخلاص، وفرَّطَ المفرطون، ثم ندموا ولاتَ حينَ مناص.
أيها المؤمنون: أشرف البيوت وأجلها وأشمخها، وأكثرها مطاولة للزمان بيوت الله في أرضه، التي اصطفاها لعباده، فباتت بيوتَ كلِّ تقي، وعلَّقَ عليها فؤادَ كلِّ وليّ، إنها أحب البلاد إلى خالقها، وأفضل مواطنِ الأرض عند واضعها، أذن الله أن ترفع ويذكرَ فيها اسمه: (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور:36-38].
أَذِن ربنا أن تكون المساجدُ مقرّا لأجَلِّ القربات، وخيرِ موضوع من المفروضات، تشيَّد للذكر والتسبيح والصلاة وقراءة القرآن، وفيها الوعظ والتعليم وما يهم المسلمين من أمور عظام، وأولياءُ المساجد والأحق بها هم المتقون: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الأنفال:34].
وأصدق شهادة على الكفر النأيُ عن عمارة المسجد بالإيمان والعبادةِ لله خالصةً له: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة:17-18].
إنه وعد ممن لا يخلف الميعاد بهداية عمار المساجد حسيًا بتشييدها مخلصين لله في ذلك، غيرَ مبتغين رياءً ولا سمعة، وغير مجاوزين بها الحدَّ المشروع، وعمَّارِها معنويا بتوطُّنِها للصلاة والذكر.
رتّب الشارعُ على عمارتها حسيّا الثوابَ الجزيل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتًا في الجنة" [رواه الشيخان].
كيف وأم هذه البيوت هو المسجد الحرام الذي هو أول بيت وضع للناس؛ قيامًا لمصالحهم ومعايشهم أبد الدهر، فإذا جاء وعد الله وهدم البيت هلك الناس.
فما أعظم بناء بيوت الله ابتغاء رضوانِ الله، دون ما ضرارٍ أو مباهاة، وأحقُّ المساجد أن يقام فيه ويعبدَ الله فيه: مسجدٌ أسس على التقوى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة:108].
ولذا فقد كان بناءُ المسجد أولَ عملٍ عمله رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذْ قدِم المدينة، ومن ثَمَّ انطلقت بيوت الله تصدح بصوت الحق في سائر الأوطان، يتسابقُ المسلمون إلى عمارتها، تزيد ولا تنقص، وتتسع ولا تضيق، بحمد الله وفضله، ولا يجوز الاعتكاف للعبادة إلا فيها، ولا تشد الرحال تعظيما لمكان ولو كان قبرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا إلى المساجد الثلاثة أفضل مساجد الدنيا.
وكان حقيقا بالإكرام وعلو المكانة، كل من قام بتطهيرها وإعدادها للمصلين والعابدين، وقد سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رجل أسودَ كان يقم المسجد -أو امرأة- فأخبر بوفاته، فقال: "أفلا كنتم آذنتموني؟" ثم أتى قبره فصلى عليه، أو عليها [أخرجه البخاري ومسلم].
وقد عهد الله إلى الخليل إبراهيمَ وابنه إسماعيلَ -عليهما السلام- بتطهير أفضل بيوته، ووجد صلى الله عليه وسلم في مساوئ أعمال هذه الأمة: تلويثَ المسجد بالأذى، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوي أعمالها النخاعةَ تكون في المسجد لا تدفن" [أخرجه مسلم].
وفي خبر الأعرابيّ الذي بال في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [رواه مسلم].
ومن إكرام المساجد وإكرام مرتاديها: أن من أكل ذا رائحة مؤذية نهي عن قربانها، بل أمر الحقُّ تعالى بأخذ الزينة عند كل صلاة: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف:31].
أيها المؤمنون: حبذا القلب التقي مُوقَفًا على كلّ مسجد؛ ليكون واحدًا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله؛ كيف والمسجد بيت كل تقيّ؛ إذا خرج من المسجد علق قلبه فيه؛ ليأويَ إلى أهله وذويه، وينقلب إلى حاجته وقلبه يرتقب الصلاة في كل حين، إنه تعلق حقيقي، لا يعرف الانقطاع ولا الملل، ولا الموسمية في أداء فرض الله، وحقيق بقلب استظل بظلال خير بقاع الدنيا أن يستظل بظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، وقد هذا شأن نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، بل كان إذا رجع من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين.
من تطهر وخرج عامدًا إلى مسجد من بيوت الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة، وكان ضامنا على الله -تعالى- حتى يرجع، إن عاش رُزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة، ولا يحافظ على ارتياد المساجد إلا مؤمن، وكان له بذلك براءةٌ من النفاق، والله يقول في صفات المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المؤمنون:9].
وهو بذلك يمْهَدُ لنفسه، ويحسن إليها، ويعدُّ الله له بذلك نزلا في الجنة، قال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له في الجنة نزلًا كلما غدا أو راح" [متفق عليه].
بل أخبر صلوات الله وسلامه عليه: أن أعظمَ الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى [رواه مسلم].
والمؤمن إذ يمشي إلى الصلاة فإنما هو يمشي إلى نور، وهو من الله في نور، وإن غطَّاه ظلام دامس، قال رسول الله -صلوات ربي وتسليمه عليه-: "بشر المشائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التامّ يوم القيامة" [أخرجه أبو داود والترمذيُّ وابن ماجه].
وإن ربكم -تعالى- ليفرح بضيوفه في بيوته؛ إذ يأتون لأداء ما أمر، وفي ذلكم يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله -تعالى- له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم" [رواه أحمد في مسنده].
