الخطبة الأولى:
الحمد لله مصرّف الأوقات، فاطر الأرض والسماوات، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فهي علامة الصلاح والفلاح، وهي خير زاد ليوم الحساب: (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأعراف:169].
عباد الله: بعد ظلام الليل الحالك يتنفس الصبح بضيائه، ويرسل إلى الكون خيوط الصباح الأولى مؤذنًا ببدء يوم جديد، وفي هذا الوقت البديع المبارك يدوّي في سماء الكون النداء الخالد، نداء الأذان لصلاة الفجر، فتهتف الأرض كلها: الله أكبر الله أكبر، الصلاة خير من النوم. وتكون صلاة الفجر فاتحة اليوم في حياة المسلم، ليعلّم الإسلام أهله أن يبدؤوا كل أمر بطاعة الله، والإقبال عليه، والإنابة إليه، وكأنما هي شكر لله على نعمة الإصباح بعد الإظلام.
وفي تلكم الساعة يهب رجال وجوههم مسفرة، وجباههم مشرقة، وأوقاتهم مباركة، ما إن يسمعوا النداء يدوي: الله أكبر .. الله أكبر.. الصلاة خير من النوم ..؛ حتى يهبّوا ويفزعوا وإن طاب المنام، ويتركوا الفراش وإن كان وثيرًا.
يقوم أحدهم مخبتا منيبا، يخرج من بيته إلى بيت ربه ملبيا النداء، لم تمنعه ظلمة الليل من أن يمشي فيها إلى بيت الله -تعالى-، فكان جزاؤه أن يسير في نور تام يوم القيامة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بشِّر المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" رواه الترمذي.
لم تُخرجه دنيا يصيبها، ولا أموال يقترفها، فيا لسعادة يعيشها حين لا ينفك النور عنه طرفة عين!.
أولئك هم الرِّجال حقاً، والمؤمنون صدقاً، قال ربُّنا – جل وعلا -: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور:36-38].
رجال الفجر أنفسهم طيبة، وأجسادهم نشيطة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يعقد الشيطان على قافية رأسِ أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، ويضرب على مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد! فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان" متفق عليه.
ويثني ربنا -تبارك وتعالى- على أولئك الرجال، ويأمر نبيه بأن يصبر نفسه معهم فيقول: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
أولئك الرجال موعودون بالنجاة من النار وعدم ولوجها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" رواه مسلم.
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "مَن صلى البَرْدين دخل الجنة"، والبردان: الفجر والعصر.
وتشهد لهم ملائكة الرحمن، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم– وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون" متفق عليه.
و: "مَن صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل, ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله" رواه مسلم.
ومَن صلى الفجر فهو في ذمة الله وحفظه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلّى الصبح فهو في ذمة الله, فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء, فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه, ثم يكبه على وجهه في نار جهنم" رواه مسلم.
ومن حافظ على هذه الفريضة فإنه موعود برؤية ربه، فعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته , فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"، يعني: العصر والفجر -ثم قرأ-: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)" رواه مسلم.
أيها المسلمون:لا يشهد صلاة الفجر إلا صفوة الرجال؛ لذلك كانت تلك الصلاة أشدّ صلاة على المنافق، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء, ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا" رواه البخاري.
ولذلك كانت صلاة الفجر عند الصحابة مقياسًا يزنون به الناس، ففي صحيح ابن خزيمة عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن".
عباد الله: وبعد هذه الفضائل والمزايا: ماذا يقول من آثر فراشه معرضًا عن نداء ربه -عز وجل-؟ ماذا يقول مَن آثر أن يكون أسيرًا للشيطان والهوى؟.
ماذا يقول من رضي أن يبول الشيطان في أذنيه؟ ففي الصحيح أنه ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه" رواه البخاري.
أما علم النائم عن الصلاة أن من ترك صلاة واحدة عمدًا حتى يخرج وقتها فقد كفر عند بعض أهل العلم؟.
وبعض الناس يتعمد ضبط المنبه على وقت العمل ولو كان وقت العمل في السابعة أو الثامنة، ولا يصلي الفجر إلا في هذا الوقت!.
وقد سئل الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن ذلك فقال: من يتعمد تركيب الساعة إلى ما بعد طلوع الشمس حتى لا يصلي فريضة الفجر في وقتها هذا قد تعمد تركها وهو كافر بهذا عند جمع من أهل العلم لتعمده ترك الصلاة.
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في مثل هذا: "صلاته هذه غير مقبولة، ولا تبرأ بها ذمته، وسوف يُحاسَب عنها".
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد عباد الله: يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في حديثِ الرؤيا: "إنه أتاني اللَّيْلَةَ آتيان، وإنَّهُما ابْتَعَثَانِي، وإنَّهُمَا قالا لي: انطَلِقْ، وإنَّي انطلقتُ معهما، وإنَّا أتَيْنا على رَجُلٍ مُضْطجِعٍ، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بصَخْرةٍ، وإذا هو يَهْوِي بالصخرةِ لرأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَدَهْدَهُ الحَجرُ ها هنا، فَيَتْبَعُ الحجرَ فيأخُذُهُ، فلا يرجِعُ إليه حتَّى يصِحَّ رأْسُهُ كما كان، ثم يعود عليه، فيفعلُ به مثلَ ما فعلَ المرةَ الأولى. قلتُ لهما: سبحانَ الله! ما هذا؟ قالا لي انْطَلِقْ، انطلقنا".
وفي آخر الحديث إخبارٌ لرسول الله عمّا رأى: "أمَّا الرجل الأول الذي أتيتَ عليه يُثْلَغُ رأْسُه بالحجَرِ، فإنَّهُ الرجلُ يأخذ القرآن، فيرفُضُه، وينام عن الصلاة المكتوبة" أخرجه البخاري.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على هذه الفريضة، واحذروا السهر، واحرصوا على كل سبب مباح يعينكم على أداء هذه الفريضة مع جماعة المسلمين.
ثم صلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية…
الشيخ : إبراهيم بن علي الحدادي