الخطبة الأولى:
إن دين الإسلام الذي أكرم الله به هذه الأمة، وأتمه لها، ورضية لها دينا، ورتب عليه من حسن الجزاء، وعظيم المثوبة ما تتمناه، الأنفس، وتلذ به الأعين.
هذا الدين قد بني على أسس وقواعد متينة، لا ينجو من بلغته من اليم العقاب، وشدة العذاب، ويحظى بما يترتب على الإتيان بها من عزة واحترام في الدنيا، ولذة وسيادة في الآخرة، لا ينال المسلم هذه الأمور، حتى يأتي بهذه الأسس والقواعد موفورة كاملة.
ومن بين هذه الأسس التي بنى عليها الإسلام: الصلاة.
الصلاة التي هي عمود هذا الدين، وأهم أركانه بعد الشهادتين.
الصلاة التي ملأت فضائلها أسماع العالمين بما أعد للمحافظين عليها، قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة في أثر صلاة لا لغو بينهما، كتاب في عليين"[أبو داود بإسناد حسن].
وقال عليه الصلاة والسلام: "الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر"[الطبراني في الأوسط، حسن].
وقال مرة عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه: "أكثر من السجود، فإنه ليس من مسلم يسجد لله -تعالى- سجدة إلا رفعه الله بها درجة في الجنة، وحط عن بها خطيئة"[أحمد، صحيح].
بكل سجدة ترفع درجة في الجنة، ويحط عنك بها خطيئة، وما بين الدرجة والدرجة في الجنة كما بين السماء والأرض، بل إن من فضائل هذه الصلاة، ما قاله عليه الصلاة والسلام: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها"[الإمام أحمد، صحيح].
صلاة الفجر والعصر.
أيها الإخوة المؤمنون: وكثير من الناس لا يلقون لفضل الصلاة بالاً ولو لركعتين، مر مرّةعليه الصلاة والسلام، على قبر دفن صاحبه حديثاً، فقال لأصحابه: "ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون، يزيدهما هذا في عمله، وأشارعليه الصلاة والسلام إلى صاحب القبر، أحب إليه من بقية دنياكم"[رواه الطبراني في الأوسط، السند صحيح].
نعم -أيها الإخوة المؤمنون- إن بعض الموتى يودون لو يخرجوا من قبورهم فيصلوا ركعتين، فإنهم يرون أنها خير من الدنيا وما فيها، فهل يتعظ بهذا متعظ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا قام يصلي أتى بذنوبه كلها، فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه"[الطبراني، صحيح].
بكل ركوع وسجود تتهاوى وتتساقط آثامك، وجرائرك العظيمة، أمام معاول: (وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ)[البقرة: 238].
وقد ورد الأمر بالمحافظة على صلاة الجماعة، وإبداء هذه الصلاة المكتوبة في المساجد، قال تعالى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ)[البقرة: 238].
وقال: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)[البينة: 5].
وتمام المحافظة التي أمر الله بها، وكمال الإقامة التي يريدها الله، لا يحصلان إلا بأداء الصلوات في جماعة؛ لقوله تعالى: (وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ)[البقرة: 43].
أيها الإخوة المؤمنون: إن الأحاديث والآيات التي فيها إيجاب صلاة الجماعة على المؤمن كثيرة، وتلك التي فيها الترهيب من ترك الجماعة كذلك؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة، فاحرق عليهم بيوتهم"[رواه البخاري ومسلم].
وعند أحمد بلفظ: "لولا ما في البيوت من النساء والصبيان لأحرقتها عليهم".
لو كان عليه الصلاة والسلام حيا لهم بإحراق مدن ومجتمعات كثيرة، لا يعرف أهلها المحافظة على صلاة الجماعة، ولا يشهدونها مع المسلمين.
فجلجلة الأذان بكل حي *** ولكن أين صوت من بلال؟
منابركم علت في كل ساح *** ومسجدكم من العباد خالي
أيها الإخوة المؤمنون: وإذا كانت الصلاة بهذه المنـزلة، من أهمية الحفاظ عليها في جماعة، والترهيب من تركها، وعدم شهودها، حتى قال شيخ الإسلام:"اتفق العلماء على أن صلاة الجماعة من أؤكد العبادات، وأجل الطاعات، وأعظم شعائر الإسلام".
