الحمد لله…
أما بعد:
فمعاشر المسلمين: قد خص الله هذه الأمة المحمدية بأن شرع لهم بناء المساجد، والسعي في عمارتها، والمسابقة إليها، وتخصيصها بأنواع من العبادة، لا تصح في غيرها.
والمساجد بيوت الله -سبحانه وتعالى-، ولمكانتها وفضلها ذكرها الله -سبحانه- في ثمان وعشرين آية من كتابه الكريم، وأضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، فقال سبحانه: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18].
ورغب سبحانه في بنائها وعمارتها، وأخبر أن عُمَّارها المؤمنون بالله واليوم الآخر، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[التوبة: 18].
فالمساجد دور عبادة وذكر، وتضرع وخضوع لله -سبحانه-، ومواضع تسبيح وابتهال وتذلل بين يدي الله، كما أخبر سبحانه أن تعطيل المساجد، ومنع الناس من ذكر الله فيه ظلم، قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[البقرة: 114].
وجعل القرآن الكريم الدفاع عن المساجد وحمايتها مطلباً من مطالب الدين، يشرع لأجله القتال في سبيله، قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)[الحـج: 40].
قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى- عن هذه الآية: أي لولا ما شرعه الله -سبحانه وتعالى- للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما يبنيه أرباب الديانات، من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة، وليس هذا بغريب، فالمساجد أحب البقاع إلى الله، وهي قلعة الإيمان، ومنطلق إعلان التوحيد لله -سبحانه وتعالى-، فهي المدرسة التي خرجت الجيل الأول، ولا زالت -بحمد الله- تخرج الأجيال، وهي ميدان العلم والشورى، والتعارف والتآلف، إليها يرجع المسافر أول ما يصل إلى بلده، شاكراً الله على سلامة العودة، مستفتحاً أعماله بعد العودة بالصلاة في المسجد، إشعاراً بأهميته، وتقديمه على المنزل، ولذا تجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عمل قام به بعد هجرته من مكة إلى المدينة بناء المسجد، المسمى مسجد قباء، والذي ورد ذكره في القرآن الكريم في قوله سبحانه: (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)[التوبة: 108].
وسار على ذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم في القرون المفضلة، ومن بعدهم من السلف الصالح حتى يرث الأرض ومن عليها.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسس مسجده على التقوى، ففيه الصلاة والقراءة والذكر، وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم.
عباد الله: جاء الحث على عمارة المساجد، عمارة حسية وعمارة معنوية، قال تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)[النــور: 36].
قال الشيخ ابن سعدي – رحمه الله -: (أن ترفع ويذكر فيها اسمه) هذان مجموع أحكام المساجد، فيدخل في رفعها: بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسات والأذى، وصونها من المجانين والصبيان، الذين لا يتحرزون عن النجاسات، وعن الكفار، وأن تصان عن اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله، فالله -تعالى- أمر ووصى بعمارة المساجد والقيام عليها وصيانتها، بل ذكر تعالى أن عمارة المساجد هي وظيفة الأنبياء؛ كما في قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127].
فالله -تعالى- يشيد بنبيه وخليله إبراهيم -عليه السلام- ببنائه للبيت الحرام، وتشير الآية إلى أن بناء المساجد من الأعمال الخيرية التي يثاب عليها الإنسان مع القبول، فجاء في آخر الآية ما يرشد إلى بناء البيت من الأعمال الصالحة التي عملها إبراهيم ابنه إسماعيل، حيث سألا ربهما أن يتقبل منهما عملهما، إنه هو السميع العليم.
وعن عثمان – رضي الله عنه – وفيه: إني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" [رواه البخاري].
وروى البخاري – رحمه الله – أن المسجد كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبنياً بالَّلبن، وسقفه الجريد، وعَمَدُه خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باللبن والجريد، وأعاد عَمَدُه خشباً، ثم غيَّره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره: "أكنَّ الناس من المطر وإيَّاك أن تحمِّر أو تصفِّر فتفتن الناس" [رواه البخاري].
