الخطبة الأولى:
فقد مضى الحديث عن صنفين من الناس: هم التاركون للصلاة، والمؤخرون لها عن وقتها، والحديث لا يزال في رسائل عاجلة.
فالرسالة الثالثة: إلى أولئك الأحباب الذين يؤدون الصلاة، ولكن فرادى في بيوتهم، قد هجروا المساجد، وجماعة المسلمين.
وإن مسألة الصلاة جماعة في بيوت الله مسألة لا يناقش فيها إلا جاهل أو مكابر، وقد أمر الله بها، ورسوله، وأفتى علماء الإسلام على مر العصور، قال سبحانه: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ)[البقرة:43].
ولم يعذر المسلمون في إقامتها جماعة في أحلك الظروف وأحرج الساعات وهم في وجه العدو يقاتلون ويجالدون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ)[النساء:102] إلى أن قال سبحانه: (فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا)[النساء:103].
الله أكبر! أي دليل أعظم من هذا يبرهن على وجوب صلاة الجماعة؟
ففي حال الحرب والأشلاء تمزق والرؤوس تفارق الأجساد، والدماء تسيل، والخوف قد ملأ النفوس، يوجب الله صلاة الجماعة ليس هذا فحسب، بل ويأتي الشرع الحكيم بصفات متعددة لصلاة الخوف بكيفيات مختلفة تتناسب، وحال المقاتلين في كل عصر وموقعة.
فكيف يصنع، وماذا يقول من هو آمن في بيته يهنأ بطيب العيش ورغد الحياة، يستثقل خطوات يخطوها إلى المسجد في دقائق معدودة ليبقى حبيس الهواء والكسل؟
في المتفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار"[رواه البخاري ومسلم].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سمع النداء فلم يأت، فلا صلاة له إلا من عذر"[رواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم، وصحح ابن حجر إسناد الحاكم وصححه الألباني والشيخ عبد العزيز ابن باز].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة"[رواه مسلم].
قال الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله-: "ولو كانت الصلاة في الجماعة في المساجد غير واجبة، لم يستحق تاركها العقوبة" ا. هـ.
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات، حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم"[صحيح].
واسمع إلى هذا الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أتاه رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: "هل تسمع النداء بالصلاة؟" قال: نعم، قال: "فأجب"[رواه مسلم].
فهذا أعمى لا يبصر الطريق وليس له قائد والطريق فيه ما فيه من الهوام والمخاوف، ومع هذا قال: "هل تسمع النداء بالصلاة؟" قال: نعم، قال: "فأجب".
فماذا يقول ذاك الذي يسمع النداء صباح مساء، يفصله عن المسجد خطوات يسيرة، أو دقائق في سيارته، وهو يتعذر بأعذار واهية، وليس ثمة عذر -والله-، ولكنه مرض القلب وحرمان التوفيق؟
قال محمد بن المنكدر: "لم يبق من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ومصاحبة الأخيار، والصلاة في الجماعة".
قال برد مولى سعيد بن المسيب: "ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد".
وسمع عامر بن عبد الله المؤذن، وهو يجود بنفسه ومنزله قريب من المسجد، قال: "خذوا بيدي، فقيل له: إنك عليل، فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه، فأخذوا بيده، فدخل في صلاة المغرب، فركع مع الإمام ركعة ثم مات".
وكان إبراهيم المروزي: يشتغل بصياغة وطرق الذهب والفضة، فإذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها.
ومكث سليمان بن مهران: سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى.
وقال ابن سماعه: "مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي".
وكان سعيد بن عبد العزيز: إذا فاتته صلاة الجماعة بكى.
قال حاتم الأصم: "فاتتني الصلاة في الجماعة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف".
لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا، ووالله لو قام هذا بين الخلق لما بقي بيت -إلا من رحم ربك- إلا وبابه على مصراعيه ووفود المعزين زرافات ووحدان.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله-: "ولو كان أحد يسامح في ترك الصلاة في جماعة لكان المصافون للعدو، والمهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك، علم أن أداء الصلاة في جماعة أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك، ولا عبرة بالخلاف في ذلك؛ لأن كل قول يخالف الأدلة الشرعية يجب أن يطرح ولا يعول عليه".
