الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلّى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد: فلقد أرسل الله محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه – عليه رحمةً للعالمين ورسولاً للبشرية جمعاء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أرسله بأكمل دين وأجمع أمر وأيسره، أرسله ليبين للناس ما كُلّفوا به من لدن الله – جلَّ جلاله -، وما سيجزون به على فعل تلكم التكاليف برغبة وطواعية من ثواب مضاعف وأجر في العاجل والآجل, ومنذراً لهم ما يترتب على ترك ما كلّفوا به من إثم وعقاب وعذاب, قال سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
وإن من تلكم التكاليف التي وُعد المسلم على تحقيقها المثوبة الحسنة والأجر المضاعف, مشروعية أداء الصلوات المكتوبة في جماعة، لواجد الجماعة وقادر على ذلك بقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238]. (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) [البينة:5]. وتمام المحافظة التي أمر الله بها وكمال الإقامة التي يريدها الله لا يحصلان إلاَّ بأداء الصلوات في جماعة، لقوله تعالى: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة:43] ولفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الخوف, ولقوله لابن أم مكتوم لما قال له: "يا رسول الله إني رجل أعمى, والمدينة كثيرة الهوام والسِّباع, وليس لي قائد يقودني إلى المساجد" فقال له – صلى الله عليه وسلم -: "هل تسمع النداء؟" قال: نعم. قال: "فأجب". وفي لفظ آخر: "لا أجد لك رخصة". وقوله -صلى الله عليه وسلم – فيما رواه البخاري ومسلم "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصَّلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم النَّاس، ثم أُخالف إلى رجال لا يشهَدُون الصَّلاة فأحْرق عليهم بيوتهم" وفي رواية أحمد: "لولا ما في البيوت من النساءِ والصبيان لأحْرقتها عليهم" ويقول شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله-: "اتفَق العلمَاء على أَن صلاة الجماعة من أوكد العبادات, وأجلّ الطاعات وأَعظم شعائر الإسلام".
فاتَّقوا الله -أيُّها المسلمون- وأَدوا صلاتكم في جماعة فإنَّ أداءها في جماعة –بجانب كونه طاعة ورضىً لله- عمارة لبيوت الله التي أمر أن تُرفع ويذكر فيها اسمه، وإقامة وإظهاراً لشعيرة إسلامية عظمى، شعيرة بها يفقد المسلمون المريض فيزورونه، ويعرفون المنافق بتخلفه فيحذرونه، فيتجدد بها تعارفهم وولاؤهم بلقائهم في بيت من بيوت الله وعلى بساط طاعة الله – سبحانه وتعالى -، بها يصان المسلم من أن يتردى في مهاوي الضلال, أو أن يستحوذ عليه الشيطان فهي أمان وضمان بإذن ربها. روى مسلم وأبو داود عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: "من سرّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهنَّ، فإنَّ الله شرع لنبيكم – صلى الله عليه وسلم – سنن الهدى, وإنهن من سنن الهدى, ولو أنَّكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنَّة نبيِّكم، ولو تركتم سنَّة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلاَّ كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة, ويرفع بها درجة ويُحطّ عنه بها سيّئة، ولقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلا مُنافق معلوم النِّفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى بها يَتهادى بين الرَّجُلَين حتى يُقام في الصفّ".
وروى أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما مِن ثلاثة في قرية أو بدو لا تُقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة, فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
فاتَّقوا الله -أيُّها المسلمون- بأداء الصلوات المكتوبة في جماعة, فإن ذلكم واجب وفضيلة لا يُفرِّط فيها إلا محروم، نعم فضيلة، وأعظِمْ بها من فضيلة، فيها تُكفَّر السيِّئات وتُرْفع الدرجات وتُضاعف الحسنات. بها يعمر المُصلِّي بيوت الله ويَفِد إلى الله في كل يوم خمس مرات ولا غرو، فمن وفد إلى بيت من بيوت الله إخلاصاً لله ومتابعة لرسوله، فقد وفد على الله، وحقٌّ لوافدٍ على الله أن يُكَرم. روى الطبراني في الكبير عن سلمان بإسنادين أحدهما جيّد، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من توضَّأ في بيته فأحسن الوضوء ثمَّ أتى المسجد, فهو زائرٌ لله وحقٌّ على المزور أن يُكرم الزائر" ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مالك ومسلم عن أبي هريرة: "ألا أدُلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدّرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" ويقول فيما رواه أحمد عن ابن عمر: "من راح إلى مسجد الجماعة, فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب حسنة ذاهباً وآيباً" ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر -رضي الله عنه-: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين ضعفاً".
