إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الصلاةَ لَمَّا كانت أعظمَ ركن، وأعلى فريضةٍ بعد الشهادتين، كانت لها شروطٌ وواجباتٌ تسبقها، كالوضوء، وتجنُّبِ الرائحةِ الكريهةِ المؤذية.
ومِن ذلك أيضًا: تسويةُ الصفوفِ وإقامتها، والقيامُ لها عند الإقامة دون تأخير، ويكون ذلك بسكينةٍ وتؤدة، وقطْعٍ للكلام والالتفات الذي لا نفعَ فيه.
وكلُّ هذا من أسباب قبول وإقامة الصلاة، والطمأنينةِ والخشوع، وإجابةِ الدعاء فيها، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ"، وفي رواية: "مِنْ حُسْنِ الصَّلاةِ". متفق عليه.
والمراد بتسوية الصفوف: اعتدالُ المأمومين على سمتٍ واحد، مع سدِّ الخلل الذي في الصف.
والسنة للإمام إذا أُقيمت الصلاة، أن يُقْبل بوجهه تجاه المأمومين، ويتفقدَ صفوفهم، ويأمرَهم بتسويتها وإتمامها.
قال البخاري -رحمه الله-: "بَابُ إِقْبَالِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ"، ثم روى بسنده عن أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي".
ويجب على الإمام أن يحرص على تسوية الصفوف، ويُرشدَ من يراه قد أخلّ بذلك، ولا يتحرجُ من ذلك أبدًا.
قال العلاَّمةُ ابن عثيمين -رحمه الله-: "يجب على الإمام أن يعتني بتسوية الصف، ولا تأخذه في الله لومةُ لائم؛ لأن كثيرًا من الجهلة إذا تأخر الإمام في التكبير لتسوية الصفوف، أخذهم الحنَقُ والغضب، فلا ينبغي أن يباليَ الإمام بأمثال هؤلاء". انتهى كلامه -رحمه الله-.
وقد ثبت في صحيح مسلم، عن النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُسَوِّى صُفُوفَنَا، حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّى بِهَا الْقِدَاحَ".
وهكذا كان الصحابةُ والخلفاءُ الراشدون -رضي الله عنهم-، فهذا عُمَرُ -رضي الله عنه- كَانَ يُوَكِّلُ رِجَالاً بِإِقَامَةِ الصُّفُوفِ، وَلاَ يُكَبِّرُ حَتَّى يُخْبَرَ أَنَّ الصُّفُوفَ قَدِ اسْتَوَتْ.
وعَلِيٌّ وَعُثْمَانُ -رضي الله عنهما- كَانَا يَتَعَاهَدَانِ ذَلِكَ، وَيَقُولاَنِ: "اسْتَوُوا".
وَكَانَ عَلِيٌّ -رضي الله عنه- يَقُولُ: تَقَدَّمْ يَا فُلاَنُ، تَأَخَّرْ يَا فُلاَنُ.
فالجميع معنيٌّ بتسوية الصفوف، وزجرِ العابثين واللاعبين في المسجد.
وهي واجبةٌ يأثم من أخلَّ بها؛ خَرَجَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا للصلاة، فَقَامَ حَتَّى كَادَ أن يُكَبِّر، فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ: "عِبَادَ اللَّهِ: لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ".
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وظاهر هذا الوعيد: يدل على تحريم ما توعد عليهِ".
وقال العلاَّمةُ ابن عثيمين -رحمه الله-: "تسوية الصفوف أمر واجب لابد منه، وإذا تركه الناس كانوا آثمين عاصين للرسول -صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ-… وهو من مسؤوليات الإمام والمأمومين أيضًا، فعليه تَفَقُّدُ الصَّفِّ وتسويتُه، وعليهم تسوية صفوفهم وتراصُّهم". انتهى كلامه -رحمه الله-.
واعلموا -معاشرَ المصلِّين- أن الصفوف في الصلاة مما خصَّ الله به هذه الأمة وشرفها به؛ فإنهم أشبهوا بذلك صفوف الملائكة في السماء، كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصافات: 165].
وفي صحيح مسلم عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قالَ: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ، وذكر منها: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ".
وفيه أيضًا عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قالَ: خرج علينا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالَ: "أَلاَ تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا". قُلْنَا: بلى، قَالَ: "يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِى الصَّفِّ".
فاتقوا الله -معاشر المصلين-، فإذا أُقيمت الصلاة فلا يشْغلَّنكم شيءٌ عنها أبدًا، قوموا إليها بلا توانٍ ولا تأخير، ولا انْشغالٍ أو حديثٍ أو تفكير، ولْيكن همُّكمُ وشُغلُكم، الاسْتعدادُ للمثول بين يدي السميع البصير.
ولْينظُر كلُّ واحدٍ منكم إلى كعبيه، ليتأكد أنهما قد حاذتا كعبي مَن بجواره.
ومِمَّا يجب عليكم أيضًا، أنْ تُعينوا إمامكم على تسوية الصف، ونَهْي الصغار عن اللعب، وأمرِهم بالاصْطفاف، وإرشادِ من بجواركم بالتراصِّ والاعتدال.
قال العلاَّمةُ ابن عثيمين -رحمه الله-: "المسؤول الأول عن تسوية الصفوف هو الإمام، فإن كان لا يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه؛ وكَّل من يقوم مقامه. ومع ذلك فعلى المأمومين نصيب من ذلك فليساعدوه". انتهى كلامه -رحمه الله-.
والعجيب من بعض المصلين حين يدخل للمسجد بعد تكبيرةِ الإحرام، ويرى أطفالاً يسرحون ويلْعبون، فلا يُحرِّك ساكنًا، ولا ينهاهُم أو ينصحَهُم، فمثلُ هذا يُخشى عليه الإثم والوِزْرُ -والعياذ بالله-.
