الخطبة الأولى:
الحمد لله…
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا -رحمكم الله- أن مقام الصلاة في الإسلام عظيم، وقد نوه الله بشأنها في كتابه الكريم، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الفارقة بين المسلم والكافر، وهي عمود الإسلام.
أيها المسلمون: إن الحديث عن الصلاة أمر ليس بالجديد عليكم، وما من مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إلا وقد أخذ حظه من الصلاة، لكن الذي أريد أن أذكره لكم، وهو موضوع حديثنا في هذه الجمعة، وهو وجوب صلاة الجماعة، ذلك لأن هناك من المسلمين من لا يعتقد ولا يعلم بأن صلاة الجماعة واجبة، ويتصور أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة فقط، وأن له الخيار بين أن يصلي في بيته، ويأخذ الدرجة، أو يصلي في المسجد، وينال السبع والعشرين درجة بفضل الله -عز وجل-.
يعتقد بعض المسلمين: أنه يجوز له أن يصلي في بيته، وهذا اعتقاد -ومع الأسف- لا أساس له من الصحة، وسيتضح لكم ذلك بما نسوقه لكم من الأدلة الشرعية المعتبرة من كتاب الله -عز وجل-، ومن السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إن صلاة الجماعة واجبة، وأن الذي يصلي في بيته على خطر عظيم، ويُخشى عليه من بطلان صحة صلاته.
أيها المسلمون: صلاة الجماعة واجبة على الرجال، في الحضر والسفر، وفي حال الأمن وحال الخوف، وجوباً عينياً، والدليل على ذلك الكتاب والسنة، وعمل المسلمون قرناً بعد قرن،ومن أجل ذلك عمرت المساجد، ورتب الأئمة والمؤذنون، وشرع لها النداء بأعلى صوت: "حي على الصلاة، حي على الفلاح".
وقال تعالى آمراً نبيه أن يقيم صلاة الجماعة في حال الخوف: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)[النساء: 102].
والأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- أمر لأمته، ما لم يدل دليل على خصوصيته به، فدلت هذه الآية الكريمة على وجوب صلاة الجماعة، حيث لم يرخص للمسلمين في تركها في حال الخوف، فلو كانت غير واجبة لكان أولى الأعذار لتركها عذر الخوف، فإن صلاة الجماعة في حال الخوف يترك فيها كثير من الواجبات في الصلاة، مما يدل على تأكد وجوبها، وقد اغتفرت في صلاة الخوف أمور كثيرة، من تنقلات وحمل أسلحة، ومراقبة لتحركات العدو، وانحراف عن القبلة، كل هذه الأمور اغتفرت من أجل الحصول على صلاة الجماعة، فهذا من أعظم الأدلة على وجوبها وتأكدها.
ومن الأدلة على وجوب صلاة الجماعة: قوله تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ)[البقرة: 43].
فأمر سبحانه وتعالى في هذه الآية إقامة الصلاة والركوع مع الراكعين، وهذا يعني فعلها مع جماعة المصلين، فدلت الآية على أن الصلاة لا بد لها من جماعة تقام فيها.
وقال تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)[القلم: 42-43].
فهؤلاء يعاتبهم الله -سبحانه وتعالى- يوم القيامة بأن يحول بينهم وبين السجود هناك؛ لأنه لما دعاهم إلى السجود في الدنيا في المساجد أبوا أن يجيبوا الداعي، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- إجابة الداعي، بما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: "هل تسمع النداء؟" قال: نعم، قال: "فأجب".
فدل الحديث على أن الإجابة المأمور بها هي الإتيان إلى المسجد لصلاة الجماعة، وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)[القلم: 43].
إن معنى: (يُدْعَوْنَ) هو قول المؤذن: "حي على الصلاة، حي على الفلاح".
أيها المسلمون المؤمنون -عباد الله-: ومن الأدلة أيضاً على وجوب صلاة الجماعة والتي لا تدع حجة لأحد بعد ذلكأن يتخلف عنها: ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد همت أن آمر الصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار".
فقد وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث المتخلفين عن صلاة الجماعة بالنفاق، وهذا أيضاً وصفهم في القرآن الكريم؛ كما قال تعالى عن المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء: 142].
وقال تعالى عنهم: (وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ)[التوبة: 54].
