الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:2-4].
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله قدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تقواه خير زاد ليوم المعاد، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: خلق الله -جل وعلا- الخلق لطاعته وعبادته، وافترض عليهم فرائض لاختبارهم وابتلائهم، وبشّر من قام بحقها بعظيم الأجر والثواب، وحذر من فرط في القيام بها بشديد العذاب والعقاب.
ومن أعظم تلك الفرائض التي افترضها الله -تعالى- على عباده الصلوات الخمس، التي هي ثاني أركان الإسلام، ومن أفضل الأعمال التي بها ترفع الدرجات، وتكفر الخطايا والسيئات؛ وهي من أحب الأعمال إليه -جل وعلا-، فقد ذكرها -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل عن أحب الأعمال إلى الله -تعالى-، فقال: "الصلاة على وقتها" رواه البخاري ومسلم.
وهي أول ما يحاسب عنه العبدُ يوم القيامة فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله، وهي من أعظم أسباب دخول الجنة بعد فضل الله ورحمته.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحرصوا على أدائها في وقتها، وخاصة مع جماعة المسلمين، وبالشروط الواجبة لها، والاطمئنان والخشوع عند أدائها، وتعظيم الله -جل وعلا- في قلوبكم عند الوقوف بين يديه فيها، فمن أداها كما ينبغي فقد أدى شيئا عظيماً من حقوق الله -جل وعلا-.
عباد الله: ومن أعظم تلك الصلوات الخمس قدراً وشرفاً وأجراً وفضلاً صلاة الفجر، فهي أولى العبادات التي يبدأ المسلم بها يومه.
ويترتب على أدائها خير عظيم، وفوائد كثيرة في حياة العبد، ومن ذلك:
أولاً: إن وقتها مبارك، وصلاتها مشهودة؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "يَشْهَدُ الله -عز وجل- وملائكته، وقيل: يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فيتفق نزول هؤلاء البدل عند صعود أولئك فيجتمعون في صلاة الفجر، وذلك لأنها هي أول ديوان النهار وآخر ديوان الليل، فيشهده ملائكة الليل والنهار".
واحتج لهذا القول بما فى الصحيح من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فَضْلُ صَلاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر". يقول أبى هريرة: واقرؤوا إن شئتم: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الإسراء: 87]. رواه البخاري.
ثانياً: إن من أداها في وقتها كان في ذمة الله -تعالى-؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإن من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم" رواه مسلم.
قال النووي -رحمه الله-: "فأعظم صلاة في اليوم نصليها هي صلاة الصبح، وأعظم الصلوات هي التي تقام والدنيا مظلمة، وفي شدة البرد، إذ يترك الإنسان فراشه ويخرج إلى بيت الله -عز وجل- مصلياً، ولذلك كان الذي يصلي صلاة الصبح في ذمة الله -سبحانه وتعالى-، والمعنى: أن الله -سبحانه وتعالى- يضمنه".
ثالثًا: إنها سبب في دخول الجنة والنجاة من النار؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها"، يعني الفجر والعصر. رواه مسلم. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى البردين دخل الجنة" متفق عليه. وهذا وعد من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بأن من حافظ على صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس وصلاة العصر قبل غروبها أنه لن يلج النار، أي: لن يدخلها.
رابعاً: إن من صلاها كُتب له قيام ليلة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله" رواه مسلم، وهذا الحديث من الأحاديث العظيمة التي بين فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- فضل المحافظة على صلاتي العشاء والفجر، وأن من واظب عليهما كان له من الأجر كقيام ليلة.
خامسًا: إن أهل الفجر وعدهم الله -تعالى- بأن يروه عياناً؛ فعن جرير البجلي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامّون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"، يعني صلاة العصر والفجر، ثم قرأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) [طه:130] رواه البخاري ومسلم، والمعنى: كما أنكم ترون هذا القمر ولا تشكون في رؤيته فكذلك ترون الله -عز وجل- يوم القيامة. نسأل الله الكريم من فضله.
