الخطبة الأولى:
الحمد لله…
فأنتم في أيام عظيمة أجورها وفيرة، والغنيمة فيها كبيرة، ولياليها تترحل سريعة, فرحم الله امرأ قدَّم في يومه واستعد لغده، وعمل قبل رحيل شهره وانقضاء عمره، واتقى الله ربه.
عباد الله: حين قدم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة مشت به راحلته فلم يكفَّها, بل أطلق العنان لها, حتى وقفت في المكان الذي أراد الله لها, وحين حطت قدماه في أرض المدينة كان في نفسه همٌّ أراد أن يبدأ به؛ لم يكن فكره كيف يبني بيتاً, أو كيف يشيد بستاناً, إنما كان الهم أسمى, والقصد أعظم, كان همُّه متجهاً ليقيم أعظم بناء, ويشيد أشرف بقعة, أن يقيم مسجداً للناس لصلاتهم واجتماعهم وعباداتهم, وما ذاك إلا لعلمه; بقدر المسجد وأهميته في حياة المسلم.
اختار -صلى الله عليه وسلم- بقعة لقومٍ من بني النجار, واجتمع الصحابة لبنائه, حتى أتموه فكان موئلَ الناس وملتقى المؤمنين ومجلسَ سيد المرسلين وبيتَ رب العالمين.
المسجد -أيها الكرام- أطهر بقعة في الأرض, وأحب مكان لله, يحبه أهل الإيمان, وفيه تطمئن نفوسهم وفي رحابه تتعلق قلوبهم, أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من الذين يظلهم الله في ظله "رجل قلبه معلق بالمساجد"، كلما نُودي للصلاة سارَع بشوقٍ، وإذا قُضِيَتْ ظل القلبُ معلقاً بالمسجد.
وأخبر الله عن قلوب المؤمنين بأنها لا يشغلها عن المساجد شاغل, فإذا سمعت النداء طارت لتقابل رب الأرض والسماء (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:36، 37].
جعل الله لمن خرجوا إلى المساجد في ظُلَمِ الليل الكرامة بالنور التام يوم القيامة, وأكرم من بقي في بيت الله بصلوات الملائكة ودعائها, فلا تزال الملائكة تدعو لهم ما لم يخرجوا أو يُحدِثوا.
المساجدُ شهد الله -تعالى- لعمارها بالإيمان فقال: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة:18].
ووعد مَن بنى المسجد بالأجر الجزيل, فقال -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».
ولا يلج امرؤٌ المسجد في ليل أو نهار إلا والله يُعدُّ له النزل في الجنة بقدر دخوله, في الحديث "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح" (متفق عليه).
في المساجد تحلّ السكينة, وتهبط الملائكة, في المساجد تطهر النفوس وتزكو، ويجد المؤمن راحته؛ فحين تنغلق أبواب الخلق, يجد في بيت الله الملاذ والطريق لمناجاة الملك سبحانه, فلا باب يوصد, ولا حاجب يمنع.
وفي المساجد يتعارف المسلمون ويتآلفون, ويتعاونون ويتزاورون، يُفقَد المريض فيزار، والمقصر فينصح.
المسجد في الإسلام له شأن وقدر واهتمام, كانت المساجد ليست للصلاة فحسب, بل كذلك للتعلم والتدريس، ولعقد الألوية والرايات، ولاجتماع القادة، وإرسال الغزاة, وللتربية والتوجيه, فتخرج من المسجد أجيالٌ من قادة وعلماء، ملئوا الدنيا علماً وتعليماً وفتوحات, ونُشر الدين في العالمين من المسجد, ومن ناسٍ تخرجوا من المسجد.
لأجل هذا معشر الكرام فبيوت الله لها قدر, وعلى من أتاها أن يعظمها ويتحلى بآدابها, وفي سنة الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم تأكيدٌ على آداب عديدة قمنٌ بالداخل للمساجد تعاهدها والاعتناء بها:
فحين يدخل فيه يقدم يمينه, ويذكر دعاء الدخول, عند مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ".
فإذا دخل صلى تحية المسجد ركعتين, وفي الصحيحين «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ».
وينبغي أن يحسن ملبسه حين يأتي مسجده, ويأخذ زينته لبيت ربه, فهو يقابل ربه وملائكته والصالحين من عباده, وفي القرآن (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]، وحين تريد الإتيان للمسجد فما كنت لابسه حين تقابل ملوك الدنيا فالبسه للمسجد, فأنت تقابل ملك الملوك, وعظيم العظماء, همسة في أذن من يأتي لبيت الله بثياب الراحة ونحوها.
ومن حق المساجد أيها الكرام أن يُعتنَى بتنظيفها وتطييبها, والمرء مأجور بكل قذاة من المسجد يزيلها, أو ذرّة طيب في المسجد يضعها, وفي السنن أن عائشة –رضي الله عنها- قالت: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببناء المساجد في الدور- أي: الأحياء- وأن تُنَظَّف وتُطيَّب"، فهنيئاً لمن ساهموا في تهيئة بيوت الله, ومن وفَّقهم الله لخدمة مساجده والسعي لراحة المصلين, ولإكرام بيت رب العالمين, فتلك الكرامة وذلكم الشرف.
