الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسبحان الله ربِّ العرش عما يصفون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق المأمون، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين, الذين هم بهديه مُتَمَسِّكُون, وعن شريعته ذابُّون ومُدافعون, وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنَّه لَمَّا كانت الصلاةُ جماعةً في بيتٍ من بيوت الله -عز وجل- من واجبات الدين وسنن الهدى، كان لا بد للمسلم أن يعرف كيف يأتي المسجد, ويتأدبَ مع بيوت الله -عز وجل-.
وهذه الصلاةُ التي نُؤديها كلَّ يومٍ خمس مرات, والتي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين, ينبغي أنْ نُؤدِّيَها كما أُمرنا؛ لكي نحظى بالأجر العظيم, ولكي نجدَ اللذة والخشوع فيها. وللحصول على ذلك لا بدَّ من معرفة آداب حضور المساجد, وتطبيقِها، والعملِ بها.
فمن آداب حضور المساجد: التبكيرُ إليها، وانتظارُ إقامة الصلاة، والاشتغالُ بالذكر والنوافل، قال -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران:133]، وقال في مدح صفوة عباده الصالحين: (إنْهم كَانوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) [المؤمنون:61].
كيف يطلب أحدُنا أنْ يخشع في صلاته, ويجدَ لها لذَّةً وطُمأنينةً, وهو لا يأتي إليها إلا بعجلةٍ كي يُدركها أو يُدركَ بعضَها؟ اسْألوا من يأتي إلى الصلاة مُبكرا: ما الذي يحدوك إلى ترك عملك والمسارعةِ إلى صلاتك؟ سيُجيبك بأنه يذهب إليها شوقاً لها, واسْتِمْتاعاً بأدائها.
ولا شك أن المبادرة إلى المساجدِ والتبكير إليها, من الآداب العظيمة التي من أعظم ثمارها: أنْ يُظلَّ الله في ظله مَن تعلّق قبله بالمساجد تبكيرًا وعنايةً، وأنْ يجعلَه في صلاة مادام ينتظر الصلاة، وأن يجعلَ الملائكة تَدعو له وتستغفر له.
وينبغي أنْ يشتغل مَن جاء مُبكِّرًا بالذكر والقرآن, وأنْ يكفَّ عن الحديث الذي لا نفع فيه. ولا ينبغي أنْ يُشْغِلَ نفسَه وغيره إذا تأخَّر موعدُ الإقامة, ولْيلتمسِ الأعذارَ ولْيشتغِلْ بالذكرِ والاسْتغفار.
ومن آداب المساجد: المشي إليها بسكينة ووقار, قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ، فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ، وَلاَ تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا" متفق عليه
وقد يقول قائل: إنما أُسرع قليلاً لِأُدرك الركوعَ وأُدركَ الصلاة. فالجواب: إنَّك بإدراكك الركوعَ تكون قد ارتكبتَ مُخالفةً شرعية, وليس من الحكمةِ أنْ ترتكبَ نَهْيًا على حساب سنَّة. والأمر الآخر: أنْ تعلمَ أنَّ الله -تعالى- سَيُعطِيْك أجرَ صلاتِك كاملةً, ولو فاتك منها شيء إذا أتيتَ إليها بحرصٍ مُطبِّقاً للسنة في المشي ونحوِه, قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ, ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا, أَعْطَاهُ اللَّهُ -جَلَّ وَعَزَّ- مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلاَّهَا وَحَضَرَهَا, لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئًا" رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه الألباني.
وينبغي لمن دخل المسجد أنْ يدخل مع الإمام على أيِّ حالٍ كان، قال ابن عثيمين -رحمه الله-: الأفضل الدخول مع الإمام على أيِّ حالٍ وجده, ولا ينتظر حتى يقوم من سجوده أو قعوده؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فما أدركتم فصلوا"، ولأنه إذا دخل معه حصل له أجر ما صلّاه. اهـ.
ومن الآداب -أيضًا- أنْ لا يُسْمَعَ للمأموم صوتٌ في تكبيراته وقراءته، ومن الأمور الْمُنكرة الْمُحدثة: جهرُ بعض المأمومين في القراءة السرية, ورفعُ أصواتهم بالتكبير والأذكار والدعاء.
قلَّ أن تصليَ بجوار أحدٍ إلا سمعتَ قراءته للفاتحة, وسمعتَ تحميده بعد الركوع, وسمعتَ تسبيحه في سجوده, وسمعتَ دعاءه بين السجدتين, كأن الصلاةَ أصبحت جهرية, هذا من بدع الصلاة: أن تكون الأذكارُ سريةً فيجهر بها.
