ح 77 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ له , فَأَكَلَ مِنْهُ , ثُمَّ قَالَ : قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ .
قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ , فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ , فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ , وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا . فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ انْصَرَفَ .
وَلِمُسْلِمٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ , وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا .
اليتيمُ : ضُميرة جدُّ حسين بن عبد اللهِ بن ضميرة .
في الحديث مسائل : 1 = جواز ذِكر اسم المرأة أُمّـاً كانت أو زوجة أو بنتاً أو أختاً ، ولا حرج في ذلك ولا عيب .
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يتحرّجون من ذِكر اسم المرأة ، بل إنه عليه الصلاة والسلام سُئل أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة . رواه البخاري ومسلم .
2 = اختُلِف في عَود الضمير في قوله : " جدّته " هل هي جدّة أنس رضي الله عنه أو جدّة الراوي عن أنس إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، وهو ابن أخي أنس رضي الله عنه .
قال ابن دقيق العيد : قِيلَ هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ . وَقِيلَ : أُمُّ حَرَامٍ . قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلا يَصِحُّ . وَهَذَا الْحَدِيثُ : رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ . فَقِيلَ : الضَّمِيرُ فِي " جَدَّتِهِ " عَائِدٌ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَنَّهَا أُمُّ أَبِيهِ . قَالَهُ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ . فَعَلَى هَذَا : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ إِسْحَاقَ . فَإِنَّهُ لَمَّا أَسْقَطَ ذِكْرَهُ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ جَدَّةَ أَنَسٍ . وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عُمَرَ : إنَّهَا جَدَّةُ أَنَسٍ ، أُمُّ أُمِّهِ . فَعَلَى هَذَا : لا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ إِسْحَاقَ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ : فَالأَحْسَنُ إثْبَاتُهُ . اهـ .
أقول :
والذي يظهر أنها جدّة أنس رضي الله عنه ، إذ في رواية الصحيحين من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والضمير يعود لأقرب مذكور ، وهو أنس رضي الله عنه .
ولذا قال الحافظ في الإصابة (8/230) : واختلف في الضمير في قوله : " جدته " فقيل : لأنس ، وقيل : لإسحاق ، وجزم أبو عمر ([1]) بالثاني ، وقواه ابن الأثير فإن أنسا لم يكن في خالاته من قبل أبيه ولا أمه من تسمى مُليكة . قلت : والنفي الذي ذكره مردود فقد ذكر العدوي في نسب الأنصار أن اسم والدة أم سليم مليكة ولفظه : سُليم بن ملحان وإخوته زيد وحرام وعباد وأم سليم وأم حرام بنو ملحان ، وأمهم مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار ، وظهر بذلك أن الضمير في قوله جدته لأنس ، وهي جدته أم أمه ، وبَطَلَ قول من جعل الضمير لإسحاق وبنى عليه أن اسم أم سليم مليكة ، والله الموفق . اهـ .
3 = تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يُجيب الدعوة ولو على الشيء اليسير .
قال الحافظ العراقي في طرح التثريب :
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّوَاضُعِ ، وَإِجَابَةِ دَعْوَةِ الدَّاعِي . وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إجَابَةِ أُولِي الْفَضْلِ لِمَنْ دَعَاهُمْ لِغَيْرِ الْوَلِيمَةِ . اهـ .
وبمثله قال ابن دقيق العيد رحمه الله .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه . قال أنس : فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام ، فقرّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا ومرقا فيه دباء وقديد ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة .
وعند الإمام أحمد : أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام فأتاه بطعام وقد جعله بإهالة سنخة وقرع .
والإهالة : ما أذيب من الشحم ، وقيل : الإهالة الشحم والزيت ، وقيل كل دهن أُوتُدِمَ به . ذكره العيني .
والسنخة : أي المتغيرة الرِّيح . قاله ابن حجر .
وقد أجاب صلى الله عليه وسلم دعوة امرأة يهودية حينما دعته إلى الطعام .
فقد روى الشيخان عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك ، فقالت : أردت لأقتلك . قال : ما كان الله ليسلِّطك على ذاك .
4 = قوله : " فَلأُصَلِّ لَكُمْ "
أي لأُصلِّ بكم ، أو لأُصلِّ لكم من باب التعليم ، أو من باب التشريف للمكان .
قال الحافظ العراقي أيضا :
وَفِيهِ أَيْضًا : جَوَازُ الصَّلاةِ لِلتَّعْلِيمِ ، أَوْ لِحُصُولِ الْبَرَكَةِ بِالاجْتِمَاعِ فِيهَا ، أَوْ بِإِقَامَتِهَا فِي الْمَكَانِ الْمَخْصُوصِ . وَهُوَ الَّذِي قَدْ يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ " لَكُمْ " .
5 = فنضحتُه بِماءٍ : النَّضْحُ هُو الرشُّ ، وقد يُطلق على الغَسْل .
والعِلّة في النضح ذكرها أنس رضي الله عنه ، وهي أنه " قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ " .
وليس شكّـاً في طهارة الحصير ، إذ الطهارة يقين فلا يُنتقل منها إلا بيقين ، ولو تُيقِّنت نجاسته ما كفاه النضح
وقد روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقاً ، فربما تحضر الصلاة ([2]) وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيُكنس ثم يُنضح ثم يؤمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه ، فيصلي بنا ، وكان بساطهم من جريد النخل .