وإذا كانت هكذا، فلماذا تكون أحوال الكثير من المسلمين على عدم الاكتراث بها، وعدم رؤية أهميتها، والمحافظة عليها؟
إن الإجابة على مثل هذا التساؤل تكمن في عدة أمور:
الأمر الأول: تعظيم الشعيرة، وتعظيم أمر الله -سبحانه وتعالى-.
والثاني: معرفة فضائل صلاة الجماعة، وماذا يجني العبد من حضوره للمسجد؟.
والأمر الثالث: معرفة الوعيد الشديد المترتب على التهاون بها، والتكاسل عنها، وقد تعود الكثيرون على إسماع التهديد والترهيب من تركها، ونحو ذلك، إلا أن هناك أموراً يغفل عنها المسلم في التلفت إليها، وإعطائها حقها.
ولما كان هذا الخلل حاصلاً في الصلاة، والنظرة إليها، فإن البعض لا يحافظ عليها.
إن نظرة التعظيم والتسليم والانقياد لأوامر الله -عز وجل- خافتة بعض الشيء في نفوس المسلمين، ولو تغيرت هذه النظرة لتغير كثير من أحوالهم، فهذه الصلاة مثلاً لأهميتها وعظمها، فإنها تعد من أركان الدين الخمسة، ثم إن كل العبادات قد نزل الوحي بها على رسول رب العالمين على وجه الأرض هنا في مكة والمدينة، وما حولهما.
أما الصلاة، فقد شرعت في السماء عندما عرج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه حتى انتهى إلى سدرت المنتهى، وسمع هنالك صرير الأقلام التي تكتب مقادير الخلائق، ثم تأمل أنها فيصل وبرزخ بين الكفر والإيمان، فمن أداها وحافظ عليها كان هو المؤمن، ومن تركها وتهاون بها كان هو الكافر: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
وإذا تم تعظيم الصلاة في قلب المؤمن، وأنزلها منزلتها التي تستحقها فإنه لا يمكن أن يفرط فيها، ويتهاون بها، بل تحصل له تقوى القلب، وطمأنينة، التي ينشهدها المؤمن: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحـج: 32].
قال الإمام ابن القيم: "والله -تعالى- قد ذم من لا يعظمه، ولا يعظم أمره ونهيه، ومن جملة ذلك صلاة الجماعة".
قال تعالى: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[نوح: 13].
قالوا في تفسيرها: مالكم لا ترجون لله عظمة؟!َ
ومن علامة التعظيم للصلاة: أن يراعى وقتها وحدودها وأركانها، والحرص على تحسين أدائها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة –والأسف- عند فوت حق من حقوقها، فكيف إذا فاتت بالكلية؟ كمن يحزن على فوت صلاة الجماعة، ويعلم أنه لو تقبلت منه صلاته منفرداً إلا أنه قد فاته سبع وعشرون ضعفاً، لو أن رجلاً يعاني البيع والشراء يفوته في صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة سبعة وعشرون ديناراً لأكل يديه ندماً وأسفاً، فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف، وألف ألف وما شاء الله -تعالى-؟!.
أيها الإخوة المؤمنون:لما وقر تعظيم الصلاة، وأمر الله في قلوب الصحابة، هانت إمامهم كل الصعاب، في سبيل المحافظة على صلاة الجماعة، من بعيدة بيوتهم عن المسجد النبوي، فيأتون يسعون إليه، يمرضون فيؤتي بهم، يهادى الرجل منهم بين الرجلين حتى يقام في الصف، الأعمى منهم يسابق البصير على الصف الأول، وليس فيهم أعمى رضوان الله عليهم، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن -يعنى في المسجد- فإن الله شرع لنبيكم -صلى الله عليه وسلم- سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفع بها درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف".
وفي رواية: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان الرجل ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة"[رواه مسلم].
