الخطبة الأولى:
الحمد لله أثنى على الخاشعين، وجعل الخشوع من أسباب فلاح المؤمنين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أكمل لعباده الدين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله عاتب صحابة نبيه إذ ركنوا إلى شيء من الدنيا ولحقهم من تغير قلوبهم ما فاتهم به خشوعهم فقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) [الحديد: 16].
يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين, إنه ليس بعد فقد الخشوع إلا قسوة القلب، وليس بعد قسوة القلب إلا الفسق عن أمر الله والخروج عن طاعته.
وهذه حال أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين حذّرنا الله طريقهم، فقال تعالى: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].
(فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) فاستكثروا الالتزام واستطالوا طريق الاستقامة فلم يثبتوا، ولم يداوموا على ما هم عليه من الخير.
بل دبت إليهم الغفلة فنقص إيمانهم وقل يقينهم، فارتكبوا ما حرم الله عليهم، وهكذا النفوس -يا عباد الله- تحتاج في كل وقت إلى أن تُذَكَّر بما أنزل الله، وأن تلين بتلاوة كلامه؛ فإن الغفلة سبب لقسوة القلب وجمود العين.
ولقد كان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يتخوَّل أصحابه بالموعظة مخافة السآمة.
وعظَهم مرة موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، كل هذا مع أن الصحابة يعاينون التنزيل ويرون من آيات الله التي يُجريها على يدي رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما توجب ثباتهم وزيادة إيمانهم، ولذلك كان الصحابة -رضي الله عنهم- مع نبيهم أكمل الناس إيمانًا وأخشعهم قلوبًا.
فالخشوع -يا عباد الله- خضوع في القلب واستكانة في النفس يبقى صاحبه مرتبطًا بالله، فإذا ذكر الله ذكره بقلب خاشع، وإن صلى بقلب خاشع، وإن تصدق أو صام أو حج أو اعتمر أدى ذلك كله بقلب خاشع، وهكذا في جميع أعمالهم.
ثم بخشوع القلب يحصل خشوع الجوارح، فلا يسمع إلا ما يرضي الله، ولا يبصر ما يغضب الله، ولذلك كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي".
وإن أظهر ما يكون الخشوع فيه في عبادة المرء في صلاته.
هذه العبادة العظيمة التي حرص الشيطان فيها على إذهاب خشوع المصلي منها يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وبين نفسه فيذكره ما لم يكن يذكر، ويقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى".
كل هذا -يا عباد الله- حتى لا تعطي الصلاة ثمرتها للعبد، ولا تكون ناهية له عن الفحشاء والمنكر فيخرج المصلي من صلاته بالحال التي دخل فيها.
فلم تزده صلاته من الله قربًا, ولا من المعاصي بعدًا، ولقد بلغ الشيطان مبلغًا عظيمًا فتلاعب ببعض المصلين حتى لا يكاد يعقل من صلاته لا قولاً ولا فعلاً.
وربما سها المصلي في صلاته، ثم سها السهو الثاني، وربما الثالث في صلاة واحدة، ثم لا يزال الشيطان موسوسًا له حتى ينسيه أن يسجد للسهو.
فأيّ صلاة هذه؟، وأي مسكين هذا المصلي، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن العبد ليصلي الصلاة وينصرف منها وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها حتى قال نصفها" (أحمد 4/321، وحسنه في صحيح الجامع1622).
فليس لك يا عبد الله من صلاتك إلا ما عقلت منها.
عن شداد بن أوس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أول ما يرفع من الناس الخشوع" صحيح رواه الطبراني.
وإن حال كثير من الناس اليوم هو ما حدث به عمر -رضي الله عنه- يومًا على المنبر فقال: "إن الرجل يشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة". قيل: وكيف ذلك؟ قال: "لا يتم خشوعها وتواضعها، وإقباله على الله -عز وجل-".
وقال: عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: "يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى رجلاً خاشعًا".
وهذه يا عباد الله – حالنا يشيب عارضا الرجل، وما أكمل لله تعالى صلاة، يصلي كما يصلي الصبيان. تدخل المسجد فلا تكاد ترى فيه خاشعا. فلله المشتكى.
واعلم -يا عبد الله- أن فقدان الخشوع من قلبك قد يكون عقوبة من الله لك إثر معصية وقعت فيها، فإن للمعاصي شؤمًا يجده الإنسان في قلبه فيفقد ما كان فيه من خشوع وإقبال على الله.
وهذه – والله – من أشد العقوبات وأنكاها أن يُحرَم الخير بعد أن ضاق طعمه، وأن يدبر قلبه بعد أن كان مقبلاً.
ثم هو مع ذلك لا يحسّ بهذا النقص ولا يرى أنه فاته شيء (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].
وإن العبد متى ما فقد الخشوع من عبادته ثقلت عليه، فلا يكاد يؤديها إلا بشق الأنفس، فيشابه المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى.
