أما بعد: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر" رواه مسلم.
وروى الإمام البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهره، ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى".
هذه عباد الله فضائل يوم الجمعة، وقد زخرت كتب السنة المطهرة بأحاديث كثيرة عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يذكر فيها فضائل يوم الجمعة.
إلا أن ثمة مخالفاتٍ كثيرة يقع فيها بعض المسلمين، ومنها: ترك الاغتسال، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" أخرجه الشيخان وغيرهما، أي: واجب على كل بالغ. وقد ذهب كثير من العلماء إلى وجوبه، ومعنى ذلك: تأثيم من يتركه.
ومن المخالفات التي تقع اعتقاد البعض وجوب قراءة سورتي (السجدة) و(الإنسان) فجر يوم الجمعة، والصحيح أنه سنة وليس واجباً، كما قرره ابن دقيق العيد وابن تيمية، وقال كل منهما: لا ينبغي المداومة على قراءتهما فجر يوم الجمعة؛ حتى لا يتوهم بعض الجهال أنها واجبة.
ومن المخالفات: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- والترضي عن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- والإمام يخطب يوم الجمعة.
والصحيح ترك ذلك والإمام يخطب، لثبوت الأمر بالإنصات والإمام يخطب، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" رواه البخاري.
ومن المخالفات أن بعض الناس إذا دخل المسجد لأداء صلاة الجمعة ووجد المؤذن يؤذن الأذان الثاني ظل واقفاً وأخذ يتابع المؤذن، حتى إذا فرغ من المتابعة شرع في أداء تحية المسجد وقد شرع الإمام بالخطبة؛ حرصاً منه على تحصيل السنة في متابعة المؤذن، لكنه نسي أنه ترك واجباً في تركه استماع الخطبة.
والمتعين عليه شرعاً أنه إذا دخل المسجد والمؤذن يؤذن الأذان الثاني أن يشرع فوراً بأداء سنة تحية المسجد، ولْيُخَفِّفْهُما، كما ورد ذلك في صحيح مسلم ورواه أحمد وأبو داوود.
ومن المخالفات المتعلقة بيوم الجمعة وصل صلاة الجمعة بصلاةٍ بعدها دون أن يفصل بينهما بكلام أو نحوه، والسنة أن يفصل بين الفرض والنفل، لما ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بقيام أو كلام.
ومن المخالفات: ما يفعله بعض الناس من التسوك أثناء الخطبة، والواجب عليه ترك ذلك.
ومن المخالفات: ما يفعله بعض الخطباء من الإكثار في السجع أثناء الخطبة، وخصوصاً عند جمل الدعاء، والسنة ترك ذلك، فقد أوصى عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- مولاه عكرمة وصية قال في آخرها: فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب. أخرجه البخاري، وبوب عليه: [باب ما يكره من السجع في الدعاء].
ومن المخالفاتِ الجلوسُ فور دخول المسجد إذا كان الإمام يخطب بحجة الاستماع، والسنة أن يصلي ركعتين خفيفتين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" متفق عليه. وهذا عام في الجمعة وغيرها.
ولما دخل سليك الغطفاني -رضي الله عنه- مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والنبي يخطب قعد قبل أن يصلي تحية المسجد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أصليت ركعتين؟"، فقال: لا. فقال: "قم فاركعهما" رواه الشيخان.
وهذا نص على يوم الجمعة خاصة، والخير كل الخير في اتباع سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24].
اللهم بارك لنا…
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي فضلنا على سائر الأنام، وخصنا بيوم الجمعة المفضل على سائر الأيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، القائل: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها".
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن يوم الجمعة، يوم ادخره الله لنا نحن أمة محمد، وخصنا به، وبصلاته، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فهدانا الله ليوم الجمعة.
صلاتها من أكبر شعائر الدين، والمحافظة عليها من خصال أبرار المتقين، وجحد فرضيتها كفر برب العالمين، والتهاون بها من شعار المنافقين والفاسقين.
معشر المؤمنين: من المخالفات التي يقع فيها بعض المسلمين في شأن الجمعة، صلاتهم الظهر بعد أدائهم للجمعة، والذين يفعلونها بعض من متأخري الشافعية، وبعض من متأخري الحنفية، وقد رد ذلك محققو مذهبهم عليهم.
ذهب بعض علماء الشافعية، وبعض علماء الحنفية إلى أن صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة فرض محتم! والمعتدل منهم يقول: إنها مستحبة، وكلا القولين ضلال ومخالفة، لمخالفته فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي كان يقول على منبر الجمعة: "كل بدعة ضلالة"، ويقول أيضاً: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقد صلى الجمعة ركعتين، ولم يصل بعدها ظهراً أربع ركعات حتى مات -صلى الله عليه وسلم-.
وسار على نهجه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعين، والتابعون لهم بإحسان، وهو مذهب الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، رحمهم الله تعالى.
إن إحداث صلاة الظهر بعد الجمعة لم تحدث إلا في القرن الثامن أو التاسع أو العاشر، وهذا يعني أنه مضي سبعمائة سنة في أقل تقدير على وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يصل أحد من المسلمين الظهر بعد الجمعة.
ومن المعلوم أن من وقع في هذه المخالفة أهل دين وتقى، ولا يقصدون الكيد للإسلام، فكيف ساغ لهم إحداث هذه البدعة؟!.
كان هدي السلف الصالح من هذه الأمة الفرار من البدع، حتى كان بعضهم يتركون المداومة على بعض السنن خشية اعتقاد بعض الجهال وجوبها؛ ففي مذهب الإمام مالك: كراهية التنفل بعد صلاة الجمعة في المسجد لعموم المسلمين قطعاً لورود هذه الشبهة على بعض الناس.
أيها المؤمنون: يحتج المجوزون لصلاة الظهر بعد الجمعة أنه قد تقرر عند أئمة المذاهب إذا تعددت الجمع في بلد واحد لغير حاجة فالجمعة المعتبرة فقط هي المقامة في أول مسجد أقيمت فيه الجمعة، ويرد عليهم، بأن المانعين لتعدد الجمع في بلد واحد ليس لديهم دليل صحيح يمنع من التعدد، نعم؛ قد يكون الأفضل عدم التعدد إلا لحاجة، لكنه ليس من باب الوجوب.
ومن المعلوم أن أحوال المسلمين قديماً وحديثاً أن لا يحدثوا التعدد إلا لحاجة، وافتراض عدم الحاجة غير حاصل واقعياً، بل إن الحاجة على وجه العموم تتطلب مزيداً من افتتاح مساجد تقام فيها صلاة الجمعة.
معشر الأفاضل: إن إعادة صلاة الظهر بعد الجمعة بحجة الاحتياط يجر إلى إحدى مفسدتين عظيمتين: إحداهما: اعتقاد فرضية صلاة سادسة، ومَن اعتقد ذلك فقد كفر.
والثانية: أو يعتقد أن الإعادة سنة، والسنة هي ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو فعله، أو أقره. ولم ينقل عنه شيء من ذلك مما يؤكد أنه بدعة وليست سنة.
فليتنبه من يقعون في ذلك، فيحرموا على أنفسهم أجر الجمعة، وتكفيرها السيئات. نعوذ بالله من الحرمانِ، وقلةِ التوفيق.
الشيخ د. : صالح بن عبد الله الهذلول