الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي الخاتم الأمين وخير الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً مزيدا إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، واعلموا أن تقواه طريق الخير والرشاد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
عباد الله: الشريعة الإسلامية مبنيَّة على اليسر والسهولة ورفع الحرج والمشقة عن المسلم؛ وقد خفف الله تعالى عن أهل الأعذار من المرضى وغيرهم عباداتهم بحسب أعذارهم ، ليتمكنوا من أدائها دون عنت، قال الله جل وعلا: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185]، وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم” (رواه مسلم)، وقال: “إن الدين يسر” (رواه البخاري).
فالمريض له أحكامه الخاصة التي وضعها الشارع الحكيم كي يؤدي العبادات بيسر وسهولة ومن تلك الأحكام:
1- أن المريض إذا لم يستطع التطهر بالماء -بأن يتوضأ من الحدث الأصغر أو يغتسل من الحدث الأكبر لعجزه أو لخوفه من زيادة المرض أو تأخر برئه- فإنه يتيمم وذلك بأن يضرب بيديه على التراب الطاهر ضربة واحدة فيمسح وجهه بباطن أصابعه، وكفيه براحتيه؛ لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [المائدة:6].
2- يجب على المريض الذي لا يخاف زيادة مرضه أن يصلي الفريضة قائماً، لقول الله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238].
3- المريض إذا قدر على القيام بأن يتكئ على عصى أو يستند إلى حائط أو يعتمد على أحد جانبيه لزمه القيام، لحديث وابصة -رضي الله عنه- عن أم قيس -رضي الله عنها-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أسنَّ وحمل اللحم اتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه؛ (رواه أبو داود وصححه الألباني).
ولأنه قادر على القيام من غير ضرر؛ لحديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: “صلّ قائماً…”؛ (رواه البخاري).
4- المريض الذي لا يستطيع القيام له أن يصلي جالساً فإن عجز عن الصلاة جالساً فإنه يصلي على جنبه مستقبل القبلة بوجهه، والمستحب أن يكون على جنبه الأيمن فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى مستلقياً؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمران بن الحصين: “صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب” (رواه البخاري)، وزاد النسائي: “فإن لم تستطع فمستلقياً“.
5- المريض إذ قدر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام، بل يصلي قائماً فيومئ بالركوع ثم يجلس ويومئ بالسجود؛ لقوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238] ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: “صل قائماً“؛ (رواه البخاري)، ولعموم قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16].
وإن كان بعينه مرض ولا يمكن علاجه إلا إن صلى مستلقياً فله أن يصلي مستلقياً ويسقط عنه القيام والركوع والسجود.
6- المريض إذ عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن عجز عن السجود وحده ركع وأومأ بالسجود وإن لم يمكنه أن يحني ظهره حنى رقبته، ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود أكثر من الركوع ما أمكنه ذلك وإن لم يقدر على الإيماء برأسه كفاه النية والقول.
7- الأفضل للمريض إذا صلى جالساً أن يكون متربعاً في موضع القيام، والصحيح أنه إذا ركع يركع وهو متربع؛ لأن الراكع قائم، لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: “رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي متربعاً“؛ (رواه النسائي، وصححه الألباني في سنن النسائي)، والسنة أن يجعل يديه على ركبتيه في حال الركوع، أما في حال السجود فالواجب أن يسجد على الأرض، فإن لم يستطيع وجب عليه أن يجعل يديه على الأرض وأومأ بالسجود؛ لما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة” وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين؛ (متفق عليه). فإن لم يستطع جعل يديه على ركبتيه وأومأ بالسجود وجعله أخفض من الركوع، لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16]، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: “.. وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم“؛ (متفق عليه).
8- إن عجز المريض عن السجود على الأرض فإنه يومئ بالسجود في الهواء ولا يتخذ شيئاً يسجد عليه؛ لحديث جابر -رضي الله عنه- يرفعه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاد مريضاً فرآه يصلي على وسادة فأخذها فرمى بها، فأخذ عوداً ليصلي عليه فأخذه فرمى به، قال: “صلِّ على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك“؛ (رواه البيهقي والطبراني).
9- إن عجز المريض عن جميع الأحوال السابقة صلى بقلبه، فيكبر، ويقرأ، وينوي الركوع والسجود والقيام والقعود بقلبه فإن الصلاة لا تسقط عنه ما دام عقله ثابتاً بأي حال من الأحوال.
10- إن عجز المريض عن الصلاة إلى القبلة ولم يوجد من يوجهه إليها صلى على حسب حاله؛ لقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة:286]
11- الصلاة لا تسقط عن المريض ما دام عقله ثابتاً بأي حال من الأحوال ومتى قدر في أثناء الصلاة على ما كان عاجزاً عنه من قيام أو قعود أو ركوع أو سجود أو إيماء انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته.
12- إذا نام المريض أو غيره عن الصلاة أو نسيها وجب عليه أن يصليها حال استيقاظه من النوم أو حال ذكره لها، ولا يجوز له تركها إلى دخول وقت مثلها ليصليها فيه لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك“؛ (رواه البخاري ومسلم)، والمريض المغمي عليه ثلاثة أيام فأقل يقضي الصلاة؛ لأنه يلحق بالنائم، أما اذا كانت المدة أكثر من ذلك فلا قضاء عليه؛ لأنه يلحق بالمجنون لجامع زوال العقل.
وصدق الله العظيم: (.. مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، واعلموا أن تقواه سبيل الفوز والنجاة، واعلموا أن من الأحكام المتعلقة بصلاة المريض ما يأتي:
13- إن شق على المريض فِعلُ كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير حسبما يتيسر له، أما الفجر فلا تجمع مع ما قبلها ولا مع ما بعدها؛ لأن وقتها منفصل عما قبلها وعما بعدها. وإذا كان في بلده فلا يقصر، أما إن كان مسافراً للعلاج أو غيره إلى بلد آخر مسافة قصر فله الجمع والقصر.
14- لا يجوز للمريض ترك الصلاة بأي حال من الأحوال، بل يجب عليه أن يحرص عليها أيام مرضه أكثر من حرصه عليها أيام صحته؛ فلا يجوز له ترك المفروضة حتى يفوت وقتها ولو كان مريضاً ما دام عقله ثابتاً، بل عليه أن يؤديها في وقتها حسب استطاعته، ويطهر ثوبه وبدنه ويصلي على مكان طاهر؛ فإن عجز سقط عنه ذلك وصلى حسب حاله.
15- إذا صلى المريض على كرسي أو ما في حكمه وجب أن يصاف المأمومين حسب حاله إن كان يستطيع القيام، فيصافهم قائماً وإن تأخر الكرسي، وإن كان لا يستطيع القيام فيصافهم جالساً على الكرسي ولو تقدمت رجلاه. وسنفصل أحكام الصلاة على الكرسي وما في حكمه في خطبة قادمة إن شاء الله تعالى.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:٥٦].
الشيخ د. : عبد الله بن محمد الطيار