ولم يرخص عليه الصلاة والسلام للأعمى عن حضورها، والدليل ما روى مسلم عن أبى هريرة قال: "أتى ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يرافقني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: "هل تسمع النداء؟"قال: "نعم" قال: "لا أجد لك رخصة".
وفي رواية: "أتسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، فحي هلا؟".
وبوب العلماء على هذا الحديث بقولهم: "باب إقرار العميان بشهود صلاة الجماعة".
وقد اجتمع في ابن مكتوم ستة أعذار:
1- كونه ضرير البصر.
2- عدم وجود قائد يرافقه.
3- بعد داره عن المسجد.
4 – وجود نخل وشجر بينه وبين المسجد.
5- وجود الهوام والسباع الكثيرة بالمدينة.
6- كبر سنه ورق عظمه، مع هذا كله إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرخص له، ولهذا بوب عليه ابن المنذر بقوله: "ذكر إيجاب صلاة الجماعة على العميان، وإن بعدت منازلهم عن المسجد".
وهذا أبى بن كعب -رضي الله عنه- يقول: "كان رجل من الأنصار لا أعلم أحداً أبعد من المسجد منه، كانت لا تخطئة صلاة، فقيل له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، فقال: "ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، أنى أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي" فقال صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك منه: "قد جمع الله لك ذلك كله".
وفي رواية: أن أبياً -رضي الله عنه- لما رأى هذا الأنصاري يكابد المشاق حتى يأتي إلى صلاة الجماعة، قال أبي: "فتوجعت له، فقلت: يا فلان لو أنك اشتريت حماراً يقيك الرمضاء، وهوام الأرض؟ قال: "أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال أبي لما سمع ذلك منه: فحملت به حملاً، يعني إن استفظع هذه الكلمة من هذا الأنصاري، وعظمت في سمع أبى، فأتى أبي -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم- فاخبره، فدعى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الرجل الأنصاري، فقال الأنصاري: "رجوت أجر الأثر والممشى" فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لك ما احتسبت"[رواه مسلم].
بيته بعيد عن المسجد، وآفات في الطريق تعترضه في كل صلاة، ومع هذا يحافظ عليها، ويدأب في العمل لها.
عظم أمر الله في قلبه، فأحب الصلاة، فلما أحبها هان في سبيلها كل شيء، فماذا يقول المسلم اليوم الذي يحتج ببعد بيته عن المسجد؟
والمتأمل في أحوال الصحابة يجد عجباً في تعظيمهم للصلاة، كان تميم الداري إذا دخل وقت الصلاة قام إليها بالأشواق، قال رضي الله عنه: "ما دخل علي وقت صلاة من الصلوات إلا وأنا لها بالأشواق، يشتاق إلى الصلاة، وينتظر دخول وقتها، ونقلوا هذه السمات الإيمانية إلى التابعين، فكان الربيع بن خثيم يقاد به إلى الصلاة، وبه مرض الفالج، فقيل له: قد رخص لك، قال: إني أسمع: "حي على الصلاة" فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبواً".
أيها الإخوة المؤمنون:والعلاقة بين الاهتمام بصلاة الجماعة، والمحافظة عليها، وبين الخشوع فيها، وإحسانها فيها كبيرة جداً، فمن كان محافظاً على صلاة الجماعة مبكراً إليها، مسابقا إلى الصفوف الأولى منها كان على جانب كبير من الإقبال على الله، وانشراح الصدر فيها، والتنعم والتلذذ بها.
ومن كان متأخراً عنها، يقدم رجلاً ويؤخر الأخرى، كلما غدا أو راح إلى المسجد، فإنه على جانب كبير من الوسوسة فيها، وعدم التنعم بها.
وهذا أمر مجرب معروف، وسير الصالحين والطالحين تدل عليه.
صلى أبو زرعة الرازي عشرين سنة وفي محرابه كتابة، فسئل عن الكتابة في المحراب، فقال: "قد كرهه قوم ممن مضى" فقال السائلون له: هو ذا في محرابك، محرابك فيه كتابة؟ ما علمت بها؟ قال: سبحان الله، رجل يدخل على الله ويدري ما بين يديه بقي أن تعرف أن أبا زرعة الرازي لم تفته صلاة الجماعة عشرين سنة.