ومن تعظيمها: أن لا تمتهن فيما لم تبنَ له، فلا يجوز البيع والشراء ولا إنشاد الضالة فيها، كما أرشد إلى ذلكم رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وألا ترفع فيها الأصوات بالحديث؛ تعظيما لمن عظمها تعالى، وإكراما لملائكة الرحمن الحافظين.
إنها بيوت لله، خير مَجْمَعٍ لتلاوة كتابه وتدارسه، وأرجى مقام تتَنزَّل فيه السكينة، وتَغْشَى الرحمة، وتَحُفُّ الملائكة، ويذكر اللهُ أهله فيمن عنده، وهي من أجدر المواطن التي يباهي الله بذويها ملائكتَه.
ولقد كانت نقطةَ ارتكاز قوة سلفنا الصالح وعزتِهم، ففيها يعلم العلم، ويجاب السائل، ويُدعَى إلى الصدقة، وتعقَدُ الألوية، وتُجَيَّش الجيوش، فأين مجلسُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وأين مجلس أبي بكر وعمر وعثمان علي، وأبي هريرة وابن عباس وأنس وغيرهم من الأصحاب -رضي الله عنه-، ومجلسُ سعيدِ بنِ المسيِّب، والحسن البصري، وإمام دار الهجرة، وإمام أهل السنة وغيرهم إن لم يكن في المسجد؟!
أما لو عادت للمساجد أدوارها التي كانت عليها لتعلقت بها قلوب الكثير ممن غفلوا عنها، وأغفلت قلوبهم عن ذكر الله فيها، واستخفوا بشأنها: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف: 29].
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي الجلال والإكرام والمحامد، رفع شأن المساجد، وجعلها مثابة للمنيبِ العابد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خير ما أتى به ساعٍ إلى ربه وحافد، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، البشير والنذير والشاهد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين نصروا الدين وكانوا غيظَ كلِّ جاحد، وسلَّم تسليمًا.
أما بعد: فكما أن بيوت الله ظلٌّ في الدنيا من أذى الشياطين؛ فهي أمانٌ لمن دخلها، أمان من النفاق والكفر، وأمانٌ من عبادة الهوى والشيطان، وأمان من الفتن -بإذن الله-، وأمان من الخوف، ولقد جعل الله -جل جلاله- لمن دخل المسجد الأول المسجد الحرام أمْنا: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97].
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: 67].
فلا عجب إذن أن يضيَّقَ على هذه المساجد في بلادٍ كافرة تدَّعي الحريةَ المطلقة، ولا عجب أيضا أن تدكّ المساجد على المصلين فيها بأيدي الرافضة والنصيرية الظالمين، الذي كان ذلكم الإثم الذي اقترفوه آيةَ بلوغهم في الظلم غايته، فلا أظلمَ ممن منع مساجد أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة:114].
إنما العجب كل العجب ممن يدعون الإسلام، ويقولون من خير قول البرية عليه الصلاة والسلام، بل يدّعون أنهم بالإسلام أحق، وأنهم أحسن فهما، وأعمق تحقيقًا، ثم يخيفون -عباد الله- في بيوته، بل ينثرون أشلاء المصلين، ويمزقون كتاب رب العالمين، ويخربون أفضل بقاع الأرضين، شاهت وجوههم، وشلت أيديهم، ألهم قلوب يفقهون بها؟! ألهم في ذلك كتاب وسنة أو أثارة من علم؟! ومن سبقهم إلى تكفير المسلمين بالجملة، ثم قتلِهم بالجملة في مساجد الله؟ من شيخهم في هذا إلا أبو لؤلؤة المجوسي، وابن ملجم الخارجي، ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني نهيت عن قتل المصلين" [أخرجه أبو داود].
لقد بات الناس خلال الأشهر القريبة الماضية في دهشة عظيمة: كيف لبيوت الله التي هي مرتع الأمان والاطمئنان أن تحصَّنَ وتحفَظَ برجال الأمن؟! وأي صد عن بيوت الله أفظعُ من هذا الصد؟!
أيا من بقي فيكم بقيةٌ من حسن الظن في هؤلاء: لقد كشف الله عوارهم بشنيع أفعالهم هذه؛ كيلا يبقى لكم تعلة؛ وإن الأسى ليعتصر فؤاد كل غيور ويتساءل: أنى لهؤلاء الأغرار الذي عاشوا في رُبَا هذه البلاد، وَصَلَّوْا في مساجدها، أن يقلبوا لها ظهر المجن، ويخالفوا ما تلقوه وما تعلموه من حرمة قتل النفس، فيقتلوا أنفسهم بأيديهم عمدًا، ويقتلوا المصلين الآمنين في بيوت الله، ويسلطوا المنافقين على المؤمنين، ويشمتوا ببلادهم الشانئين، كل ذلك من أجل أوامر لخليفة مزعوم، وحاشية كذبة، لم يعرفوا بعلم ولا استقامة، بل ولا حسن إسلام، لم يألوا المسلمين خبالًا، ودوا ما عنتوا، والله أعلم بما يوعون.
ألم يهد لكم -أنار الله بصيرتكم- أن ليس معهم عالم ولا طالب علم واحد؟! ألم يهد لكم تحذير العلماء منهم، وبيان ضلالهم وسوء فعالهم.
وإن قصد هؤلاء للمساجد الآمنة لدليلُ ضعف وهزيمة، فلو أمكنهم الوصول إلى المباني المحصنة لما تأخروا ساعة، ولكنهم عجزوا فعبروا عن إفلاسهم بتفجير المساجد.
اللهم ردّ كيدهم في نحورهم، واكفنا والمسلمين أجمين شرهم بما شئت وأنت السميع العليم.
الشيخ : عبد الرحمن بن إبراهيم العليان