شرح الحديث الـ 51 عن عائشة رضي الله عنها قالت : لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي الفجر ، فيشهدُ معه نساءٌ من المؤمنات متلفعاتٌ بِمُرُوطِهنّ ، ثم يرجعن إلى بيوتهن ، ما يَعرفُهُنّ أحدٌ من الغَلَسِ .
قال : المروط : أكسية مُعلّمة تكون من خـزٍّ ، وتكون من صوف .
ومتلفعات : متلحفات .
والغلس : اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل .
في الحديث مسائل :
1 = أقرب الروايات إلى ما ذكره المصنف رواية البخاري في كتاب الصلاة .
ومن روايات الحديث ما جاء عند مسلم : لقد كان نساء من المؤمنات يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن ، ثم ينقلبن إلى بيوتهن وما يعرفن من تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة .
2 = المصنف رحمه الله أورد هذا الحديث في كتاب المواقيت ، ليُدلل على وقت الفجر ، وأن اختياره رحمه الله أنها تُصلّى بغلَس ، أي يُبادر بها قبل الإسفار ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله في هذا الحديث والذي يليه .
3 = جواز حضور النساء صلاة الفجر في غير مفسدة ، أما إذا وُجدت المفسدة أو خُشي منها فيُمنعن ، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله في حديث عبد الله بن عمر ، وهو الحديث الـ 65
4 = قولها رضي الله عنها : " نساء من المؤمنات " أي من النساء المؤمنات .
ومعنى هذا : النساء المتّصفات بالإيمان .
وهذا فيما يظهر لنا ، وأما السرائر فنكِلُها إلى الله عز وجل .
وفي رواية للبخاري : كُـنّ نساء المؤمنات ..
وفي رواية له : فينصرف النساء ..
هكذا " النساء " دون وصف .
وفي رواية لمسلم : أن نساء المؤمنات ..
قال ابن الملقن رحمه الله : وقولها : " من المؤمنات " يُحتمل أنه بيان لنوعهن ليخرج بذلك المنافقات ، وهو الأقرب .
4 = عِظم وأهمية صلاة الفجر عند سلف هذه الأمة ، وأن من حضرها فهو علامة إيمان ، ومن تخلّف عنها فهو علامة نفاق .
وتفصيل ذلك – إن شاء الله – في شرح حديث أبي هريرة ، وهو الحديث الـ 64
5 = متلفّعات
والتلفّع هو الالتحاف مع تغطية الرأس .
جاء في رواية لمسلم : متلففات .
وهذا يعني الحرص على التستر حتى في حال الخروج للصلاة وفي الظلام أيضا .
فخروج المرأة إلى السوق أو إلى مواطن الفتن أولى بالتّستّر والاحتشام والحياء والعفاف .
6 = المروط جمع مِرط بكسر الميم .
وقد فسّرها المصنف رحمه الله بأنها : أكسية مُعلّمة تكون من خـزٍّ ، وتكون من صوف .
والخـزّ هو الحرير .
7 = ليس في الحديث ما يدلّ على جواز كشف المرأة لوجها ، إذ يُرد المتشابه إلى المحكم .
وقد تضافرت أدلة الوحيين على وجوب تغطية المرأة لوجهها .
وأما الأحاديث التي قد يُفهم منها كشف الوجه كهذا الحديث فليست صريحة في الدلالة .
وغاية ما في هذا الحديث نفي المعرفة ، وهو محتمل لوجوه :
إما نفي معرفة أعيانهن من قِبل النساء أنفسهن .
أو أنه قبل نزول الحجاب ، كما قاله الباجي ، فيما نقله عنه ابن الملقّن .
ثم إن مِن عادة النساء في ذلك الزمن أنهن ينصرفن قبل الرجال
قالت أم سلمة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث هو في مقامه يسيرا قبل أن يقوم . قالت : نرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال . رواه البخاري .
بمعنى أنهن لو كشفن وجوههن مع الغلس وانصرافهن قبل الرجال لم يكن فيه من حرج ، كما أنه ليس فيه مستمسك للقول بجواز كشف المرأة لوجهها بحضرة الرجال الأجانب .
8 = الغَـلَـس : فسّره المصنف رحمه الله بأنه : اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل .
أي أنه عليه الصلاة والسلام كان يُصلي صلاة الصبح قبل أن يُسفر بالنهار .