ففيه النهي عن زخرفة وتزيين المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا زوقتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم" [رواه ابن أبي شيبة].
وعن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد".
وعن أنس – رضي الله عنهما – قال: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم".
قال الإمام الشوكاني: "إن التزيين ليس من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه نوع من المباهاة المحرمة، وأنه من علامات الساعة، وأنه من صنع اليهود والنصارى، وقد كان عليه السلام يحب مخالفتهم، ويرشد إليها عموماً وخصوصاً".
وقال ابن بطال وغيره: "هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد، وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيّامه، وسعة المال، لم يغير المسجد عما كان عليه.
وقد أصيب المسلمون اليوم بتقليد الكفار بكثرة إنفاق المال بغير وجه؛ كوضع منارتينن وزخرفة زائدة، وغير ذلك.
الخطبة الثانية:
معاشر المسلمين: أولاً: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اتخاذ المسجد على قبر؛ فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد".
فإذا كان المسجد قبل القبر ينبش القبر ويُخرج وإذا كان القبر قبل المسجد يهدم المسجد، ولا يجوز الصلاة في المساجد التي بها قبور.
ثانياً: تنزيه المساجد وصيانتها عن الأقذار الحسية وحفظها من الأقذار والنجاسات والفضلات حتى تحظى بالنظافة والجمال، وقد روي عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد" [رواه أبو داود وغيره].
وكذلك صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- على قبر المرأة التي كانت تقم المسجد، وقصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي لذكر الله – تعالى – والصلاة وقراءة القرآن" [رواه البخاري].
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: "البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها"[رواه البخاري].
ولذلك غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى البصاق في قبلة المسجد حتى احمر وجهه، وسارع إلى حكه، ثم لطخ مكانه بحلوق أو زعفران.
كذلك تطييب المسجد بالرائحة الزكية، ففي الصحيحين من حديث جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مساجدنا، وليقد في بيته".
وفي رواية: "فإن الملائكة تتأذى بما يتأذى منه بنو آدم".
ويلحق به كل ما له رائحة مؤذية كالدخان.
ثالثاً: إنشاد الضالة في المسجد؛ فعن بريدة – رضي الله عنه – أن رجلاً نشد في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له" [رواه مسلم].
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا" [رواه مسلم].
رابعاً: تعاطي التجارة في المسجد، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك".
خامساً: رفع الأصوات في المساجد وذلك لأن المساجد أماكن الطاعة والعبادة، وفيها يقبل العبد على صلاته وأوراده، ويخشع قلبه، فمتى سمع الأصوات المزعجة انشغل قلبه وتشوش عليه فكره، وقد روى البخاري عن السائب بن يزيد أن عمر أمره أن يأتيه برجلين في المسجد، فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من الطائف، فقال: "لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
فزجرهما عن رفع الصوت مطلقاً، وأمرهم باحترام أماكن الصلاة.
سادساً: منع الصبيان ونحوهم من المساجد عند خوف العبث واللعب فيه، فلا يجوز أن يحضر معه الأطفال الذين دون سن التمييز، يعني ما قبل سبع سنوات وذلك لأنه يُشغل المصلين ولا يؤمن تلويثهم للمسجد بالبول واللعاب وغيره، وكذلك العبث بالمصاحف، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم".
وكذلك عدم اتخاذ المسجد طريق.
سابعاً: منع سل السيوف ورؤوس النبال في المسجد، ففي الصحيحين عن جابر قال: "مرَّ رجل في المسجد ومعه سهام، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمسك بنصالها".
وفي رواية: "كي لا تخدش مسلماً".
ثامناً: النهي عن دخول الحائض والجنب للمسجد، قال صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب".
وقد أجاز العلماء مرور الجنب في المسجد دون الجلوس فيه؛ لقوله تعالى: (وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ)[النساء: 43].
الشيخ : سليمان بن عبد الرحمن الهديب