ثم هدد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك المتخلفين عن صلاة الجماعة بأن يحرق عليهم بيوتهم بالنار، وهذه عقوبة شنيعة، فوصفهم بالنفاق أولاً، وهددهم بالتحريق بالنار ثانياً، ولم يمنعه من ذلك عليه الصلاة والسلام إلا ما في البيوت من النساء والذرية، الذين لا تجب عليهم صلاة الجماعة، مما يدل دلالة صريحة على عظم جريمة المتخلف عن صلاة الجماعة، وأنه مستحق لأعظم العقوبات في الدنيا والآخرة.
عباد الله: من الأدلة أيضاً على وجوب صلاة الجماعة: ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وأن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو أنكم تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف".
هذا ما قاله عبد الله بن مسعود عن مكانة صلاة الجماعة، عند صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحكمهم على من تخلف عنها.
إن الصحابة كانوا يعتبرون المتخلف عن صلاة الجماعة منافق معلوم النفاق، ينبذونه ويهجرونه.
أما نحن وفي زماننا هذا، فالمتخلف عن الصلاة أخ عزيز لدينا، نكرمه ونخالطه ونعاشره، وما كأنه ارتكب جريمة وما كأنه عصى الله ورسوله، وهذا إذا ما دل على شيء فإنه يدل -والله المستعان- على أن ميزان الصلاة لدينا خفيف، وأمرها هين -ولا حول ولا قوة إلا بالله-.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-: يا من ضيعتم الصلاة مع الجماعة، ورضيتم بالتفريط والإضاعة، لقد خسرتم ورب الكعبة، فضائل كثيرة، وحرمت أنفسكم خيراتٌ عظيمة، عصيتم الرحمن، وأرضيتم الشيطان، لقد ظلمتم أنفسكم أعظم الظلم، حيث حرمتموها ثواب الله، وعرضتموها لعقابه، وأخرجتموها عن جماعة المسلمين وموطن الأمان، إلى مواطن الهلكات والمخاوف.
يا من تدعى إلى المسجد فلا تجيب، ويطلب منك الحضور فتغيب، سوف تندم مع النادمين: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)[القلم: 42-43].
وما ذلك اليوم منك ببعيد، فانتبه لنفسك وتب إلى ربك، وحافظ على الصلاة مع الجماعة، ولا يغرك كثرة المخالفين من الناس، والمعرضين: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)[الروم: 60].
يا من تسمعون الأذان وتقعدون بعد ذلك في بيوتكم، أو في أسواقكم، وتتركون الصلاة مع الجماعة، إن لم تتوبوا إلى ربكم فستكونون من الذين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وستفتضحون أمام الله وأمام خلقه.
يا من تتخلفون عن صلاة الجماعة: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- همّ أن يحرق على المتخلفين عن صلاة الجماعة، تلك البيوت التي تؤويهم عن أداء هذا الواجب العظيم، فيذهب الحريق بنفوسهم وأموالهم، عقاباً لهم على ترك هذه الشعيرة.
وهذه -يا عباد الله- عقوبة غليظة، لا تكون إلا على جريمة عظيمة، أنه لو أحرق بيت على من فيه بالنار ليفزع الناس من ذلك فزعاً شديداً، ولو فُعل ذلك بمن يترك الجماعة لكان جزاءه شرعاً.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في أولادكم، ممن وجبت في حقهم صلاة الجماعة.
إن القضية جد خطيرة، إن المتخلف عن صلاة الجماعة -يا عباد الله- ليس بالأمر الهين عند الله -عز وجل-، وقد ذهب بعض العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية إلى عدم صحة الصلاة في البيت لمن ليس له عذر، فو الله الذي لا إله إلا هو إن هذا العدد الذي أمامي الآن، وغالبهم من سكان هذا الحي، لو حافظوا على صلاة الجماعة لضاقت بنا المساجد، ولضاقت مساجد المنطقة كلها، ولكن -مع الأسف- لا يجتمعون إلا في الجمعة ورمضان، فلا أدري ما عذر هؤلاء؟ ما عذرك يا من تسمع النداء، وقد يكون المسجد إلى جانب بيتك؟ وأنت صحيح البدن، آمن من الخوف، ثم لا تحضر لصلاة الجماعة؟ هل أنت لم تسمع الآيات والأحاديث أو سمعتها وقلت: سمعنا وعصينا؟.
