شرح الحديث الـ 53 عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال : دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي فقال له أبي : حدّثنا كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ؟
فقال : كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس ، ويُصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية ، ونسيت ما قال في المغرب ، وكان يستحب أن يؤخِّر من العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها ، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ، ويقرأ بالستين إلى المائة .
في الحديث مسائل :
1 = لم يكن السؤال عن كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما عن أوقاتها ، وهذا ما فهمه الصحابي .
2 = حرص سلف الأمة على السؤال عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمر من أمورهم ، وفي كل شأن من شؤونهم .
وحرصهم على اصطحاب أبنائهم إلى مجالس العلم ، ولو لم يكن في ذلك إلا تعظيم العِلم في نفوس الأبناء ، وصِلتهم بالعلماء لكفى .
كما أن الرجل إذا اصطحب ابنه – صغيرا كان أو كبيرا – كان ذلك أدعى لتوقير العِلم والعلماء ، والنظر إلى العلماء على أنهم هم القدوات في زمن غابت – أو غُيِّبت – فيه القدوات الصلحة ، وأصبح – في كثير من الأحيان – القدوات هم حثالة المجتمعات من أهل الفن أو الرياضة ، والله المستعان .
3 = قوله " المكتوبة " يعني الصلاة المفروضة ، لقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) .
4 = من الأحاديث التي جاء فيها تحديد الأوقات بِدقّـة
ما رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة ، فقال له : صلِّ معنا هذين - يعني اليومين - فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذّن ثم أمره فأقام الظهر ، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعةٌ بيضاءُ نقيةٌ ، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس ، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر ، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر ، فأبرد بها فأنعم أن يُبرد بها ، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخّرها فوق الذي كان ، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق ، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل ، وصلى الفجر فأسفر بها ، ثم قال : أين السائل عن وقت الصلاة ؟ فقال الرجل : أنا يا رسول الله . قال : وقت صلاتكم بين ما رأيتم .
وفي رواية لمسلم : ثم أمره الغد فنوّر بالصبح ، ثم أمره بالظهر فأبرد ، ثم أمره بالعصر والشمس بيضاء نقية لم تخالطها صُفرة ، ثم أمره بالمغرب قبل أن يقع الشفق ، ثم أمره بالعشاء عند ذهاب ثلث الليل أو بعضه .
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر ، ووقت العصر ما لم تصفّر الشمس ، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق ، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط ، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس ، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمّنِي جبريل عليه السلام عند البيت مرتين ، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك ، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله ، وصلى بي - يعني المغرب - حين أفطر الصائم ، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق ، وصلى بي الفجر حين حَرُم الطعام والشراب على الصائم ، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله ، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه ، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم ، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل ، وصلى بي الفجر فأسفر ، ثم التفت إليّ فقال : يا محمد هذا وقت لأنبياء من قبلك ، والوقت ما بين هذين الوقتين . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
5 = قوله " حين تدحض الشمس "
يعني حين تزول الشمس عن كبد السماء .
قال ابن الأثير : كأنها دحضت أي زلقت . اهـ .
وقد قال عُقبة بن عامر رضي الله عنه : ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب . رواه مسلم .
أي حتى تميل جهة المغرب ، فيبدأ الظل بالتغيّر ، وهو ما يُسمّى بـ " الفـيء " .
وإذا أردت معرفة الزوال فاحسب من طلوع الشمس إلى غروبها ثم اقسمه على 2 ، فصلاة الظهر في منتصف النهار صيفا وشتاء .
وما قبل وقت صلاة الظهر بعشر دقائق تقريبا هو وقت نهي ، والسبب في ذلك أنه وقت تُسجر فيه النار .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْت : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلاةِ ؟ قَال : صَلِّ صَلاةَ الصُّبْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ، ثُمَّ صَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ . الحديث .
فهذا الحديث دلّ على بداية وقت الظهر ، وهو من حين يُقبل الفيء ، أي يبدأ بالتغيّر جهة الشرق .
كما دلّ هاذا لحديث على أنه لا وقت بين صلاة الظهر وصلاة العصر ، لقوله " فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ " .
فبداية وقت صلاة الظهر هو زوال الشمس عن كبد السماء .
ونهاية وقت صلاة الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله .
وهذا يختلف صيفا وشتاء .
وقياس الظل يُعتبر بما كان عند الزوال ، أي أن ما بقي من ظل العصا – مثلا - عند الزوال يُضاف إلى قياس الظل لمعرفة المثلية هنا .
وتقدّم في حديث عبد الله بن عمرو " وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر " .
6 = ووقت صلاة العصر ، من أن يصير ظل كل شيء مثله إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه ، هذا وقت اختيار
وإذا صار ظل كل شيء مثليه بدأت الشمس بالاصفرار .
ومن الاصفرار إلى غروب الشمس وقت اضطرار ، لقوله عليه الصلاة والسلام : من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر . رواه البخاري ومسلم .
ولا تعارض بين هذا الحديث وبين حديث عبد الله بن عمرو المتقدِّم .
فحديث عبد الله بن عمرو فيه " ووقت العصر ما لم تصفّر الشمس " وفي هذا الحديث بيان أن " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " وهذا كما سبق وقت اضطرار لا وقت اختيار .
فمن نام حتى بقي من الوقت ما يكفي للطهارة ولصلاة ركعة فإنه يؤمر بالصلاة ، ويكون مُدرِكا للوقت .
ولكنه ليس وقت اختيار بحيث تؤخّر الصلاة حتى تصفّر الشمس ، فإن هذا من إماتة الصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر : كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخِّرون الصلاة عن وقتها ، أو يميتون الصلاة عن وقتها ؟ قال : قلت : فما تأمرني ؟ قال : صل الصلاة لوقتها ، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة . رواه مسلم .
