الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله –عز وجل- وراقبوه، وأكثروا -رحمكم الله- من الاستغفار والتوبة، والأعمال الصالحة، فما منا أحد إلا وهو يتمنى يوم القدوم على ربه أن يكون قد أكثر من التوبة والاستغفار، والأعمال الصالحة.
فاستكثروا منها -رحمكم الله- ما دمتم في زمن الإمهال والإمكان، قبل أن يحال بينكم وبين ذلك.
إن كل وقت تقضونه في الاستغفار لله -عز وجل- والتوبة إليه، والإنابة، والعمل الصالح، ستجدون ثوابه يوم تودعون في الحفرة المظلمة الضيقة، تجدون ثوابه نورا وضياءً وبهجة وسرورا.
فاعملوا -رحمكم الله-: إلى ما أنتم قادمون إليه لا محالة، اعملوا ما دمتم في زمن الإمكان، اعملوا ما دام العمل سيتقبل منكم قبل أن يحال بينكم وبين ذلك، فيتمنى الواحد أن يرد إلى الدنيا ليركع ركعة واحدة، أو يسبح تسبيحة واحدة، أو يهلل تهليلة واحدة.
رؤي بعض الموتى في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ وماذا تتمنى؟ فقال: "والله لتسبيحة واحدة، أو تسبيحتان في صحيفة أحدنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها".
فلنجتهد -رحمكم الله- في كل ما يقربنا من ربنا -عز وجل-، ولنعمر أوقاتنا بطاعة الله، لنحفظها بالاستغفار والتوبة والإنابة.
أسأل الله -عز وجل- أن يأخذ بنواصينا جميعا للبر والتقوى، أسأله سبحانه وتعالى أن يعيننا على عمارة أوقاتنا بكل ما يقربنا منه، إن ربي رحيم ودود.
أيها الإخوة المسلمون: روى الإمام أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها، ويأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم، وإما أنا آمرهم.
فقال يحيى: "أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب، فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشرف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن:
أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق، فقال: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل وأد إلي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟
وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت.
وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم.
وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا، حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله" الحديث..
لقد جمع هذا الحديث الشريف أصولا نافعة، وقواعد جامعة، قال ابن القيم -رحمه الله-: ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم الشأن الذي ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقله ما ينجي من الشيطان، وما يحصل العبد به الفوز والنجاة في دنياه وأخراه!.
وكل جملة من جمل هذا الحديث تحتاج من المسلم إلى وقفات تأمل وتعقل، لكي يدرك عظم هذا الحديث، وجلالة قدره، وكبير نفعه.
وسنقتطف بعض ما قاله العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- حول جمل هذا الحديث، وهي قوله عليه السلام لبني إسرائيل: "وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده، ما لم يلتفت".
دلت هذه الجملة من جمل هذا الحديث الشريف على وجوب اهتمام المسلم بصلاته، وحرصه على جمع قلبه وعلقه، واستشعاره من يقف تجاهه لمخاطبته سبحانه، وسؤاله عز وجل.
كما أشارت هذه الجملة من الحديث إلى ضرورة التحرز والحذر من كل أمر من شأنه أن يذهب عن المصلى خشوعه وطمأنينته، ومن هذه الأمور: "الالتفات في الصلاة".
والالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان:
أحدهما: التفات القلب عن الله -عز وجل- إلى غير الله –تعالى-.
الثاني: التفات البصر، وكلاهما منهي عنه، ولا يزال الله مقبلا على عبده ما دام العبد مقبلا على صلاته، فإذا التفت بقلبه، أو بصره، أعرض الله –تعالى- عنه، وقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن التفات الرجل في صلاته، فقال: "اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد".
وفي أثر يقول الله –تعالى-: "إلى خير مني إلى خير مني؟".
ومثل من يلتفت في صلاته ببصره، أو بقلبه، أو مثل رجل قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينا وشمالا، وقد انصرف قلبه عن السلطان، فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضرا معه، فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟
أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتا مبعدا، قد سقط من عينيه؟
فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله –تعالى- في صلاته الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحى من ربه –تعالى- أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه وبين صلاتيهما، كما قال حسان عطية: "إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وأن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض".
وذلك أن أحدهما مقبل على الله -عز وجل- والآخر ساه غافل.
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن إقبالا ولا تقريبا، فما الظن بالخالق -عز وجل-؟
وإذا أقبل على الخالق -عز وجل- وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها، ملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالا وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب؟
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان، وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنيه وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله، حتى يهون عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها.
فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله –تعالى- حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة، وأيس منها، فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله -عز وجل-، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله –تعالى- وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه -عز وجل-، الحاضر بقلبه في صلاته؛ فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لم تخف عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله –تعالى- بقلبه وقالبه.
فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه وأحس بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطا وراحة وروحا، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينيه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق، حتى يدخل فيها، فيستريح بها لا منها.
فالمحبون يقولون: "نصلي فنستريح بصلاتنا" كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم -صلى الله عليه وسلم-: "يا بلال أرحنا بالصلاة" ولم يقل: أرحنا منها.
وقال صلى الله عليه وسلم: "جعلت قرة عيني في الصلاة".
فمن جعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه صلى الله عليه وسلم بدونها وكيف يطيق الصبر عنها؟
فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرة عينه في الصلاة هي التي تصعد ولها نور وبرهان، حتى يستقبل بها الرحمن -عز وجل- فتقول: "حفظك الله –تعالى- كما حفظتني".
وأما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها، فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول: "ضيعك الله كما ضيعتني".
وقد روي في حديث مرفوع عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- يرفعه أنه قال: "ما من مؤمن يتم الوضوء إلى أماكنه، ثم يقوم إلى الصلاة في وقتها، فيؤديها لله -عز وجل- لم ينقص من وقتها وركوعها وسجودها ومعالمها شيئا إلا رفعت له إلى الله -عز وجل- بيضاء مسفرة، يستضيء بنورها ما بين الخافقين، حتى ينتهي بها إلى الرحمن -عز وجل-.
ومن قام إلى الصلاة، فلم يكمل وضوءها وأخرها عن وقتها، واسترق ركوعها وسجودها ومعالمها، رفعت عنه سوداء مظلمة، ثم لا تجاوز شعر رأسه، تقول: "ضيعك الله كما ضيعتني، ضيعك كما ضيعتني".
أيها الإخوة المسلمون: إن الصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه -عز وجل-، فإذا كانت صلاة تصلح لربه -تبارك وتعالى-، وتليق به كانت مقبولة.
والمقبول من العمل قسمان:
أحدهما: أن يصلي العبد، ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله -عز وجل- ذاكر لله -عز وجل- على الدوام، فأعمال هذا العبد تعرض على الله -عز وجل- حتى تقف قبالته، فينظر الله -عز وجل- إليها، فإذا نظر إليها رآها خالصة لوجهه مرضية، قد صدرت عن قلب سليم مخلص، محب لله -عز وجل- متقرب إليه أحبها ورضيها وقبلها.
والقسم الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة، وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله، فأركانه مشغولة بالطاعة، وقلبه لاه عن ذكر الله، وكذلك سائر أعماله، فإذا رفعت أعمال هذا إلى الله -عز وجل- لم تقف تجاهه، ولا يقع نظره عليها، ولكن توضع حيث توضع دواوين الأعمال، حتى تعرض عليه يوم القيامة فتميز، فيثيبه على ما كان له منها، ويرد عليه ما لم يرد وجهه به منها، فهذا قبوله لهذا العمل إثابته عليه بمخلوق من مخلوقاته من القصور والأكل والشرب والحور العين.
وإثابة الأول: رضا العمل لنفسه، ورضاه عن معاملة عاملة، وتقريبه منه، وإعلاء درجته ومنزلته، فهذا يعطيه بغير حساب.
أيها الإخوة المسلمون: والناس في الصلاة على مراتب خمسة:
أحدها: مرتبة الظالم لنفسه المفرط، وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.
الثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالث: من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاته، فهو في صلاة وجهاد.
الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها، لئلا يضيع شيئا منها، بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي وإكمالها واتمامها قد استغرق قلب شأن الصلاة وعبودية ربه -تبارك وتعالى- فيها.
الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه -عز وجل- ناظرا بقبله إليه مراقبا له ممتلئا من محبته وعظمته كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطوات، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه -عز وجل- قرير العين به.
فالقسم الأول: معاقب، والثاني: محاسب، والثالث: مكفر عنه، والرابع: مثاب، والخامس: مقرب من ربه؛ لأن له نصيبا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة، فمن قرت عينه بصلاته في الدنيا قرت عينه بقربه من ربه -عز وجل- في الآخرة.
هذه هي المعادلة: إن أردت أن تقر عينك بالقرب من الرب -عز وجل- في الآخرة، فجاهد نفسك على أن تقر عينك في الدنيا بصلاته بين يدي ربك -عز وجل-.
من قرت عينه بصلاته في الدنيا قرت عينه بقربه من ربه -عز وجل- في الآخرة، بل وقرت عينه بربه أيضا في الدنيا.
ومن قرت عينه بمولاه وخالقه وسيده سبحانه وتعالى قرت لها كل عين، ومن لم تقر عينه بالله -تعالى- تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
وقد روي: أن العبد إذا قام يصلي، قال الله -عز وجل-: "ارفعوا الحجب بيني وبين عبدي، فإذا التفت العبد في صلاته بقلبه، أو ببصره، قال: "أرخوها".