أيها المسلمون: إن حالتنا اليوم مع الصلاة حالة سيئة، خف قيمتها لدينا، وتساهلنا في شأنها، وصار التخلف عنها أمراً هيناً، بل أمراً عادياً.
أيها المسلمون: إذا كانت هذه حالتنا مع الصلاة، وهي أعظم شعيرة في الإسلام، فكيف حالنا معا باقي شرائع الإسلام؟ ما حالنا مع باقي تعاليم الدين؟ -والله المستعان-.
تجد -والعياذ بالله- الأسرة الكبيرة في البيت لا يحضر منها إلى بعض الأفراد، وبعض البيوت لا يحضر منها أحد، والمصيبة أن الذين يحضرون لا ينكرون على المتخلفين، وقد يكونون من أولادهم الذين كلفوا بأمرهم بها، وضربهم عليها، فأنت ترى البيوت والأسواق مكتظة بالناس، ولا ترتاد المساجد منهم إلا الأفراد، والغالبية رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، رضوا بالعقوبة، رضوا بوصف النفاق، فيا لها من خسارة، لا تشبهها خسارة الأرواح والأموال.
فاتقوا الله -عباد الله- وتوبوا إلى ربكم من قبل أن تحل بكم نقمته، وأنتم لا تشعرون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[الأحقاف: 31-32].
وقال سبحانه: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[هود: 114-115].
وقال تعالى: (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ)[إبراهيم: 31].
بارك الله لي…
الخطبة الثانية:
الحمد لله…
أما بعد:
عباد الله: إن شأن صلاة الجماعة في الإسلام عظيم، ومكانتها عند الله عالية، ولذلك شرع الله بناء المساجد لها، فقال سبحانه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)[النــور: 36].
وأول عمل بدأ به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة: بناء المسجد لأداء الصلاة فيها، وشرع الله النداء لصلاة الجماعة، من أرفع مكان، وبأعلى صوت، وعينت لها الأئمة، وكان صلى الله عليه وسلم يتفقد الغائبين، ويتوعد المتخلفين، وشهد الله لمن يحافظ على صلاة الجماعة في المساجد بالإيمان، حيث يقول سبحانه: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ)[التوبة: 18].
إن صلاة الجماعة -يا أخي المسلم- تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، فأي فضل أعظم من هذا؟
إنه لو قيل للناس أن المساهمة في التجارة الفلانية يكسب فيها الدرهم الواحد سبعاً وعشرين درهماً، لاقتتلوا على المساهمة فيها، طمعاً في هذا الربح العاجل الزائل، الذي من قد يحصل وقد لا يحصل، وما اكتتاب الناس في أسهم بنك الرياض منا ببعيد.
وأما المساهمة في التجارة الرابحة بالأعمال الصالحة التي ربحها مضمون، وخيرها معلوم، فلا تتقدم لها إلا الأفراد والأكثر، كما قال الله -تعالى- فيهم: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى: 16-17].
أيها المسلمون: إن المصلي مع الجماعة يخلص من أسر الشيطان وشره، ويدخل في جماعة المسلمين، فيبتعد عنه الشيطان، والذي يترك صلاة الجماعة يستحوذ عليه الشيطان، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية".
أيها المسلمون: إن صلاة الجماعة فيها تعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقف المسلمون فيها صفاً واحداً، خلف إمام واحد، بين يدي الله -عز وجل-، كالبنيان المرصوص، مما تظهر قوة المسلمين واتحادهم، في صلاة الجماعة اجتماع كلمة المسلمين، وائتلاف قلوبهم، وتعارفهم، وتفقد بعضهم لأحوال بعض.
في صلاة الجماعة مظهر التعاطف والتراحم، ودفع الكبر والتعاظم، وفيها تقوية الأخوة الدينية، في صلاة الجماعة يقف الكبير إلى جانب الصغير، والغني إلى جانب الفقير، والقوي إلى جانب الضعيف، والحاكم إلى جانب المحكوم، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، مما تظهر به عدالة الإسلام، وحاجة الخلق إلى الملك العلام، في صلاة الجماعة تؤخذ منها الدروس الإيمانية، وتسمع فيها الآيات القرآنية، فيتعلم بها الجاهل، ويتذكر الغافل، ويتوب المذنب، وتخشع القلوب، وتقرب من حضرة علام الغيوب.