الخطبة الثانية: امرأةٌ سوداء كان -صلى الله عليه وسلم- يراها في المسجد, تجمع القمامة, تنظف المكان, فافتقدها, سأل عنها, فقالوا ماتت, فتعجب قائلاً: "أفلا كنتم آذنتموتي بموتها", فكأنهم حقّروا شأنها, فمضى; ومعه الصحابة يحثون الخطى نحو المقبرة, وقف على قبرها, كبر; مصلياً عليها داعياً لها, ثم مضى بمن معه, لم يكن لتلك الجارية السوداء من شأن إلا أنها تقمُّ المسجد وتنظِّفه, وكفى به من شرف, فاستحقت ذلك التتويج منه; بصلاته عليها.
عباد الله: وحين يُحاد بالمساجد عن رسالتها فربما أخطأ البعض تجاهها ولم يراع حرمتها, وهنا فمن لُباب القول تذكير الأنام بما حذَّر منه الرسول -عليه السلام- من خصال لا ينبغي أن تفعل في حق المسجد.
فليس من رعاية حرمة المسجد أن يُدفن فيه الأموات وتُوضع فيه القبور, وفي الصحيحين أن أم سلمة وأم حبيبة أخبرتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كنيسة بأرض الحبشة فيها تصاوير فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وكم بُليت كثيرٌ من مساجد المسلمين بهذا الداء, وكم صاح المحققون من العلماء في التحذير منه, وسليم العقيدة ينأى بنفسه عن الصلاة في المساجد التي ضم ثراها القبور, وفي بيوت الله غيرها فسحة.
والإزعاج في المساجد برفع الأصوات وتعالي الضحكات؛ ليس من رعاية حرمة المسجد, وقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب سمع رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد، وليسا من أهل المدينة, فوبخهما وقال: "لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله"!
الأمر يشمل جميع المساجد, لكن لمسجد المدينة الأمر الأغلب, وقد بوب البخاري على الحديث "باب رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ".
وتأسى حين ترى أن بعض أماكن العبادة عند أقوام من الكفار لها القدر العالي عندهم, فلا ترفع فيها الأصوات ولا يعبث فيها عابث, ولربما رأيت البعض من أبناء المسلمين يعبث في بيت الله.
معشر الكرام: وتخطي رقاب المصلين مما نُهي عنه المرء في المسجد, وقد رأى -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يتخطى الرقاب فقال له: «اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ» (رواه أبو داود).
واستغلال الجَمع في المسجد بالدعاية لأمور الدنيا, ونشدان الضالة المفقودة, مما ينهى عنه في المساجد, وفي الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ لاَ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا».
وألحق العلماء بهذا الحديث في أمور الدنيا والبيع والشراء وعقد الصفقات في المساجد, وقد سمع عمر –رضي الله عنه- قوماً يتكلمون بالتجارة في المسجد فقال: "إنما بُنِيَت المساجد لذكر الله، فإذا أردتم أن تذكروا تجاراتكم فاخرجوا إلى البقيع".
ورأى أبو الدرداء رجلاً يقول لصاحبه في المسجد: "اشتريت وسق حطبٍ بكذا وكذا, فقال أبو الدرداء: إن المساجد لا تعمر لهذا".
وقال الحسن: "يأتي على الناس زمان لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم، فليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم".
عباد الله: ولم يراع حق المسجد من جاء إليه ورائحته تفوح من الثوم والبصل وغيره مما تُذم رائحته وتستقبح, وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ -يَعْنِى الثُّومَ- فَلاَ يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ".
وليس من أدب المسجد أن يُشغَل الناسُ بطلبِ الفقير الصدقة عليه, بل نقل الخطابي عن بعض السلف أن منهم من لا يرى أن يُتصدق على السائل المتعرض في المسجد, وأجاز ذلك بعض المعاصرين كابن باز, ولكن الأجدر بالسائل أن لا يُشغِل المصلين, وسيرزقه الله من فضله إن راعى حرمة بيته.
والبزاق في أرض المسجد خطيئة, وهو من مساوئ الأعمال إذا لم يُدفن, وفي الصحيح «عُرِضَتْ عَلَىَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِى أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ».
وليس من رعاية قدر المسجد أن ترى الأب يحضر أولاد الصغار فيعبثون فيه, والحقّ المتعينُ على الولي أن يغرس في نفوس الصغار تعظيم بيوت الله, وعدم العبث بها, فهي أشرف على المؤمن من بيته.
وبعد أيها الكرام: فالمسجد له رسالة عظيمة في دين الإسلام, وليست الرسالة بحسن بنائه, أو ارتفاع عُمُده أو إبداع زخارفه, بل بما يكون فيه من الخير والنور, وليس المسجد مكان صلاة فحسب بل مكان تربية ومقر علم ومعرفة، وموطن إصلاح واجتماع, وحين تريد الأمة العودة لميدان التأثير فعبر بوابة المسجد تكون العودة.
وصلوا وسلموا…
الشيخ : منصور محمد الصقعوب