أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واشكروه على ما سخر لكم من مخلوقاته، فلقد سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَـارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَلْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَلنَّهَارَ * وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم:32-34].
سخر لكم الشمس والقمر دائبين؛ لتعلموا بمنازل القمر عدد السنين والحساب، ولتتنوع الثمار بمنازل الشمس بحسب الفصول والأزمان. سخرهما يسيران بنظام بديع وسير سريع (لشَّمْسُ وَلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن:5]، لا يختلفان علوا ولا نزولا ولا ينحرفان يمينا ولا شمالا، ولا يتغيران تقدما ولا تأخرا عما قدر الله تعالى لهما في ذلك (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل:88].
فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال علمه وقدرته وبالغ حكمته وواسع رحمته آيتان من آياته في عظمهما آيتاه من آياته في نورهما وإضاءتهما (وَلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَلْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَلعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:38-40].
لقد أرجف الماديون بصانعي الأقمار الصناعية، وعظموهم وأنزلوهم المنزلة العالية مع حقارة ما صنعوا وخلله وتلفه، وغفلوا عن تعظيم من خلق صانعي هذه الأقمار وعلمهم كيف يصنعونها وخلق لهم موادها ويسرها لهم.
غفلوا عن تعظيم من خلق الشمس والقمر دائبين آناء الليل والنهار، وأعرضوا عن التفكر فيما فيهما من القدرة العظيمة والحكمة البالغة لذوي العقول والأبصار.
إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله مخلوقان من مخلوقات الله ينجليان بأمره وينكسفان بأمره، فإذا أراد الله تعالى أن يخوف عباده من عاقبة معاصيهم ومخالفاتهم؛ كسفهما -باختفاء ضوئهما كله أو بعضه-؛ إنذارا للعباد، وتذكيرا لهم؛ لعلهم يحدثون توبة، فيقومون بما يجب في هذا العصر.
لا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعا؛ وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، فلقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة، وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم.. أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة (فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ) [الذاريات:60].
أيها الناس: إن كثيراً من أهل هذا العصر تهاونوا بأمر الكسوف؛ فلم يقيموا له وزناً، ولم يحرك منهم ساكناً؛ وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وجهلهم بما جاء عن رسول الله واعتمادهم على ما علم من أسباب الكسوف الطبيعية وغفلتهم عن الأسباب الشرعية والحكمة البالغة التي من أجلها يحدث الله الكسوف بأسبابه الطبيعية.
فالكسوف له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون وينكرها الكافرون ويتهاون بها ضعيفو الإيمان؛ فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله من الفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق.
لقد كسفت الشمس في عهد النبي مرة واحدة في آخر حياته في السنة العاشرة من الهجرة حين مات ابنه إبراهيم بعد أن ارتفعت بمقدار رمحين أو ثلاثة من الأفق وذلك في يوم شديد الحر فقام النبي فزعاً إلى المسجد وأمر منادياً ينادي الصلاة جامعة فاجتمع الناس في المسجد رجالاً ونساءً فقام فيهم النبي وصفوا خلفه: "فكبر وقرأ الفاتحة وسورة طويلة بقدر سورة البقرة يجهر بقراءته ثم ركع ركوعاً طويلاً جداً ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنها أقصر من الأولى ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الأول ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد وقام قياماً طويلاً نحو ركوعه ثم سجد سجوداً طويلاً جداً نحواً من ركوعه ثم رفع وجلس جلوساً طويلاً ثم سجد سجوداً طويلاً ثم قام إلى الركعة الثانية فصنع مثل ما صنع لكنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام ثم تشهد وسلم وقد انجلت الشمس".
ثم خطب خطبة عظيمة بليغة فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فينظر من يحدث منهم توبة، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره".
وفي رواية: "فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا حتى يفرج الله عنكم"، وفي رواية: "حتى ينجلي"، وقال: "يا أمة محمد: والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وأيم الله يعني، لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لا قوه من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار رأيت الناس يحطم بعضها بعضاً فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه، -يعني أمعاءه-، ورأيت فيها امرأة تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشائش الأرض، ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقل: من صالحاً فقد علمنا إن كنت لموقنا. وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته".
ثم ذكر الدجال وقال: "لن تروا ذلك حتى تروا أمورا يتفاقم شأنها في أنفسكم وتساءلوا بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا حتى تزول جبال عن مراتبها".
أيها المسلمون: إن فزع النبي للكسوف وصلاته هذه الصلاة وعرض الجنة والنار عليه فيها ورؤيته لكل ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة ورؤيته الأمة تفتن في قبورها وخطبته هذه الخطبة البليغة وأمره أمته إذا رأوا كسوف الشمس أو القمر أن يفزعوا إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والتكبير والصدقة بل أمر بالعتق أيضا.
إن كل هذه لتدل على عظم الكسوف وأن صلاة الكسوف مؤكدة جدا حتى قال بعض العلماء أنها واجبة وأن من لم يصلها فهو آثم.
فصلوا -أيها المسلمون- رجالاً ونساءً عند كسوف الشمس أو القمر كما صلى نبيكم ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان بقراءة جهرية.
ومن فاتته الصلاة مع الجماعة فليقضها على صفتها ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول فقد أدرك الركعة، ومن فاته الركوع الأول فقد فاته الركعة، لأن الركوع الثاني لا تدرك به الركعة.
وفقني الله وإياكم لتعظيمه والخوف منه ورزقنا الاعتبار بآياته والانتفاع بها إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم…
الشيخ : محمد بن صالح بن عثيمين