الخطبة الأولى:
أما بعد:
فإن المساجد هي بيوت الله في الأرض، وأحب البقاع إليه، أمر أن ترفع، وأن يذكر فيها اسمه، وأضافها إلى نفسه تشريفا وتكريما، وأمر وأن تطهر وتصان وتهيأ أحسن تهيئة لعمارها بالعبادة والصلاة والذكر وقراءة القرآن، قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النــور: 36].
وقال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18].
وقال تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة: 125].
وقد دلت الأدلة على مشروعية تطهير كل بيوت الله من الأقذار والنجاسات الحسية والمعنوية.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا" [رواه مسلم].
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب" [رواه أبو داود].
وإذا كانت المساجد بيوتا أعدت للصلاة والذكر، وقراءة القرآن، والاعتكاف، ومناجاة العبد ربه، وتدبر آياته، والضراعة بين يديه، فهذه الصلة بين العبد وربه تحتاج منه إلى خلو الذهن من الأكدار والصوارف التي تشوش الذهن، وتكدر الخاطر، وتشتت القلب، لذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تكون محلاً للبيع والشراء، ونشدان الضالة، والإعلان عن المفقودات، ورفع الأصوات فيها، بل نهى عن الجهر بقراءة القرآن، حتى لا يشوش القارئ على إخوانه من المصلين والقارئين والداعين والذاكرين الله.
ولما كانت هذه المعاني تغيب عن أفهام الصبية وصغار السن، فلا يقيمون لها وزنا، ولا يدركون عواقبها وأضرارها ومفاسدها، لذا تراهم إذا دخلوا المساجد جعلوها مسرحاً للعبث والركض، والصياح والصراخ، والضحك واللهو، مما يشوش على كثير من المصلين، ويفسد عليهم عبادتهم.
لذا جاءت تقريرات الأئمة توضح الضوابط والشروط التي يجوز معها اصطحاب الأطفال إلى المساجد، فمتى اجتمعت الشروط جاز إحضارهم، ومتى اختلت كان إحضارهم أقرب إلى الإثم منه إلى الأجر، فمنها: أن يكون الصبي قد أتم سبع سنين، لقوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع".
لأنه قبل تمام السابعة مظنة للعبث والأذى.
فلا يصطحب إلى المسجد إلا من عذر كأن يخاف عليه لو تركه في البيت.
ومنها: أن يكون الصبي ابن السبع ممن لا يؤذي في المسجد ولو قدر وحصل منه الأذى، ونهي عنه، انكف عن أذاه، ولزم جادة الأدب والاحترام، وتوقير المسجد وأهله.
وقد علم أهل العلم: أن المرأة قد كانت تأتي تصلي وصبيها معها، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى وهو يحمل أمامة بنت ابنته، وأن الحسن والحسين ارتحلاه في صلاته، ولكن لم يفهموا من هذه النصوص الإباحة والإذن مطلقاً جمعا بين الأدلة، وتوفيقا بينها، ومن كلامهم في هذا الباب قول مالك -رحمه الله- وقد سُئِلَ عَنْ الصِّبْيَانِ: يُؤْتَى بِهِمْ إلَى الْمَسَاجِدِ؟ فَقَالَ: "إنْ كَانَ لَا يَعْبَثُ لِصِغَرِهِ، وَيَكُفُّ إذَا نُهِيَ فَلَا أَرَى بِهَذَا بَأْسًا، قَالَ: وَإِنْ كَانَ يَعْبَثُ لِصِغَرِهِ فَلَا أَرَى أَنْ يُؤْتَى بِهِ إلَى الْمَسْجِدِ".
وقال أحمد: "ينبغي أن تجنب الصبيان المساجد".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "يُصَانُ الْمَسْجِدُ عَمَّا يُؤْذِيهِ، وَيُؤْذِي الْمُصَلِّينَ فِيهِ، حَتَّى رَفْعُ الصَّبِيَّانِ أَصْوَاتَهُمْ فِيهِ؛ وَكَذَلِكَ تَوْسِيخُهُمْ لِحُصْرِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ وَقْتَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ الْمُنْكَرَاتِ".
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "استصحاب الصبيان مع آبائهم أو أمهاتهم إلى المساجد إذا خيف عليهم لا بأس به؛ لأن هذا كان موجودًا على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن يجب ضبطهم عن العبث في المسجد، وإيذاء المصلين، ومن كان منهم يبلغ سن السابعة فأكثر، فإنه يؤمر بالوضوء والصلاة ليعتاد ذلك، ويكون له ولوالده الأجر".
وجاء فيها أيضاً في جواب آخر: "الواجب صيانة المساجد من عبث الأطفال وإزعاجهم؛ لأنها بنيت للعبادة، ومن أحضر أطفاله ليدربهم على الصلاة، فيجب عليه الحرص عليهم، وتدريبهم أيضًا على عدم العبث واللعب بالمساجد، أو المصاحف الموجودة في المسجد، وبالله التوفيق".
فهذه بعض النقولات عن أهل العلم تبين أنه متى كان في حضور الصبيان للمساجد أذية وإزعاج وتخريب، كان إحضارهم ممنوعا منه.
نسأل الله أن يصلح أبناءنا وذرياتنا، وأن يوفق الآباء والأمهات، وأولياء الأمور، لحسن أدب أبنائهم وبناتهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإن مما يؤسف له: أن نجد الشكوى تكثر يوماً بعد يوم من مظاهر الأذى والعبث في المساجد ليس من قبل أطفال صغار في السن دون التمييز، بل من قبل شباب مميزين، بل بالغين -وللأسف-.
ولا شك أن جزءاً كبيراً من هذه الظاهرة يعود إلى ضعف التربية، وقلة التوجيه، ووهن العزيمة في غرس معاني تعظيم بيوت الله في قلوب النشء.
وأما العلاج الذي يرجى أن يقلل من هذه الظاهرة السيئة، فيتمثل في مجموعة من الوصفات يكمل بعضها بعضا، ومنها: تجنيب الأطفال المساجد دون سن التمييز لكثرة عبثهم، وصعوبة السيطرة عليهم، لا سيما بعد أن يدخل راعيهم من أب أو أم في صلاته.
ومنها: تربية الأولاد على تعظيم المسجد وتوقيره إذا بلغ سن التمييز، حتى إذا حضر الصلاة في المساجد قام بحقها من الأداب والسلوك.
ومنها: أن الأخذ على يد المسيء منهم بوعظه أو بزجره أو بتأديبه بالعقوبة المناسبة، حتى لا يعود إلى سوء صنيعه.
ومنها: تعاون جماعة المسجد على علاج هذه الظاهرة بالإنكار على من العابثين وتوجيههم، وبتنبيه ولي أمره ومناصحته.
ومنها: الرفع إلى الجهات المختصة في حال بلغ العبث إلى إتلاف منافع المسجد وأدواته، أو سرقتها، ونحو ذلك، فإن من الناس من لا يردتع إلا بقوة السلطان.
فمتى تعاونت الأسرة والمسجد، بل وغيرها من وسائل التربية والتعليم كالمدرسة والإعلام كانت ثمرة التعاون حسنة حميدة -بإذن الله- في تكثير الخير، وتقليل الشر.
الشيخ : علي بن يحيى الحدادي