قال ابن عبد البر :
وأما نضح الحصير ، فإن إسماعيل بن إسحاق وغيره من أصحابنا كانوا يقولون : إنما كان ذلك لِيَلِين الحصير لا لنجاسة فيه ...
ثم قال : الذي أقول به أن ثوب المسلم محمول على الطهارة حتى يستيقن بالنجاسة ، وأن النضح فيما قد تنجّس لا يزيده إلا شراً ، وقد يسمى الغسل نضحا .
وقال الحافظ العراقي :
وَقَوْلُهُ " إلَى حَصِيرٍ قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ " أُخِذَ مِنْهُ : أَنَّ الافْتِرَاشَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لِبَاسٌ . اهـ .
6 = المرأة لا تُصافّ الرجال بل تصف خلفهم ، ولو صلّى الرجل بزوجته فإنها تصفّ خلفه .
قال أنس رضي الله عنه : " وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا " .
قال الحافظ العراقي : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوْقِفَ الْمَرْأَةِ وَرَاءَ مَوْقِفِ الصَّبِيِّ ، وَلَمْ يُحْسِنْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ صَلاةَ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ صَحِيحَةٌ ، فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَيْسَتْ مِنْ صُوَرِ الْخِلافِ . اهـ .
7 = مسألة الاجتماع على النوافل .
قال الحافظ العراقي :
وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الاجْتِمَاعِ فِي النَّوَافِلِ خَلْفَ إمَامٍ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (23/132 ، 133 ) :
الاجتماع على الطاعات والعبادات نوعان :
أحدهما : سنة راتبة ، إما واجب وإما مستحب ، كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح ، فهذا سنة راتبة ينبغي المحافظة عليها والمداومة .
والثاني : ما ليس بسنة راتبة مثل الاجتماع لصلاة تطوع مثل قيام الليل ، أو على قراءة قرآن ، أو ذكر الله ، أو دعاء ، فهذا لا بأس به إذا لم يُتَّخَذ عادة راتبة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى التطوع في جماعة أحيانا ولم يُداوم عليه إلا ما ذُكِر ، وكان أصحابه إذا اجتمعوا أمَرُوا واحدا منهم أن يقرأ والباقي يستمعون ... فلو أن قوما اجتمعوا بعض الليالي على صلاة تطوّع من غير أن يتّخِذوا ذلك عادة راتبة تُشبِه السنة الراتبة لم يُكره لكن اتخاذه عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه لما فيه من تغيير الشريعة وتشبيه غير المشروع بالمشروع ، ولو ساغ ذلك لساغ أن يُعمل صلاة أخرى وقت الضحى ، أو بين الظهر والعصر ، أو تراويح فى شعبان ... اهـ .
8 = صحة صلاة من صافّ الصبي إذا كان مُميِّزاً .
قال الحافظ العراقي : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ صَلاةِ الصَّبِيِّ وَالاعْتِدَادِ بِهَا . اهـ .
9 = هل تُخاطَب النساء بتسوية الصفوف ؟
الجواب : نعم
وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : خير صفوف الرجال أولها ، وشرّها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها ، وشرّها أولها . رواه مسلم .
وهذا الْحُكم – والله أعلم – باقٍ ، وإن وُجِدت السّتُور ، أو كُـنّ في مُصَلَّيَات خاصة ، أعني كون خير صفوف النساء آخرها .
وقد رَمَل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطواف ، وأمَرَ أصحابه بذلك ليُروا المشركين من أنفسهم قوّة ، ومع ذلك فهو سُنة ، وإن ذهب سببه .
10 = الجمع بين الروايات التي أوردها المصنِّف رحمه الله
في الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بأنس رضي الله عنه وباليتيم ، والعجوز من خلفهم .
وفي الثانية : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِأنس رضي الله عنه وَبِأُمِّهِ فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ , وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا .
يُحتمل أن يكون حضور اليتيم متأخِّراً ، أو مطويّاً في الرواية الثانية ، أو أن القصة مُتعدِّدة .
11 = جواز قول : " العجوز " عن الجدّة ، إذا كان لمجرّد الوصف ، وعادة لا يُقال أمامها ولا وهي تسمع !
12 = وفي الحديث أن المرأة تصف مُنفردة خلف الصفّ وصلاتها صحيحة ، بخلاف الرجل إذا صلى مُنفرداً من غير عُذر ، لقوله عليه الصلاة والسلام : لا صلاة لفرد خلف الصف . رواه الإمام أحمد وغيره .
13 = قول المصنِّف : اليتيمُ : ضُميرة جدُّ حسين بن عبد اللهِ بن ضميرة .
قال ابن حجر : قال صاحب العمدة اليتيم هو ضميرة جد حسين بن عبد الله بن ضميرة . قال ابن الحذاء : كذا سماه عبد الملك بن حبيب ولم يذكره غيره ، وأظنه سمعه من حسين بن عبد الله ، أو من غيره من أهل المدينة قال : وضميرة هو بن أبي ضميرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ .
----------------------------- ([1]) يعني ابن عبد البر رحمه الله .
([2]) محمول على غير الفريضة ، كأن يحضر وقت صلاة الضحى ونحوها ، ولم يُعهد عنه عليه الصلاة والسلام التأخّر عن إمامة الناس ، ولما تأخّر عليه الصلاة والسلام مرة واحدة أهمّ ذلك أصحابه رضي الله عنهم .
|