فنجده إذا قام في الصلاة قام قيام المتضجر كأنه واقف على الرمضاء لا يثبت في قيامه يراوح بين قدميه متمايلاً في بدنه يرفع يدًا وينزل أخرى، يصلح ثوبه وساعته، يتفقد جيوبه حتى إن الرائي له يقول – سبحان الله –: هل كبر ودخل في صلاته أم لم يكبر بعد؟!
وان ركع لم يتم ركوعه، وبقي إلى حال القيام أقرب منه إلى الركوع، ثم إذا أراد السجود يرمي بنفسه على الأرض ينقر سجدتيه لا يحسن فيهما ذكرًا ولا دعاء، ومع هذا كله إن صلى في جماعه فهو مستطيل لصلاة إمامه، مسابق له في رفعه وخفضه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار" (متفق عليه).
فيا من يسابق إمامه: اعلم أنك لن تنصرف من صلاتك قبل إمامك, وإن فعلت بطلت صلاتك فلم يكن في مسابقتك إلا نقصان أجرك وتعريض بنفسك للعقوبة.
عباد الله: هذه حال من فقد الخشوع في جوارحه الظاهرة، وأما قلبه فهو في كل وادٍ يهيم, يفكر تارة في بيعه وشرائه ووظيفته، وتارة في أمور بيته، وربما سافر ورجع كل هذه وهو يصلي وفي عداد جماعة المسجد، بل ربما أشغله الشيطان في أمور لا حقيقة لها, ولو رجع إلى رشده لضحك من نفسه كيف استدرجه الشيطان إلى هذا الحد؟!
فاعرفوا -رحمكم الله- حدود صلاتكم، ولا يكن للشيطان من صلاتكم نصيب؛ فإن الشيطان لكم عدو مبين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم…
الخطبة الثانية:
الحمد لله يحيي الأرض بعد موتها، ويلين القلوب بعد قسوتها.
وأشهد ألا إله إلا الله حث على تطهير النفوس وتزكيتها، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكمل الخاشعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين.
أما بعد: فاعلموا أن "أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق من صلاته"! قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: "لا يُتم ركوعها ولا سجودها".
ولقد رغب أناس عن الخشوع لا زهدًا فيه، ولكنهم استطالوا طريقه واستبعدوا تحصيله! وإنَّ الله لم يطالب عباده بما يستحيل في قدرتهم أو يشق على طاقتهم.
فالخشوع يا عباد الله: قريب المنال سهل المرتقى لمن صدق العزم في طلبه، وأخذ الأسباب في تحصيله.
وان من أسباب تحصيله دعاء الله أن يرزقه الخشوع ويستعيذ به من قلب لا يخشع، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها".
ومما يعين على الخشوع أن تعرف هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاته، وأن تقرأ في ذلك أو تسمع.
قال عبد الله بن الشخير: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء" (رواه الخمسة وابن ماجه وصححه ابن حبان).
ومما يعين على الخشوع التهيؤ المبكر للصلاة بعد سماع النداء، والحضور المبكر للمسجد، والاشتغال بالذكر والصلاة، فلا يزال المرء في صلاة ما انتظر الصلاة.
وكيف يطلب الخشوع في الصلاة من يأتي للصلاة متأخرًا قد ثار نَفَسُه، وأشفق أن يرفع إمامه من الركوع قبل أن يدخل معه.
ومما يعينك على الخشوع في صلاتك: أن تستشعر أنها كفارة لما عساك وقعت فيه من الآثام، وارتكبته من الحرام؛ فإن "الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر".
وأن تتذكر أن من شأن الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، وذلك لمن أداها بقلب خاشع حاضر.
ومما يعينك على الخشوع في صلاتك أن تصلي صلاة مودع، فالعبد الخاشع كأن صلاته هذه آخر عهده بالدنيا، ثم ينقلب إلى رحاب ربه, فهو محسن لصلاته مشتاق للقاء خالقه.
فتكون لحظة الرحيل بين عينه وهادم اللذات مقبل عليه، فلا يلتفت بصده ولا يشتغل قلبه ولا يذهل لبّه.
ومما يعينك على الخشوع أن تسكن جوارحك تواضعًا لربك تضع يمناك على يسراك على صدرك. قال الإمام أحمد في ذلك: "هو ذل بين يدي العزيز".
تنظر موضع سجودك لا يرتفع بصرك إلى السماء خشية أن يخطف بصرك، متأملاً متفكرًا فيما تقرأ في صلاتك وتخاطب به ربك مستشعرًا اطلاعه -سبحانه- عليك وافتقارك إليه.
فخذ –يا عبد الله– بأسباب الخير، واستعن بربك واعلم أن الله -تعالى- يقول: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 1- 2].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة, وذلك الدهر كله" (رواه مسلم)
وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة, ومن لم يأت بهن فليس له عهد إن شاء عذّبه وإن شاء أدخله الجنة" (رواه أبو داود والنسائي).
فاللهم إنا نشكو إليك قسوة قلوبنا وقلة خشوعنا، اللهم ألن قلوبنا لذِكْرك…
الشيخ د. : عبد الرحمن بن صالح الدهش