وقال أبو عبد الرحمن الأسدي: قلت لسعيد بن عبد العزيز ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة؟ فقال: يا ابن أخي وما سؤالك عن هذا؟ قلت: لعل الله أن ينفعني به، فقال: ما قمت إلى الصلاة إلا مثلت لي جهنم، وكان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى.
وسعيد بن المسيب لم تفته التكبيرة الأولى مدة خمسين سنة، وما نظر إلى قفا رجل منذ خمسين سنة، يعنى لمحافظته على الصف الأول.
وهذا كله؛ لأنهم عظموا الصلاة، وأدركوا منزلتها، بينما الكثيرون اليوم لم يدركوا منزلتها، ولم يتلقوا أمر الله بها بالتعظيم والتوقير.
وكان العلامة ابن خفيف به مرض الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل، ويحضر به إلى المسجد، فقيل له: لو خففت على نفسك؟ فاستعظم هذا الكلام منهم، الله يقول: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)[النساء: 28].
أو في حضور صلاة الجماعة مشقة لا يمكن أداؤها، ثم التفت إليهم وهو يعاني من مرضه، فقال: إذا سمعتم: "حي على الصلاة" ولم تروني في الصف، فاطلبوني في المقبرة…"[النـزهة 1181/3].
وأهل المحافظة على صلاة الجماعة هم أقرب الناس في يوم المزيد إلى ربهم -سبحانه وتعالى-، قال ابن القيم:
أو ما سمعت بشأنهم يوم المزيد *** وأنه شأن عظيم الشانِ
هو يوم جمعتنا ويوم زيارة الرحمن *** وقت صلاتنا وأذانِ
والسابقون إلى الصلاة هم الألى *** فازوا بذلك السبق بالإحسانِ
سبق بسبق والمؤخر ههنا *** متأخر في ذلك الميدانِ
من سبق إلى صلاة الجماعة كان سابقاً في ذلك اليوم، يوم المزيد لمقابلة ربه ورؤيته، ومن تأخر عن الجماعة تأخر في ذلك الميدان، والجزاء من جنس العمل.
والأقربون إلى الإمام فهم أولو *** الزلفى هناك فهنا هنا قربانِ
قرب بقرب والمباعد مثله *** بعد ببعد حكمة الديانِ
ولهم منابر لؤلؤ وزبرجد *** ومنابر الياقوت والعقيانِ
هذا وأدناهم وما فيهم دني *** من فوق ذاك المسك كالكثبانِ
وقد وردت بعض الآثار الدالة على أن قرب المؤمنين من ربهم يوم القيامة على حسب استباقهم إلى الصلاة، وشهودهم للجماعة، الجزاء من جنس العمل، فمن تقرب إلى ربه ومولاه وسارع في تنفيذ أوامره كان محظياً عنده في يوم تطاير الصحف، ووضع الموازين، أين أنت من هؤلاء؟! سبقوا وتأخرت، ونافسوا ولهوت، وتقدموا فأجلت.
نزلوا بمكة من قبائل نوفل *** ونزلت بالبيداء أبعد منـزلِ
وتقلبوا فرحين تحت ظلالهم *** وطرحت بالصحراء غير مظللِ
وسقوا من الصافي المعتق ربهم *** وسقيت دمعة والهٍ متململِ
يا قسمة قسمت ولم يعلم بها *** وقضية ثبتت لأمر الأولِ
هل فيك للملك المهمين نظرة *** فتزيل من داء البعاد المعضلِ؟
نفعني الله وإياكم بهدى كتابه، واتباع سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أقول قولي هذا …
الخطبة الثانية:
والحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة المؤمنون:إن فضائل صلاة الجماعة كثيرة وعديدة، وهي تبدأ من حين أن يهمّ الإنسان بالوضوء؛ عن أبى أمامة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " أَيُّمَا رَجُلٍ قَامَ إِلَى وَضُوئِهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ , ثُمَّ غَسَلَ كَفَّيْهِ , نَزَلَتْ خَطِيئَتُهُ مِنْ كَفَّيْهِ مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ , فَإِذَا مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ , نَزَلَتْ خَطِيئَتُهُ مِنْ لِسَانِهِ وَشَفَتَيْهِ مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ , فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ , نَزَلَتْ خَطِيئَتُهُ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ , مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ , فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ , وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ , سَلِمَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ هُوَ لَهُ , وَمِنْ كُلِّ خَطِيئَةٍ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " , قَالَ : " فَإِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ , رَفَعَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَتَهُ , وَإِنْ قَعَدَ قَعَدَ سَالِمًا "[رواه أحمد، بسند صحيح].