سادساً: الأمن من النفاق؛ فمن قام بأدائها في أول وقتها وفي جماعة المسلمين فقد برئت ذمته من تلك الصفة الذميمة، فقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين من التفريط فيها والتخلف عنها فقال: "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" رواه البخاري ومسلم.
وروى مسلم من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق، معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يتهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف". وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كنا إذا فقدنا الإنسان في العشاء وفي الفجر، أسأنا به الظن".
سابعًا: إن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها، فكيف بصلاة الفجر وهي فريضة؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" رواه مسلم، أي: إن جميع ما في الأرض من أموال، ومتاع، وزينة وزخرف، وجميع ما يستمتع به الناس ويستلذون به، كله، لا يعادل ركعتي الفجر؛ فلله الحمد والمنة.
ثامناً: إن من حافظ على صلاة الفجر فهو من أطيب الناس عيشاً، وأنشطهم بدنًا، وأنعمهم قلبًا؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان" رواه البخاري ومسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الإسراء:78].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم.
أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن شهود صلاة الفجر يجدد الإيمان، ويحيي القلوب، ويشرح الصدور، ويملأ النفس بالسرور ، ويثقل الله بها الموازين ويعظم الأجور.
واعلموا أن لذة الدقائق التي ينامُها البعض وقت الفجر لا تعدل ضَمّةً في القبر، ولا زفرة من زفرات النار، والمفرّط سيعضّ بعدها أصابعه ندماً أبد الدهر، يقول المولى -جل وعلا- مذكِّرا عباده بذلك على لسان العبد يوم يلقى ربه: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].
وتذكر -يا عبد الله، يا من تؤمن بأن الموت حق وأمنت منه- أنك حين تؤوي إلى فراشك لتنام أن هذه النومة قد تكون نهايتك ولا تقوم منها إلا لقبرك فتكون رهين عملك، فهل ترضى أن تكون نهايتك نومك عن صلاة الفجر؟ فاستعد ما دمت في دار المهلة، واعمل لما فيه فرحك وسعادتك ونجاتك يوم العرض على الله.
أيها المؤمنون: بادروا بأدائها في وقتها، واحرصوا على إيقاظ أولادكم وأهليكم وإعانتهم على أدائها، فأنتم مسؤولون عنهم بين يدي الله.
وتذكروا نعم الله عليكم، وانظروا لمن حولكم ممن أثقلتهم المحن والهموم والأحزان والأكدار، أبدانهم منهكة من التعب بحثاً عن لقمة العيش التي يسدّون بها جوعتهم وأهليهم ومن تحت أيديهم، وأنتم -ولله الحمد- تنعمون بالأمن، والأمان، ورغد العيش، وعافية الأبدان، فالحذر الحذر أن تُسلبَ منكم هذه النعم! فإن المعاصي لها شؤم عظيم.
عباد الله: إن ما حدث من تفجير في فرنسا لا يخدم الإسلام في شيء، بل سيكون له آثار عظيمة على المسلمين في الغرب، ولكن هؤلاء الشباب لا يراعون الحرمات، ولا يشعرون بما يترتب على أفعالهم من الآثار والأضرار التي تلحق بالمسلمين.
وقد صدر بيان عن الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية أدان هذه التفجيرات وأوضح "أن الإسلام لا يقر هذه الأعمال الإرهابية، وأنها تتنافى وقيمه التي جاءت رحمة للعالمين، ونوهت الأمانة بأن القضاء على الإرهاب يستدعي تكاتف الجهود بمحاربته أيًّا كان مصدره بموقف أخلاقي موحد لا يفرق بين إرهاب وإرهاب حسب النظرة المصلحية الضيقة" انتهى.
أسأل الله أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وإيماننا ورغد عيشنا.
اللهم وفق ولاة أمورنا لكل ما تحب وترضى، وأعنهم على كل خير يا أكرم الأكرمين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال -جل من قائل عليماً-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
الشيخ د. : عبد الله بن محمد الطيار