أقول قولي هذا وأسأل الله – تعالى -أن يجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، وأن يغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، إنَّه غفور رحيم.
في الخطبة الثانية:
أيها الإخوة في الله: لنتذكر أن واجب صلاة الجماعة يبدأ بتكبيرة الإمام تكبيرة الإحرام, فمنذ ينقطع صوته بقول الله أكبر يبدأ وجوب المتابعة له ويبدأ –والله أعلم- احتساب الفضل والأخذ في إدراك الجماعة إدراكاً كاملاً, ويبدأ احتساب الإثم في حق قادر تخلف عن جزء منها عمداً. قال عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد" والحديث متفق عليه.
والمقصود في قوله صلى الله عليه وسلم لا تختلفوا عليه في الأمور الظاهرة من قيام وقعود ومتابعة، ومن ذلك ضرورة التكبير ومباشرته بعده لا في الأمور الباطنة، فقد جاءت سنته المطهرة بمشروعية ائتمام المقيم بالمسافر ويتم بعده والمسافر بالمقيم ويتم معه والمفترض بالمتنفل والمتنفل بالمفترض, وأن من ظواهر التقصير في أداء هذا الواجب ما يرى من تخلف كثير من المصلين عن الحضور إلى مكان الجماعة لحين ما بعد الإقامة, فكثيراً ما ترى الإمام يبدأ بعدد قليل ولا يكاد يكبر تكبيرة الركوع حتى يتضاعف العدد أضعافاً كثيرة من أناس تأخر مجيئهم عن الإقامة, ولا شك في أن فعل هذا عمداً تقصير يفوت أجراً ويرتب وزراً, يفوت أجر الجزء الذي تركه عمداً في الأول صلاة الجماعة، ويرتب وزر تفويته عمداً. فمن المعلوم المسلَّم به عند العلماء -رحمهم الله- أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فعلى فرض أن مسافة الطريق تحتاج ممن تجب عليه الجماعة بضع دقائق، فإذا لم يبق على الإقامة من الزمن إلا بمقدار تلك الدقائق تعين عليه المشي, أو كان يحتاج مثلاً إلى وضوء يستغرق بضع دقائق ولم يبق على الإقامة من الزمن إلا بمقدار تلك الدقائق, تعين عليه الشروع في الوضوء، وهكذا ليلحق بصلاة الجماعة في أولها.
وبجانب ما في هذا التقصير وهذا العمل من تفويت أجر وربما ترتب وزر, فهو يؤثر كثيراً وكثيراً على ما يطلب في الصلاة من خشوع وتذلل وتأمل وتدبر, لما يلفظه المسلم فيها أو يسمعه من قراءة أو تسبيح أو دعاء، فلقد شرع قبلها ما يهيء لذلك لا ما يطارده أو يضعفه, شرع قبلها الوضوء المعروف بإنعاشه للنفس, شرع قبلها أدعية عند الخروج من البيت إلى المسجد وعند دخول المسجد، شرع قبلها صلوات نافلة لتهيء للفريضة كركعتي الفجر والصلاة قبل الظهر، وقوله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة" أي بين الأذان والإقامة, شرع أن يأتيها المسلم بسكينة ووقار لا بغلبة وجلبة يضايق فيها النفس النفس، شرع ألا يأتيها بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان.
هذه الأمور –أيها الأخوة- شرعت بين يدي الصلاة وفي الصلاة، وخاصة صلاة الجماعة ذات الفضل العظيم ليتهيأ المسلم في صلاته لمناجاته لربه والوقوف بين يديه كأنه يراه, ففي الحديث الصحيح: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وفيه: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وفيه: "إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه مناجي ربه" الحديث.
فبربكم -أيها الإخوة الراجون الحصول على أجر صلاة الجماعة- رجل تأخر عمداً حتى أقيمت الصلاة وجاء يركض بنفس قد ضايقها وشغلها عن مهمتها النفس, وفوتت كثيراً مما يشرع الإتيان به قبل ذلك, هل ستنصرف بأجر صلاة الجماعة المطلوب الواردة فيها الأحاديث الكثيرة هل وهل.؟ رحماك يا رب ومغفرتك وفضلك وجودك أنت أهل التقوى وأهل المغفرة. وما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة" فهو في حق من لم يتعمد, أما من تعمد فله أجر ما أدرك وعليه وزر ما فوت.
فاتّقوا الله عباد الله، واطلبوا الفضل بموجبه لا بالتحايل عليه.
الشيخ : عبدالله بن حسن القعود