الخطبة الأولى:
حان وقت الصلاة, فارتفعت أصوات المؤذنين تنادي المسلمين, بعبارات تحيي الإيمان في نفوس الموفقين, حين جعلها رب العالمين هي الدعوة للمصلين, الله أكبر, حي على الصلاة حي على الفلاح, وحينها هبّ فئام من الناس, وفقهم الله فتغلبوا على مشاغلهم, وغلبوا شيطانهم وهواهم, ترك هذا أولاده وزوجه, وهذا دكانه وتجارته, وهذا قطع حديثه ومجلسه, خرجوا يحثون الخطى فرحين, ليقابلوا رب العالمين وليكونوا في ضيافة أكرم الأكرمين, فما ظنك بإكرامه لأضيافه, “مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا، أَوْ رَاحَ” ولا عجب أن يستبشروا ويفرحوا, فالله يفرح بقدومهم, ويستبشر لحضورهم, وفي الحديث عند ابن ماجه وأحمد “لاَ يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُسْبِغُهُ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ فِيهِ، إِلاَّ تَبَشْبَشَ اللَّهُ بِهِ، كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِطَلْعَتِهِ“.
وعلى الطرف الآخر بقي أناسٌ صك الأذان آذانهم, وهم صحيحةٌ أبدانهم آمنةٌ أنفسهم, ومع هذا مكثوا في البيوت ليصلوا في منازلهم, فشتان بين هؤلاء وهؤلاء, أما إن الجميع قد صلوا, ولكن هل يستويان, قومٌ صلوا في بيوت الله, وقومٌ صلوا في بيوتهم وهجروا بيوت الله, هل يستوي من يعمر مساجد الله, ومن يصلي في بيته ولا يعمر مساجد الله, هل يستوي من يشهد جماعة المسلمين, ومن يصلي في بيته ولا يشهد الجماعة.
ومع هذا؛ فهذا الذي صلى في بيته فيه خير, ولولا ذلك لما صلى, وهو يطلب الأجر, ولولا ذلك لما قام لله, ومن هذا المنطلق فأنا اليوم أخاطب أخانا الذي صلى في بيته, وأخانا الذي صلى في مساجد المسلمين, أخاطبهم بكلام سيد المرسلين, حين يذكر الفضل العميم الذي يناله من خطى إلى المساجد, لينشط المحافظ, وليرغب المتخلف.
أيها المبارك: إن أول ما تكسبه حين تخرج إلى المسجد أن لك بكل خطوة حسنة, وفي سنن أبي داود “إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ لَمْ يَرْفَعْ قَدَمَهُ الْيُمْنَى إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ حَسَنَةً وَلَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ الْيُسْرَى إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ سَيِّئَةً فَلْيُقَرِّبْ أَحَدُكُمْ أَوْ لِيُبَعِّدْ“.
وكلما بَعُد المسجد, وزادت الخطى زادت الأجور والحسنات.
فإذا دخلت المسجد ارتفعت لك دعوات الملائكة, وظلت تسأل الله أن يغفر ذنبك وأن يتوب عليك, في الصحيح “إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ وَتُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ” فما أعظمه من فضل, وما أشرفها من دعوات من ملائكة كرام.
فإذا صليت مع الجماعة فلك أجرُ سبعٍ وعشرين درجة تَفْضُل بها من صلى في بيته, وأنى له أن يبلغ ذلك.
فإذا أمّن الإمامُ وأمّنت معه فوافقتَ تأمين الملائكة غفرت ذنوبك, في الصحيح “إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ“.
فإذا ركع وقام فقلتَ (ربنا لك الحمد) غُفِرت الذنوب, في الصحيح “إِذَا قَالَ الإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” فكم من ذنب نذنبه في اليوم, ومن رحمة الله أن تهيأت لك هذه المكفرات التي ينالها من صلى مع الجماعة.
فإن صليت عن يمين الصف صلى عليك الله والملائكة, في الحديث “إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ“.
ويكفي قاصدَ المسجد فضلاً أنه في أفضل بقعةٍ وأحبِّها إلى الله, ولن يجد في الأرض موضعًا أحبَ إلى الرب من هذه البقاع, في الصحيح “أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا“.
فإذا كانت صلاتك في الظلام, فأبشر يوم القيامة بالنور التام, وفي سنن أبي داود “بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ“.
وإن صليت العشاء مع الجماعة كُتِب لك أجرُ صلاتك نصف الليل, فإن أديت الفجر كذلك مع الجماعة فكأنك بقيت الليل كله مصليًا, فيا خيبة من فوّت الجماعة, في صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ“.