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال : إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى ، فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك فصلوا الصلاة لميقاتها ، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة .
قال النووي : معناه يؤخرونها عن وقتها المختار ، وهو أول وقتها لا عن جميع وقتها . وقوله " يخنُقونها " بضم النون معناه : يُضيِّقون وقتها ويؤخِّرون أداءها ، يُقال : هُم في خناق من كذا ، أي في ضيق ، والمختنق المضيّق . و" شَرَق الموتى " بفتح الشين والراء ، قال ابن الاعرابي : فيه معنيان :
أحدهما : أن الشمس في ذلك الوقت وهو آخر النهار إنما تبقى ساعة ثم تغيب .
والثاني : أنه من قولهم شرق الميت بريقه إذا لم يبق بعده إلا يسيرا ثم يموت . اهـ .
7 = كان من هديه صلى الله عليه وسلم تعجيل العصر في أول وقتها .
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنا نصلي العصر ، ثم يذهب الذاهب مِنّا إلى قباء ، فيأتيهم والشمس مرتفعة .
وفي رواية في الصحيحين قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي العصر والشمس مرتفعة حية ، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة ، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه .
قال العراقي : وفيه استحباب تقديم صلاة العصر في أول وقتها .
وقال : فيه الردّ على من قال : لا يدخل وقت العصر إلا بصيرورة ظل الشيء مثليه ، فإنه لو كان كذلك لما وصل المصلِّي بالمدينة إلى قُباء إلا بعد نزول الشمس . اهـ .
ومعنى " حيَّـة " أي لم تصفرّ .
8 = أما المغرب فقد سبق بيان وقتها في الحديث السابق .
وتبين فيما أوردته من أحاديث أن وقتها موسّع ، وهو من مغيب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يُصلّون قبل صلاة المغرب .
ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنا بالمدينة فإذا أذّن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فيركعون ركعتين ركعتين ، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صُليت من كثرة من يصليهما .
وقال عليه الصلاة والسلام : بين كل أذانين صلاة . رواه البخاري ومسلم . أي بين الأذان والإقامة .
وهذا يعني وجود وقت يسير بين غروب الشمس وبين إقامة صلاة المغرب .
9 = قوله " وكان يستحب أن يؤخِّر من العشاء التي تدعونها العتمة "
لماذا قال : التي تدعونها العَتَمـة ؟
قد جاء النهي عن تسمية العشاء بـ " العَتَمة " في قوله صلى الله عليه وسلم : لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ، ألا إنها العشاء ، وهم يُعتمون بالإبل . رواه مسلم .
والذي يظهر أن النهي للكراهة لورود ذلك عن بعض السلف ، أي تسمية العشاء بالعتمة .
10 = ليس في الحديث بيان لوقت العشاء ، ووقتها من مغيب الشفق الأحمر إلى منتصف الليل .
وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو – وقد تقدّم – قوله صلى الله عليه وسلم :
ووقت صلاة المغرب ما لم يَغِب الشفق ، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط .
ومعنى هذا أن وقت صلاة العشاء يبدأ من مغيب الشفق الأحمر ، وليس بين وقت المغرب والعشاء وقت فاصل
بمعنى أن وقت المغرب يخرج ويدخل وقت العشاء .
قالت عائشة رضي الله عنها : أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشاء حتى ناداه عمر : الصلاة ! نام النساء والصبيان ، فخرج فقال : ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم . قال : ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول . رواه البخاري .
11 = قوله : " وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها "
يكره النوم قبل صلاة العشاء لأنه مظِنّـة تضييع صلاة العشاء ، فإن من كان يعمل في النهار إذا نام بعد المغرب فاتته العشاء .
ويكره الكلام بعدها لأنه من السهر ! والله المستعان ، أصبح في هذا الزمان الذي لا يسهر يُستغرب حاله !
قال ابن الملقِّن : وكرِه الحديث بعدها أي بعد فعلها ، إما لخشية أن ينام عن صلاة الصبح بسبب سهره أول الليل ، وإما لخشية الوقوع في اللغط اللغو ، وما لا ينبغي أن يَختم به اليقظة ، وهذا العموم يُستثنى منه إذا كان في خير ، كمذاكرة العِلم ونحوه .
وقال : سبب الكراهة بعدها أن الصلاة قد كفّرت خطاياه فينام على سلامة ، وقد خُتِم كتاب صحيفته بالعبادة . اهـ .
12 = قوله : " وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ، ويقرأ بالستين إلى المائة "
هل هناك تعارض بين هذا الحديث وبين حديث عائشة " لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي الفجر ، فيشهدُ معه نساءٌ من المؤمنات متلفعاتٌ بِمُرُوطِهنّ ، ثم يرجعن إلى بيوتهن ، ما يَعرفُهُنّ أحدٌ من الغَلَسِ " ؟
الجواب : لا يوجد تعارض بين الحديثين ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بغلس ، فإذا أطال القراءة انصرفوا والرجل يعرف جليسه ، وإذا لم يُطِل القراءة انصرفوا ولا يعرف أحد الآخر من الغلس .
وأجاب ابن الملقن عن ذلك بقوله :
هذا إخبار عن رؤية جليسِه ، وذلك إخبار عن رؤية النساء مِن بُـعـد . اهـ .
ومعنى ينفتل أي ينصرف .
وسيأتي ما يتعلق بالقراءة طولا وقِصرا في أوانه – إن شاء الله – .
والله تعالى أعلى وأعلم .
|