وقد فسر هذا الالتفات بالقلب عن الله -عز وجل- لغيره، فإذا التفت إلى غيره، أرخى الحجاب بينه وبين العبد، فدخل الشيطان، وعرض على المصلي أمور الدنيا، وأراه إياها في صورة المرآة يراها، وإذا أقبل بقلبه على الله، ولم يلتفت لم يقدر الشيطان على أن يتوسط بينه وبين الله -تعالى-، وبين قلب ذلك المصلي، وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب، أو إذا أرخي الحجاب، فإذا فر العبد إلى الله -تعالى- مرة أخرى، وأحضر قلبه فر الشيطان مرة أخرى، فإذا التفت حضر الشيطان، فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعيننا على أنفسنا الأمارة بالسوء، وأن يقينا شر الشيطان ووساوسه، ويرزقنا الخشوع والطمأنينة في الصلاة، وأن يجعلها قرة عين لنا ولأهلينا وذريتنا، إن ربي رحيم ودود.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[البقرة: 45-46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: اتقوا الله -عز وجل-، واحرصوا على أداء صلاتكم على الوجه الأكمل الأتم، ولا تزالوا في جهاد ومجاهدة حتى تستقيم لكم صلاتكم، وحتى تكون الصلاة قرة أعين لكم، فيا هناءة! ويا سعادة! من كانت الصلاة قرة عينه.
والله يا هناءة! ويا سعادة! من كانت الصلاة قرة عينه، والله إنها لنعمة لا تعدلها سائر نعم الدنيا كلها، من رزق، أن تكون الصلاة قرة عينه، ومستراح فؤاده، والله لا يعدل هذه النعمة شيء من نعم الدنيا ألبتة.
أيها الإخوة المسلمون: إن أحدنا لو تأمل واقعه في صلاته، وفتش عن قلبه، حال أداء الصلاة، لعجب أشد العجب، وأخذت الحيرة منه كل مأخذ.
كيف لا وصلاتنا -أيها الإخوة المسلمون-: خاوية من الخشوع والطمأنينة، واستشعار عظمة الرب -عز وجل-، إلا عند القليل النادر منا.
كيف لا وصلاتنا مليئة بالخروق والخدوش، لقد أصبحت الصلاة عندنا مجالا لسرحان العقل، وشرود الذهن، لو سأل كلا منا نفسه عقيب انتهاء الصلاة: ماذا عقل منها؟ لكانت الإجابة مخزية!.
إن كثيرا من المسلمين اليوم يظنون أن الصلاة مجرد عبء، حركات وركوع وسجود، لا روح فيها، هي عبء على نفوسهم، وثقل على نفوسهم، مضطرين إلى أدائها هكذا، لكن دون وعي لحقيقة الصلاة، وإدراك للبها وروحها.
فإلى الله وحده نشكو حالنا في صلاتنا، ونقر بتقصيرنا وتفريطنا، راجين من مولانا -سبحانه وتعالى- أن يهبنا الخشوع في الصلاة، وأن يمن علينا بالطمأنينة فيها، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يقينا شر الشيطان وأعوانه.
إخوة الإسلام: إن الصلاة لحظة مناجاة! لحظة مناجاة مع من؟!
لحظة المناجاة مع الله -عز وجل- مع الخالق -سبحانه وتعالى-، مع ملك الملوك -سبحانه وتعالى-، لحظة مناجاة، وهذا هو جوهرها وروحها ولبها، الذي نبهنا إليها سيد العابدين -صلى الله عليه وسلم-، فيما رواه عنه ابن عمر أنه قال: "إني المصلي يناجي ربه -عز وجل- فلينظر بما يناجي؟!".
وعلى قدر ما يعقل المرء في صلاته، على قدر ما ينال من بركتها وأثرها في دنياه وأخراه.
ولا شك أن حظوظ النفس تتفاوت في ذلك؛ فعن عمار بن ياسر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها؛ إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، حتى قال: إلا عشرها".
فالناس يتفاوتون بعد فراغهم من أداء الصلاة، بقدر ما حصلوا من بركتها وخيرها ونفعها.
إخوة الإسلام: إن الشرود الذي يصيبنا في صلاتنا، إنما هو بسبب انكبابنا على شواغل الحياة، إنما هو خطأ وإساءة أدب في حضرة الرب -تبارك وتعالى-.
وإن الخشوع في الصلاة ليس مستحيلا، لكنه يحتاج إلى جهد ووعي.
والجهد المطلوب هو: جهد عقلي ونفسي، في آن واحد.
فالجهد العقلي، هو في تدبر الكلمات التي تقع بها المناجاة، من تكبير وتحميد وتسبيح، ومن قراءة للقرآن، لا سيما الفاتحة، هذه السورة العظيمة التي تشتمل على خطاب مباشر مع الحق -تبارك وتعالى-.
