الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: إن العباد قد يصابون ابتلاءً من الله بقلة الماء وندرة الأمطار، أما الكفار فلا حيلة لهم، وأما نحن المسلمين فمن نعم الله علينا أن شرع لنا صلاة الاستسقاء، وهو طلب السقيا ممن بيده ملكوت كل شيء، لكن طلب السقيا من الله ليس هو ركوع وسجود، حركات فحسب، لكن لها شروط وآداب قلّ ما يأخذ بها المسلمون اليوم من الضراعة إلى الباري سبحانه، والابتهال بالدعاء والاستغفار من الذنوب، ووصل ما أمر الله به أن يوصل، وأن تكون الصلاة خالصة لله -تبارك وتعالى-، كما ينبغي أن يقدم للصلاة من توفرت فيه الولاية والصلاح والتقوى، حتى تتطهر القلوب من الأدناس والأرجاس، وتنزع ما في صدورها من غل وسخائم.
قحط الناس في آخر مدة الناصر لدين الله، فأمر القاضي منذر بن سعيد البلوطي بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهب لذلك وصام بين يديه ثلاثة أيام، تنفلاً وإنابة ورهبة، فاجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مكان ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج والضراعة إلى الله، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى، ثم خرج نحوهم ماشياً مخبتاً، وقام ليخطب، فلما رأى الناس في ارتقابه، رقت نفسه وغلبته عيناه، فاستعبر وبكى حيناً، ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيها الناس: سلام عليكم، ثم سكت، ولم يكن من عادته، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما به، ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تالياً لقول الله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 54] استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وتزلفوا بالأعمال الصالحات لديه.
فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته ففزع الناس بوعظه، وأحس الناس الإخلاص بتذكيره، فلم ينقض النهار حتى أمر الله السماء بماء منهمرٍ، روى الثرى، والله لطيف بعباده.
إن تنزيل المطر على الأرض لا يكون كما نعلم إلا على حسب مشيئة الله، وعلى حسب حاجة الخلق إليه، قال الله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر: 21] روى ابن مسعود والحكم بن عتيبة وغيرهما أنه ليس عام أكثر مطراً من عامٍ، ولكن الله يقسمه كيف يشاء، فيمطر قوم، ويحرم آخرون، وربما كان المطر في البحار والقفار، وهذا معنى قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ) [الشورى: 27] فالله -جل وتعالى- هو الخازن للماء ينزله إذا شاء، ويمسكه إذا شاء كما قال عز وجل: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) [الحجر: 21] وقال سبحانه: (فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) [الحجر: 22] أي ليست خزائنُه عندكم، وهو كما قال في الآية الأخرى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) [المؤمنون: 18] قال الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ) [الملك: 30].
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن نزول المطر من السحاب على الأرض: فيرشُ السحاب على الأرض رشاً، ويرسله قطرات منفصلة، لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرة واحدة أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه. ثم قال -رحمه الله-: فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقاً للحيوان الفلاني، في الأرض الفلانية، بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا. انتهى كلامه رحمه الله. مفتاح دار السعادة 2/36.
مِـنْ أَيِّ عَهـدٍ فـي القُـرَى تتَـدَفَّقُ?
وبــأَيِّ كَـفٍّ فـي المـدائن تُغْـدِقُ?
ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ من
علْيــا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ?
وبــأَيِّ عَيْــنٍ, أَم بأَيَّــة مُزْنَــةٍ
أَم أَيِّ طُوفــانٍ تفيــض وتَفْهَــقُ?
وبــأَىِّ نَــوْلٍ أَنـتَ ناسـجُ بُـرْدَةٍ
للضفَّتيْـــن, جَديدُهــا لا يَخــلَقُ?
أيها الاخوة المسلمون: إن كون الله تعالى هو وحده القادر على إنزال الغيث أمرٌ يعتقده كل مسلم، بل ويعتقده كثيرٌ من المشركين. قال الله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت:63].
ولكن بعض المسلمين يقعون أحياناً في الخطأ الفادح حين ينسبون إنزال المطر إلى غير الله من الكواكب والأنواء وارتفاع الضغط أو انخفاضه أو غير ذلك من الأسباب. فعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل. فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا الله ورسوله أعلم. قال: قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" [رواه مسلم].
نحن نعلم أن هناك سنناً كونية ثابتة بثها الله تعالى في هذا الكون. فكل ما في هذا الكون يسير وفق هذه السنن التي أوجدها الله، ويحكمه نظام محكم دقيق أوجده أحكم الحاكمين.
ولكن الله الذي أوجد هذه السنن الكونية قادر على أن يخرق هذه السنن متى ما أراد، بحيث لا تعمل عملها المعتاد، وإنما تعمل وفق إرادة الله ومشيئته (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82].