إذ كيف يرى مَن يؤذي عبادَ الله وبُيُوتَه، فلا يأمر بِمَعْروفٍ ولا ينهى عن منكر، فما أبعد هذا عن قبول صلاته، وصلاحِ حاله، فالواجب عليه أنْ يُنكر عليهم ويَزجُرَهم، ولو أدى ذلك إلى أنْ تفوتَه الركعة.
ويتأكَّد على معلمي حلقات القرآن في المساجد، الاعتناءُ بِطُلاَّبِهم عند إقامة الصلاة، وأن لا يصطفُّوا للصلاة حتى يتأكدوا بأنهم قد صفُّوا هم كذلك.
ويتأكَّد على المؤذِّن أن يُعِيْن إمامه على ذلك، وإذا شعر بوجودِ أطفالٍ مؤْذين ونحوِهم، فلْينتظرْ قليلاً بعد تكبيرة الإحرام، فينصحْ ويُوجه، وله الأجر والثوابُ العظيم، في دفعهِ ما يعكِّرُ على المصلين ويُشوِّشُ عليهم.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على إقامة الصلاة، وعلى الخشوع حال وقوفنا بين يدي الله، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أمرنا بالاصطفاف للصلاة كاصطفاف الملائكة المقربين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
معاشر المصلين: وإنَّ من العجب العجاب، ومما يبعث على الحيرة والاستغراب، ما نراه مِن حال بعض المأمومين عند إقامة الصلاة، ونداءِ الإمام لهم بتسوية الصف، فبعضهم يلتفت يمنةً ويسرة، وكأنما يبحث عن شيءٍ قد ضاع عنه، وبعضهم مشغولٌ بالحديث مع صاحبه، وكأنه لن يراه بعد يومه هذا، وبعضهم يقف مكانه بلا حراك، ويأمرُ أو ينتظرُ الآخرين لِيصطفوا، أو يظلُّ واقفًا ووجهه للقبلة، ولا يلتفت إلى نداء الإمام له بالتراصِّ والاعتدال، وبعضهم يتأخر عن القيام لاسْتكمال آياتٍ من القرآن، ولم يعلم أن التلاوة سنة، وإتمامَ الصف واجب يأثم بالإخلال به.
وكلُّ هذا والله مِن الأخطاء الفادحة، التي تُفرح الشيطان الرجيم، وتُغضب الرب العظيم.
تخيَّل نفسك -يا مَن وقعت في إحدى هذه الأخطاء- أنك واقفٌ عند باب مَلِكٍ من ملوك الدنيا العظماء، وليس بينك وبين الدخول عليه إلا ثوانٍ معدودة، وخُطواتٍ قليلة، فتُنادَى أنت ومن معك بالدخول عليه، هل سيكون دخولكم بصفوفٍ معوجَّة، أم ستدخلون عليه وأنتم تتضاحكون، وتتحدَّثون وتمزحون؟! فلا والله لن يكون ذلك أبدًا، بل ستدخلون بصفٍّ مستقيم، وصمتٍ وهدوء.
فلا إله إلا الله، أيليقُ بك وأنت المسلم المؤمن، أن يكون حالك بين يدي الجبار القهار، مَن بيده وحده النفع والضر، من أسبغ عليك النعم، ودفع عنك صنوف النقم، أيليق بك أن تقف بين يديه -جَلَّ جلاله- بهذا الخلل والاستهتار، ويكون وقوفك بين يَدَيْ ملكٍ فقير ضعيف، بهذا الأدب والانكسار.
أين اسْتشعارك لعظمة الله؟! أين شوقك للقاء الله؟!
كان عليّ بن الحسين -رحمه الله- إذا قام إلى الصلاة أخذته رِعْدة، ويتغيَّر لونه، فقيل له: ما لك؟! فقال: "ما تدرون بين يدي مَن أقوم، ومَن أناجي؟!".
وكان عطاء السليمي -رحمه الله- إذا تهيَّأ للصلاة انتفض، فيقال له في ذلك، فيقول: "إني أريد أن أُقْدِمَ على أمر عظيم، أريد أن أقوم بين يدي الله -عز وجل-!!".
الله أكبر، هكذا كان حال السلف الصالح عند القيام للصلاة، فأين هم مِن حال الكثيرين من أبناء هذا الزمان، الذين يقومون للصلاة بخمولِ بدن، وشُرود ذِهْن، والْتفاتٍ وأحاديث، بل وصل الحال ببعضهم -والعياذ بالله-، أنهم يتضاحكون ويُكبرون للصلاة مباشرة، ولا تزال آثار الضحك والتَّبسُّم باديةً على وجوههم.
كيف يريد هؤلاء من الله أن يقبل صلاتهم، وأن يُجيب دعاءهم، وهم على هذه الحال المُخزية!!
أهذا هو الاسْتعدادُ للوقوفِ بين يديْ ملك الملوك!! تُقدِّم بين يدي لقائه ما يُبْعدك عنه، تقدم بين يديه ما يَكرهه ويُبغضه.
ألا فاتقوا الله -معاشر المصلِّين- وقوموا حال سماعكم لإقامة الصلاة، بخشوعٍ وسكينة، وقلوبٍ خاضعة، وألْسُنٍ لله داعية، احْرصوا على تعديل الصفوف، أرْشدوا مَن بجانبكم بالتراص والاعتدال، أنكروا على الأطفال المزعجين، لعلَّ الله أن يقبل صلاتكم ودعاءكم.
الشيخ : أحمد بن ناصر الطيار