وإن لهؤلاء ممن ترك الصلاة في الجماعة حججاً واهية، وأعذاراً هشة؛ منها: الاعتذار بالانهماك والتعب، إذا عاد أحدهم من عمله ظهراً أو قبيل العصر، فيسترخي أو ينام، والصلاة تقام أو ستقام.
والعجب في حال هؤلاء: أن أحدهم يصبر على مكابدة العمل طوال النهار، ثم إذا جاءت الصلاة بوقتها القصير خارت قواه، وضعف عزمه، فما عاد يقوى على التحمل والوقوف.
وليس الأمر عند هذا -ورب الكعبة-، ولكنه مكر الشيطان وخداعه يوم استطاع إقناع أولئك بأن الإرهاق والتعب قد بلغ منهم ما لا يصبرون معه على أداء الصلاة بوقتها القصير.
سبحانك هذا بهتان عظيم.
ومن أعذارهم في ترك الجماعة الحديث المشهور: "إذا وضع العَشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشاء"[وراه البخاري ومسلم].
وهذا صحيح والحديث ثابت لو حصل عرضاً يوماً من الدهر، أما أن يكون وضع الطعام في وقت الصلاة عادة وديدناً يحتج به بترك الجماعة، فهذا تلاعب وخداع، هو في حقيقته مخادعة للنفس، واتباع للهوى.
ومن أعذارهم أيضاً: الاحتجاج بالحديث المتفق عليه: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"[رواه البخاري ومسلم].
فيقولون: المسألة مسألة أفضلية لا مسألة وجوب.
وإن أول ما يقال لهؤلاء: إن النظر في أحكام الشرع لا يكون من خلال دليل واحد، بل لابد من جمع الأدلة في المسألة ليبين الحق. فأين هؤلاء من ذلكم الحشد من الأدلة التي توجب صلاة الجماعة صراحة لا تأويلاً؟
ثم إن هذا الحديث قد حمله أهل العلم على من فاتته صلاة الجماعة لعذر شرعي، أو لمن أقبل عليها فوجد الناس قد قضوا صلاتهم فصلى بمفرده.
أما أن يعتاد تركها احتجاجاً بهذا الحديث، فهو تارك لواجب دل عليه الكتاب والسنة وحكى فرضيته أهل العلم وأئمة الملة.
ومن أعذارهم أيضاً: شواغل البيت وقضاء الواجبات المنزلية في المنزل أو خارجه، وهذه حجة داحضة، ففريضة الله لها وقتها، ومشاغل البيت لها وقتها، وعلى قدر منزلة الشيء في نفس الإنسان يكون اهتمامه به، فلو عظمت الصلاة في النفوس لما قدم عليها إصلاح عطل في السيارة أو تعديل أثاث البيت، أو سقي الحديقة.
فهل هذه وأمثالها بتلك المكانة حتى تؤجل فريضة الله وشعار الإسلام وركنه الركين إلى حين انتهاء الشغل بها؟
سبحانك ما أحلمك! ما أرأفك!.
الخطبة الثانية:
ثمة رسالة عاجلة إلى الآباء، ونحن نرى التهاون المقيت في أمر الأبناء بأداء الصلاة في المسجد، يخرج الأب إلى مصلاه، وأبناؤه الذكور في لعب أو نوم، وإذا ما خوطب في ذلك، اعتذر بأنهم صغار، وأحدهم قد ناهز الحلم، أو يعتذر بأنه قد أمرهم.
ويا لضعف ذلكم الأمر، حين يلقي تلكم الكلمة الهزيلة وهو خارج إلى المسجد: "صلوا يا أولاد" ويظن هذا كافٍ يسقط واجب الأمر عليه.
والسؤال المهم: أين أنت من تربيتهم عليها منذ الصغر؟
هل علمتهم حكم الصلاة وحكم تاركها وحكم أدائها مع جماعة المسلمين؟
هل أدبت من تأخر عنها؟ هل رصدت الجوائز والحوافز لمن يبكر لها؟
ما أجملها من صورة! وما أبهاها من لوحة! حين ترى الأب المبارك وقد أمسك بيد ابنه يحثون المسير إلى بيوت الله في صورة من التعاون على طاعة الله.
وأخيراً: ارفع يديك، وقل: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء)[إبراهيم:40].
الشيخ : مازن التويجري