لقد أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما يرد به الحق -سبحانه وتعالى- علينا إذا قرأنا الفاتحة، ففي الحديث: "فإذا قال العبد: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 2]. قال الله -تعالى-: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة: 3]. قال الله -تعالى-: أثنى علي عبدي، وإذا قال: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4] قال: مجدني عبدي، فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 6- 7]. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".
والتكبير في الصلاة بدءا من تكبيرة الإحرام، ومرورا بتكبيرات الانتقال، التكبير هو بمثابة منبهات للمصلي في صلاته، منبهات مستمرة، تشعر الإنسان بأن ما يذكره في صلاته من أمور الدنيا أتفه من أن يشغله عن ذكر الكبير -سبحانه وتعالى-، أتفه من أن يشغله عن ذكر الله -سبحانه وتعالى-، والحركات الجسدية من قيام وركوع وسجود، تساعد هي بتنوعها على تيقظ الفكر كذلك.
أما الجهد النفسي، فهو في استشعار عظمة الله وجلاله، واستشعار أشواق النفس تجاه ربها -سبحانه وتعالى- الخالق المنعم، وعملية استحضار عظمة الله في الصلاة، وإشباع عواطف المحبة والرجاء والخشوع، هي أيضا عملية ذهنية، لكنها تؤدي إلى هذا الأثر النفسي.
وهذه الجهود العقلية والنفسية تتطلب إبعاد الشواغل عن الصلاة، ومن هذه الشواغل: وساوس الشيطان، وهي تعالج؛ بما روى مسلم عن عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- أنه قال: "يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يُلبسها عليّ".
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذاك شيطان يقال له: "خنزب" فإذا أحسسته، فتعوّذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا" قال: "ففعلت ذلك فأذهبه الله عني".
ومن الشواغل: شواغل الدنيا، وعلاجها في الصلاة أن تحسن هذه الشواغل بمنع استمرارها في النفس، فإذا بدأ الخاطر يجول في الذهاب ببعض مشاغل الدنيا، فليتوقف المرء عن الاستمرار فيه، فإذا استمر قوي واشتد، حتى يذهل المصلي عن صلاته.
وهذا يحتاج إلى مجاهدة نفسية في ذات الله، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].
إن من الأدب مع الله، وتعظيم حقه علينا: أن لا نعرض عنه وقد توجهنا إليه، وأن ننزه أنفسنا إذا وقفنا بين يديه، عن أن نكذب بين يديه -سبحانه وتعالى-.
يقول أحدنا: "الله أكبر" وهموم الدنيا أكبر من ذلك لديه!.
يقول أحدنا في صلاته: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض" وهو في الحقيقة لم يوجه لله شيئا في صلاته!.
واستمع لهذا الحوار كيف كان سلفنا الصالح يصنعون في صلاتهم، قالوا لعامر بن عبد القيس: "أتحدث نفسك بشيء في الصلاة؟ فقال: أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي؟ قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة، فقال: أبالجنة والحور ونحو ذلك؟ فقالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: لأن تختلف الأسنة في أحب إلي".
هكذا كانوا في الصلاة: خشوع، وطمأنينة، وإقبال على الله، وحضور قلب، فطابت نفوسهم، ورقت أفئدتهم، وصفت أذهانهم، وذلت لله جوارحهم وأعناقهم، فتحققت لهم سعادة الدنيا والآخرة، وانصرفوا من صلاتهم بأنوار وبركات، وخير في أجسادهم، وأنفسهم، وأخلاقهم، وأمورهم كلها.
فنسأل الله -عز وجل- أن يلحقنا بهم، وأن يهب لنا من لدنه رحمه إنه هو العزيز الوهاب.
إن من أعظم ما يعين على تحقيق هذا المقصود العظيم، وهو إحضار القلب بين يدي الله -عز وجل-: أن تستعد للصلاة قبل دخول وقتها، استعد للصلاة قبل دخول الوقت بالوضوء، أو بتجديد الوضوء إن كنت على طهارة، ثم بمتابعة المؤذن إذا أذن، والتوجه مباشرة إلى المسجد بعد سماع النداء إن لم تكن قد وصلت المسجد قبل الأذان، ثم أداء تحية المسجد، أو الصلاة الراتبة القبلية، قبل الصلاة بخشوع وطمأنينة، ثم الاستعداد للحضور في الصلاة بحضور القلب، بقراءة القرآن، والتسبيح والتحميد والتهليل، حتى إذا ما أقيمت الصلاة المفروضة كنت قد هيأت نفسك للوقوف العظيم بين يدي الله -عز وجل-.
فحال من كانت هذه حاله مع صلاته، ليست كحال من هو معرض لا يأتي إلى الصلاة إلا قبيل انتهاء الإمام، أو بعد انتهاء الإمام من الصلاة.
نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الخشوع، والإقبال عليه في الصلاة.
هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك…
الشيخ : خالد بن سعد الخشلان