وفعلُه هذا سَيُشَوِّشُ به على مَن بجواره, فلا يكاد مَن يُصلي بجواره أنْ يخشعَ في صلاته, بل ربَّما لا يتمكن من قراءةِ ما يجب عليه في صلاته.
وهكذا في تكبيرة الإحرام, وتكبيرات الانتقال, إذا كبَّر الإمام تكبيرة الإحرام, رفع بعضُ الناس صوته بالتكبير, وإذا رفع من الركوع, قال بصوتٍ يسمعه مَن بجواره: ربنا ولك الحمد. وكلُّ هذا من الخطأ الذي يجب أنْ ننتهي عنه, ونُحذِّر منه غيرَنا.
وقد كان قُدْوتُنا وإمامنا -صلى الله عليه وسلم- لا يَسمع الصحابةُ صوتَ تسبيحِه ودُعائِه, حتى إنَّ أبا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟"، فأخبره أنه يقول دُعاءَ الاسْتفتاح, فأبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- لم يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمةً واحدةً, وأحدُنا لا يكاد يخشع في صلاته مِن جهرِ وصوتِ مَن بجانبه.
ومن الآداب -أيضًا- أن يُبادر من دخل المسجدَ إلى صلاة تحية المسجد, ومن الأخطاء الشائعة عند أكثر المأمومين أنهم يظَلُّون واقفين عند قُرب الإقامة, ويلتفتون يمنةً ويسرة, ويُوقعون المؤذن في الحرج من كثرة نظراتهم له.
ويا سبحان الله! ما الذي سيخسرونه لو بادروا إلى تحية المسجد؟ لِمَ يحرمون أنفُسَهم أجرَ هذه السنَّةِ الْمُؤَكَّدَة؟ لِمَ يحرمون أنفُسهم تطبيقَ سنةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بالمبادرة إلى الصلاة, وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم-, يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ فيصلون إليها, لا يَنْظُرُون هل جاء الإمامُ أم لا, هل قرُب موعدُ الإقامة أم لا؛ وذلك لِمَا يَعْلَمُونَه مِن فضل هذه الصلاةِ ومكانتِها. فإذا أُقيمت الصلاة قطعوها ولا حرج, ولهم أجر الصلاة التي صلَّوها.
نسأل الله -تعالى-, أنْ يجعلنا ممَّن يُعظمُ شعائره, ويُقيمُ حدُودَه, ويكفُّ عن محارمِه؛ إنه سميعٌ قريبٌ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، حرَّم علينا إيذاء الْمُسلمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: ومن الآداب -أيضًا- أنْ يكفَّ المصلي عن إصدار الأصوات الْمُزعجة والْمُؤذية, كالجشاء والتثاؤبِ بصوتٍ مرتفع, فإنَّ ذلك ممَّا يُستقبح ويُكره شرعًا وعُرفًا وعقلاً.
وقد جاء في صحيح البخاريِّ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ: فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ: آهْ، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ". يعني: عندما يبدأ بالتثاؤب, ويأخذُ الهواء بفمه, فإنه يَصدر منه هذا الصوت الذي يكرهه الله -تعالى-؛ لأنه يبعث على الكسل, ويُضايقُ الناسَ بهذا الصوت.
وَفِي لَفْظ لمسلم: "إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدكُمْ فِي الصَّلَاة فَلْيَكْظِمْ مَا اِسْتَطَاعَ, فَإِنَّ الشَّيْطَان يَدْخُل". هَكَذَا قَيَّدَهُ بِحَالَةِ الصَّلَاة. قَال العلماء: يَنْبَغي كَظْم التَّثاؤُب في كُلّ حالَة، وَإِنَّما خَصَّ الصَّلَاة لِأَنَّها أَولى الْأَحْوال بِدَفْعِ التثاؤب؛ لِمَا في ذلك من إيذاء المصلين, بسماع صوت الْمُتَثَائِبِ الْمُؤْذي, فالناس خلف إمامهم, يُسمعهم كلام الله -تعالى- بخشوعٍ وخضوعٍ, فيُعكر هذا الجوَّ الإيمانيَّ صوتُ هذا الْمُتَثَائِبِ, وهذا يدلّ على غفلته وعدمِ اسْتحضاره لعظمةِ مَن يقف بين يديه, ويدلُّ على كسله وخموله, وعدم كمال خشوعه في صلاته, ويدلُّ أيضًا على قلَّة مبالاته بالآخرين وبمشاعرهم.
نسأل الله -تعالى-, أن لا يجعلنا من الغافلين, وأنْ يرزُقنا الخشوعَ والإيمانَ واليقين, إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
الشيخ : أحمد بن ناصر الطيار