المطر جند من جنود الله، أهلك الله -جل وعلا- بهذا المطر الذي نراه سهلاً يسيراً عذباً زلالاً بل نستسقي من أجله، أغرق الله -جل وعلا- بهذا المطر أقواماً تمردوا على شرع الله، وفسقوا وظلموا فكان عاقبتهم أن سلط الله عليهم هذا الجندي، فأغرق القوم، قال الله تعالى: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود: 41 – 44] هذا المطر كان هنا وبالاً على الظالمين الكافرين.
وكان أيضاً جنداً من جنود الله، ووقف في صفِ الجيوشِ المسلمة كما حصل في غزوة بدرٍ (إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ) [الأنفال: 11].
فمن ذا الذي جعل المطر يأتي بهذه الصورة؟ أهي مجرد صدفة؟ إنها إرادة أحكم الحاكمين، ومن هو على كل شيء قدير. إرادة من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فهل ندّكر ونعتبر (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].
إن إيماننا بهذه الأمور يجب أن يكون إيماناً حقيقياً وعملياً مؤثراً، يدفعنا إذا حصل عندنا نقص في الأمطار إلى محاسبة أنفسنا، وتسديد النقص وأداء الواجب واجتناب المحرم، وإذا حصل زيادة في الأمطار تؤدي إلى الأضرار أن نحاسب أنفسنا أيضاً لنرى من أين أتينا (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [آل عمران: 165] وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41] أي حصل النقص والضرر على البلاد والعباد والدواب والنباتات بسبب معاصي بني آدم.
فالله تعالى يبتلى من يشاء بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه، ومجازاة لهم على صنيعهم (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168]. هذا والحق تبارك وتعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) [الشورى: 30] ويقول سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [الأنفال: 53] فإذا غيَّر الناس من الطاعة إلى المعصية، ومن الاستقامة إلى الانحراف، ومن الهدى إلى الضلال غير الله تعالى عليهم، فبدل بالنعم النقم، وبالسعة ضيقاً، وبالأمن خوفاً، وبالغنى فقراً، جزاءً وفاقاً (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46], ومن تاب تاب الله عليه، ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82].
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
قد تحدث في بعض البلاد زلازل وبراكين، وقد تحدث رياح عاتية، وأعاصير مدمرة، وقد تحصل أمطار غزيرة وبرد، وقد تقل الأمطار حتى تتأثر الزروع والبهائم ويحصل القحط، وقد تحدث فيضانات، وقد تحدث أمور غيرها. فالماديون يرجعون حدوث مثل هذه الأمور إلى الطبيعة فحسب، وكأنها هي الخالق المدبر المتصرف، ولا يربطون بين حدوثها وبين الوقوع في معاصي الله وانتهاك محارمه والإعراض عن دينه. ولهذا لا يرعوي من كان ضالاً عن ضلاله، ولا يستقيم المنحرف ولا يرجع عن انحرافه. يبقى المقصر في الصلاة مقصراً فيها إلا من رحم ربك، ويبقى من يأكل الربا على ذلك، ويستمر من لا يخرج زكاته على هذا الفعل، ويظل من يشاهد أفلام الفساد يشاهدها، ومن يسعى لمقارفة الفواحش على مقارفتها وهكذا يستمرون على أفعالهم المحرمة وممارساتهم المنكرة؛ لأنهم لم يعتبروا حدوث هذه الأمور مواعظ لهم. وإنما اعتبروها أموراً طبيعية بحتة، لا علاقة بين حدوثها وبين ممارساتهم وواقعهم المنحرف.
أما المسلم الحق الذي يرجو رحمة ربه ويخشى عقابه فإنه يعتبر هذه أموراً طبيعية. ولكنها مربوطة بمشيئة الله وإرادته. يصرفها سبحانه كيف يشاء، وقد يرسلها نعمة، وقد يرسلها نقمة، وقد يرسلها رحمة، وقد يرسلها عذاباً. ولهذا نجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، فقالت له عائشة -رضي الله عنها-: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر. وأراك إذا رأيته عُرِفَتْ في وجهك الكراهية؟ فقال: "يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب. قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا" [رواه البخاري ومسلم].
وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به. وإذا تخيلت السماء -يعني تغيمت وتهيأت للمطر- تغير لونه وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مَطَرتْ سرَّي عنه" [رواه مسلم].
هكذا كان سيد الخلق وأعرف الناس بربه. فما بالنا نحن نغفل عن هذا وكأننا بمأمن من أن يصيبنا العذاب بالريح أو بالمطر أو البرد أو الزلازل أو غيرها؟.
هل ندرك هذا أم نبقى نقول بأن هذه أمور وظواهر طبيعية، لا علاقة بين حدوثها وبين أعمال الناس وتصرفاتهم؟.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا.
الشيخ د. : ناصر بن محمد الأحمد