فإذا صليت الفجر في الجماعة بقيت في حفظ الله, ومن هو الذي يخفر الله في حفظه, وفي الصحيح “مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ فَلاَ يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ” فكم هم الذين يصبحون وقد تخلى عنهم حفظ الله, حين فوتوا الفجر في الجماعة.
فإذا قعدت في المسجد تذكُر ربَّك حفّتك الملائكة, واستغفرت لك, وأنت في صلاةٍ يُكتَبُ لك أجرُ مصلٍّ ما كنت منتظرًا للصلاة, ولو طال انتظارك, فما بال البعض يتكدر إذا تأخرت الإقامة دقائق, في الصحيح “وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ“.
هل رأيت أعظم من هذه الفضائل, وفي عملٍ لا يدوم إلا يسيرًا, وهل عرفت كم يفوت من صلى في بيته من الثواب, وكم هو البون بين من صلى في بيت الله ومن صلى في بيته؟
ولأجل هذا: كان السلف يتسابقون لبيوت الله, لا يتخلفون عن الصلاة في المساجد حتى في أصعب الأحوال, روى ابن أبي الدنيا أن زيادًا حين كان أمير الكوفة ذُكِر له أبو المغيرة الحميري وكان عابدًا، فجاء به فقال له: “الزم بيتك ولا تخرج منه وأنا أعطيك من المال ما شئت، فقال: لو أعطيتني ملك الأرض ما تركت خروجي لصلاة الجماعة“.
ولما اشتكى ابن المسيب عينية قيل له يا أبا محمد لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة فوجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك, فقال: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح في المسجد.
ولما أمر الخليفة بعرض سعيد بن جبير على القتل قال له العلماء: إن الخليفة يقبل منك واحدةً من ثلاث, قالوا له : أن تجلس في بيتك فلا تخرج إلى الصلاة أيامًا فإنه يقبل منك إذا طُلِبت في مجلسك فلم يجدك, فقال: وأنا أسمع الأذان فوق أذني حي على الصلاة حي على الفلاح!! ما أنا بفاعل.
فإذا كان هذا هديهم في الشدائد ما تركوا المساجد فهم في الرخاء أحرص, ولا عجب ففي المساجد خزائن أجورٍ لا ينالها إلا من عمرها, وأبواب حسنات لا يَلِجُها إلا من دخلها, قال سعيد بن المسيب: “من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البّر والبحر عبادة“.
اللهم اعمر قلوبنا بحب المساجد, وأوقاتنا بالصلوات..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده..
عباد الله: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-رجلٌ أعمى يتهادى, فوقف بين يديه وقال له: يا رسول الله: ليس لي قائد يقودني إلى المسجد, وبيني وبين المساجد عقبات, نظر إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-, أراد أن يرخص له, لكنه يعلم ما لصلاة الجمعة من شأن, وما لأدائها في المسجد من فضل, فقال له: “أتسمع النداء بالصلاة؟” قال: نعم. قال: “فأجب“.
قال ابن القيم: “ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرضٌ على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة, فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار..”، إلى أن قال: “فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر“.
ولأجل إقامتها في المساجد ووجوبها فيها, بُنِيت المساجد, ورُغِّبَ في عِمارتها, وهمَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بحرق بيوت المتخلفين عن المسجد, كل هذا يقرِّر أن الصلاة يجب أن تكون فيها, ورحم الله سلف الأمة الذين نقل عنهم المباركفوري قوله: “كَانَ السَّلَفُ إِذَا فَاتَتْهُمْ الصلاة عَزَّوْا أَنْفُسَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ عَزَّوْا أَنْفُسَهُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ“, ورحم الله أصحاب رسول الله الذين يعرفون نفاق الرجل بتخلفه عن المساجد, فهل هم أعرف, أو غيرهم, قال ابن مسعود: “مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم-سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ“.
وبعد أيها المبارك: فتلك الأجور لك إنْ صليت في المسجد, وهي الكنوز والربح الذي يبقى, وفوق ذلك ففي المساجد سعادة ينالها من عمرها بصلاته فيها, فحُقَّ للمحافظ أن يفرح, وآنَ للمقصِّر أن يرغب.
اللهم اهدنا للحق, وأعنا على أنفسنا, واجعلنا من أهل الصلاة, اللهم صل وسلم على محمد..
الشيخ : منصور محمد الصقعوب