الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين ….و-صلى الله وسلم- على سيد العابدين والخاشعين وعلى آله وأصحابه والتابعين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمون والمسلمات: إن الاشتغال بموضوع الصلاة لا ينبغي أن نغفل عنه، ولا أن نمل منه، أو نكل؛ بل لا بد أن يكون حاضرا بقوة في مجالسنا وخطبنا ومواعظنا ودروسنا، ويكون مركز اهتمامنا وأن تكون الصلاة قرة عيوننا كما كانت قرة عين المبعوث رحمة للعالمين رسول الختم وسيد المرسلين -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد كان يوصي بها ويعلم من لا يعلمها ويربي عليها بعناية خاصة …. ثبت في (الصحيحين) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- :"أن رسول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَدَّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَالَ: -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ،" فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا، فَعَلِّمْنِي، قَالَ: "إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا" فكيف هي صلاتنا اليوم ؟ هل نقيمها ونؤديها كما فرضها الله تعالى وكما صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ أم أننا نؤديها لنرتاح منها وكفى؟.
…اسمعوا سيدنا حذيفة ما يقول: ـ روى (البخاري) عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أنه رأى رجلاً يصلي ولا يتم ركوع الصلاة ولا سجودها فَقَالَ لَهُ: "مُنْذُ كَمْ هَذِهِ صَلاتُكَ؟" قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ له حذيفة: "مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَوْ مُتَّ وَأَنْتَ تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلاةَ، لَمُتَّ عَلَى غَيْرِ فِطْرَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
أيها المسلمون: كل فرد منا يسأل: كيف أشعر وأنا بين يدي ربي ؟ كيف يكون حالي وأنا في الصلاة؟، وما أحسن قول من وصف صلاة الكثيرين منا اليوم.
تأتي للصلاة في فتور*** وكأنك دعيت إلى البلاءِ
وإن أديتها جاءت بنقص لما *** كان منك من شرك الرياءِ
وإن تخلَّوا عن الإشراك فيها *** تدبروا للأمور بالارتقاء
ويا ليت التدبر في مباح ولكن *** تفكر في مضيعة وشقاءِ
وان كنت بين الخلق يوما أطلتها *** وأظهرت الخشوع في الانحناءِ
فتجعل في الصلاة خوف تأجيل *** لموعد بمقهى أو غيره من لقاء
أيا عبد، عظم ربك في الصلاة *** وناجيه بحب وإخـلاص و صفاءِ
يحذرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله:"لا تُجْزِئُ صَلاةٌ لا يُقِيمُ فِيهَا الرَّجُلُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُود"وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حضرتهم الصلاة، كأن على رؤوسهم الطير، استوت صفوفهم فتآلفت قلوبهم ونالوا رضوان ربهم، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ -رضي الله عنه- ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا".
وهل تعلمون أيها الأفاضل أن المصلي يسرق من صلاته ولا يدري ؟ كيف ذلك ؟: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاتِهِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلاتِهِ ؟ قَالَ: "لا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلا سُجُودَهَا".إن الخشوع الذي هو حضور القلب في الصلاة أمر مطلوب، ولا يتحقق إلا لمن فرغ قلبه للصلاة وتهيأ لها قبل أداءها باهتمام، وقد علق الله تعالى الفلاح بخشوع المصلي فقال: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون)، ولا يحصل الخشوع إلا مع الطمأنينة …فكيف نحصل إذن علة الخشوع في صلواتنا ؟.
هناك أسباب يُرجى لمن عمل بها أن يُرزق الخشوع منها أن الرحلة الإيمانية للصلاة تبدأ من حين سماع الأذان الذي يدعو للفلاح (حي الفلاح !) أي تعالوا للفوز والسعادة في الدارين، فيُقبل المسلم بنشاط وهمة لعلمه أن لا شيء في هذه الدنيا يوازي ويماثل هذا الفلاح . ثم تأتي المرحلة الموالية، متمثلة في الوضوء الذي تتساقط مع قطرة ماءه ذنوب وسيئات مقترفة، والمحرك الثالث لإحضار الخشوع هو استشعار الأجر العظيم لخطوات الصلاة: خطوة ترفع درجة، وأخرى تحط خطيئة، وعند عتبة المسجد يقول المصلي عند الدخول: "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، فتستغفر له الملائكة"، وتقول: "اللهم اغفر له اللهم ارحمه"، ثم يصلي ركعتين، يحظر فيها التنزيه والتعظيم لله عند الركوع: "سبحان ربي العظيم" وعند السجود: "سبحان ربي الأعلى" ثم يشتغل بقراءة القرءان، أو بالاستغفار أو بالدعاء والذكر فهو في صلاة حتى يجدد المؤذن تذكيره عند إقامة الصلاة بالفلاح "حي على الفلاح" ويحاول تدبر ألفاظ ما يتلى من كلام الله، وحين يضع المصلي جبهته على الأرض يستشعر أنه في موضع العزة والقرب والارتفاع، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء".
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبكلام سيد المرسلين، ويغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين ولمن قال آمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين.
عباد الله: إن مطلب الخشوع في الصلاة مطلب ملح، ومنزلة الخشوع من الصلاة كمنزلة الرأس من الجسد،
فمن أين لمن ينقر صلاته نقر الديك أن يخشع ؟أو لمن عنها انشغل أن يُقلِع ؟ وأبلغ ما يستقر في النفوس سحر البيان، ولنسمع:
إن صلاةَ بعضنا عجيبة ! بـعيدةٌ عن الـهدى غريبة
أيها المسلمون والمسلمات: هناك في مساجدنا ظواهر، تطرد السكينة والطمأنينة وتمنع الخشوع في الصلاة منها:
-الهواتف النقالة التي يحملها المصلون معهم، فأي خشوع يدركه من يقطع تواصله مع ربه رنينُ هاتفه المتكرر ؟فيشغل نفسه ويؤذي غيره ! هذا إذا كان رنينا عاديا، فكيف به إذا كان أنغاما موسيقية أو أغنية ساقطة ؟ لقد حوَّل الكثيرون منا نعمة الهاتف إلى نقمة وأذى للمسلمين …وقد يستفحل الأمر، فيُخرج شاب وسط صفوف الصلاة هاتفه لإطفائه، فإذا بمنظر صورة فاضحة لفتاة عارية تملأ الشاشة ؟!! فأي خشوع وأي صلاة!!! بل أين توقير وتعظيم بيوت الله التي تشتكي إلى الله انتهاك حُرمتها.
– ومما يشوش على المصلين ويؤذيهم، اصطحاب الصبيان فيركضون هنا وهناك بين الصفوف ،أو يملأ ون المكان صراخا وبكاء …فلا ثم لا ثم لا يجوز اصطحاب صبيان لا ينضبطون، ويتسببون في الأذى للمصلين ! أما إذا كان الأطفال في سن التمييز ولا يصدر منهم ما يزعج ويؤذي فحضورهم لبيوت الله خير ونفع وتعويدهم على التعلق بالمساجد…سئل الإمام مالك -رحمه الله- عن الصبيان يؤتى بهم للمساجد فقال: " إن كان لا يعبث لصغره ويكف إذا نُهي فلا أرى بهذا بأسا، وإن كأن يعبث لصغره فلا أرى أن يؤتى به إلى المسجد "…أقول ما تسمعون، فانشروا الخير بينكم، وتناصحوا وبلغوا ما سمعتم، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
الشيخ : الحسين أشقرا