صلاة المسلم في جماعة أقرب إلى الخشوع، وحضور القلب والطمأنينة، وإن الإنسان ليجد الفارق العظيم بين ما إذا صلى وحده، وإذا صلى مع الجماعة.
صلاة المسلم في جماعة تجعله في عداد الرجال الذين مدحهم الله، ووعدهم بجزيل الثواب، في قوله سبحانه: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النــور: 36-38].
أيها المسلمون: قد يتساءل البعض ما مناسبة الكلام الآن وفي هذا الوقت عن صلاة الجماعة ووجوبها؟
ولعل الجواب واضح ومعروف، وهذا الذي جعلني أذكر بهذا الموضوع الآن، وهو هذه الظاهرة السيئة التي نراها ونشاهدها في مساجدنا عموماً وفي كل عام، وهو حرص الناس وإقبالهم على المساجد، والمحافظة على صلاة الجماعة في رمضان، ثم الانقطاع والعودة إلى ما كانوا عليه قبل رمضان، وتعود حليمة -كما يقال- إلى عادتها القديمة.
وهذه والله حالة سيئة، ووضع سيء أن يشرع الإنسان ويقبل على عبادة ثم ينقطع عنها.
يا من كنت تحضر معنا في رمضان، والآن لا نراك، فإن الخطاب موجه إليك…
إذا كنت -يا أخي- لا تعتقد بوجوب صلاة الجماعة، فها أنت قد سمعت الأدلة القولية والفعلية من الكتاب والسنة التي قد قرعت بها أذنيك طوال الخطبة الأولى والثانية، على وجوب صلاة الجماعة، فلا حجة لك بعد اليوم، بل بعد الآن أمام الله -عز وجل-، وإذا كنت تعتقد بوجوب صلاة الجماعة ولا تبالي، فهذه مصيبة أعظم من أختها، وإذا كنت لا تخاف ولا تخشى ولا يهمك ارتكاب الحرام؛ لأن ترك صلاة الجماعة مع القدرة عليه فعل محرم، فأنت محل إساءة الظن الآن، من أنك ترتكب محرمات أخرى؛ لأن الذي يضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع، ولقد ذهب بعض العلماء إلى أن الذي لا يحضر الصلاة ولا يرى مع الجماعة في المسجد، فإن الأصل فيه إساءة الظن.
أيها الأخ الكريم يا من كنت تحضر معنا في رمضان ولا نراك الآن: فإن الكلمة موجهة إليك بالأخص.
كنت أتساءل حينما كنا نصلي الفروض في هذا المسجد طوال شهر رمضان وخصوصاً صلاة المغرب، فأرى هذه الجموع من المصلين وقد ازدحم بهم المسجد وكنت أقوم في بعض الأيام وأعد الصفوف؛ لأن المصلين كانوا يبلغون إلى هذا الفاصل الذي أمامي، ثم أقول: من أين قدم هؤلاء الرجال؟ هل نزلوا من السماء؟ أم نبتوا من الأرض؟ فأتأمل في وجوههم فإذا بهم أناس من سكان هذه الحارة ومن المجاورين لمسجدنا، لم ينزلوا من السماء، ولم ينبتوا من الأرض.
فابحث عنهم هذه الأيام فلا أجدهم، ومع الأسف أصبحنا نصلي هذه الأيام في الجزء الخلفي لقلة من يزور المسجد.
أيها الأخ الكريم: يا من كنت تحضر معنا في رمضان، ولا نراك الآن فهذه كلمة أخيرة أوجهها إليك، وهو إني لأعلم جيداً بأن كلامي هذا لا يغير من واقع كثير من الناس، ولست كذلك متفائلاً كثيرً بأن يمتلئ المسجد من أوله إلى آخره بعد هذه الخطبة، وسيبقى الكثيرون على ما لهم، لكني -ويعلم الله- بأني ما أعددت هذه الكلمات إلا لإبراء ذمتي أمام الله -عز وجل-، وتقديم النصيحة الواجبة.
ولتكون أيضاً حجة على من سمعها أمام ربه بأن الدعوة قد بلغته، ثم: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42].
الشيخ د. : ناصر بن محمد الأحمد