9 = هل الأفضل أن تُصلى صلاة الفجر في حال التغليس أو في حال الإسفار ؟
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
هل التغليس أفضل أم الأسفار ؟
فأجاب :
الحمد لله بل التغليس أفضل إذا لم يكن ثمّ سبب يقتضى التأخير ، فإن الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه كان يغلِّس بصلاة الفجر كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : لقد كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في مسجده قناديل ، كما في الصحيحين عن أبى برزة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بما بين الستين آية إلى المائة ، وينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه ، وهذه القراءة هي نحو نصف جزء أو ثلث جزء ، وكان فراغه من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه ، وهكذا في الصحيح من غير هذا الوجه أنه كان يغلِّس بالفجر ، وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده اهـ .
10 = كيف يُجمع بين فعله هنا عليه الصلاة والسلام وبين قوله عليه الصلاة والسلام : أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر . كما عند الترمذي والنسائي ؟
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قوله : " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " .
فأجاب :
أما قوله " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " فإنه حديث صحيح لكن قد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغلّس بالفجر حتى كانت تنصرف نساء المؤمنات متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس ، فلهذا فسروا ذلك الحديث بوجهين :
أحدهما : أنه أراد الأسفار بالخروج منها ، أي أطيلوا القراءة حتى تخرجوا منها مسفرين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بالستين آية إلى مائة آية ، نحو نصف حزب .
والوجه الثاني : أنه أراد أن يتبين الفجر ويظهر فلا يُصلّى مع غلبة الظن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى بعد التبيّن إلا يوم مزدلفة فإنه قدّمها ذلك اليوم على عادته ، والله أعلم . اهـ .
وقال ابن القيم رحمه الله : المثال الثالث والستون :
ردّ السنة المحكمة الصريحة في تعجيل الفجر وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بالستين إلى المائة ثم ينصرف منها والنساء لا يُعرفن من الغلس ، وأن صلاته كانت التغليس حتى توفاه الله ، وأنه إنما أسفر بها مرة واحدة ، وكان بين سحوره وصلاته قدر خمسين آية ، فردّ ذلك بمجمل حديث رافع بن خديج : " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار بها دواما لا ابتداء ، فيدخل فيها مُغلِّسا ويخرج منها مسفرا ، كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم ، فقوله موافق لفعله لا مناقض له ، وكيف يُظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه ؟ اهـ .
ويبيّن هذا حديث أنس رضي الله عنه في ذكر المواقيت – وفيه - : والصبح إذا طلع الفجر إلى أن ينفسح البصر رواه الإمام أحمد والنسائي .
وهذا يعني التبكير بصلاة الفجر وإطالة القراءة فيها ، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم رحمه الله .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين : صلاة المغرب والعشاء بِجَمْع ، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها .
وهذا يعني المبادرة لا أنه صلاها فعلا قبل دخول الوقت ، وذلك من أجل أن يتفرّغ لذكر الله .
وعند أبي داود ما يُفيد أنه عليه الصلاة والسلام كان يُغلّس بالصلاة حتى مات .
ثم إن حديث الباب يُفيد أنه صلى الله عليه وسلم كان يُصلّي صلاة الفجر بغلس .
وقد بوّب عليه الإمام النووي رحمه الله فقال :
باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها وهو التغليس وبيان قدر القراءة فيها .
وبوّب على حديث ابن مسعود المتقدّم بـ :
باب استحباب زيادة التغليس بصلاة الصبح يوم النحر بالمزدلفة والمبالغة فيه بعد تحقق طلوع الفجر
ومذهب الجمهور على أن التغليس بصلاة الصبح أفضل .
وينبغي التنبّه إلى أن الكلام هنا عن الأفضل ، وليس عن الوجوب .
فلو أسفر إمام بالفجر لم يُنكر عليه .
روى الإمام مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر الصديق صلى الصبح فقرأ فيها سورة البقرة في الركعتين كلتيهما .
وعن أنس رضي الله عنه قال : صلى بنا أبو بكر صلاة الصبح فقرأ ( آل عمران ) فقالوا : كادت الشمس تطلع قال : لو طلعت لم تجدنا غافلين . رواه عبد الرزاق والبيهقي في الكبرى .
وهذه القراءة الطويلة يترتّب عليها الإسفار بل ربما الإسفار جدا في الخروج من صلاة الصبح .
|