ثم إذا مشى إلى الجماعة كانت له كل خطوة حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.
عن عقبة بن عامر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا تطهر الرجل ثم أتى المسجد يرعى الصلاة، كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات".
وفي حديث أبى هريرة مرفوعاً بلفظ: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامداً إلى الصلاة، فإن في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة، وإن يكتب له بإحدى خطوتيه حسنة، ويمحى عنه بالأخرى سيئة، فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا يسع، فإن أعظمكم أجراً أبعدكم داراً"قالوا: لم يا أبا هريرة؟! قال: "من أجل كثرة الخطى".
لو استحضر المؤمن هذا الأجر، وأن له بكل خطوة عشر حسنات، وأنه لا يفرط في صلاة الجماعة، وهذا الأجر ليس فقط في الذهاب إلى المسجد، بل وحتى في العودة إلى البيت، قال صلى الله عليه وسلم: "من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدي، فرجل تكتب له حسنة، ورجل تحط عنه سيئة، حتى يرجع".
وعن جابر قال: "خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سليمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم: "بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد" قالوا: نعم يا رسول الله، قال: "يا بني سلمة دياركم، تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم".
وفي رواية: أنه قال لهم: "إن لكم بكل خطوة درجة".
بكل خطوة إلى صلاة الجماعة درجة.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً".
لأنه يمشي خطوات كثيرة، فتكفر عنه السيئات، وتورثه الحسنات، وقال عليه الصلاة والسلام: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح"[أحمد، صحيح].
هذه ليست إلا للمحافظين على الجماعة، وللخارج لصلاة الجماعة أجر الحاج المحرم، قال صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم"[أبو داود، حسن].
وفي حديث سلمان: "ثم أتى المسجد فهو زائر لله، وحق على المزور أن يكرم الزائر".
والمحافظ على الجماعة ضامن على الله، في حفظه ورعايته، قال عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة كلهم ضامنين على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم، فهو ضامن على الله، ومن خرج إلى المسجد، فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله، فهو ضامن على الله"[أبو داود، صحيح].
والفضائل في مجرد الحضور إلى المسجد كثيرة تغفر لها ذنوب المرء، فكيف إذا دخل في الصلاة مع إمامه، فههنا أبواب أخرى من الفضائل تفتح له؛ أن لم تكفر تلك عنه كفرت هذه عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى الصلاة مكتوبة، فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه"[أحمد، صحيح].
وقد كان بعض السلف شديد المحافظة على صلاة الجماعة، ولا تكاد أن تفوته صلاة فيها، فنزل به بعض الضيوف ذات يوم فانشغل عن صلاة الجماعة، ثم تنبه لصلاة الجماعة، فخرج يطلب الصلاة في مساجد البصرة، فإذا بالناس قد صلوا، فلما وجد الحال هكذا عاد إلى منـزله فصلى صلاة العشاء لوحده، ثم رقد فرأى في منامه أنه مع قوم راكبي أفراس، يقول: وأنا راكب على فرس ونحن نتجارى ونتسابق، وأفراسهم تسبق فرسي، فجعلت اضربه لألحقهم، فالتفت إلي آخرهم، فقال: لا تجهد فرسك، ولا تتعب نفسك، فلست بلاحقنا، قال: فقلت: ولم؟! قال: لأنا صلينا العشاء في جماعة.[النـزهة 2/847].
فاتته صلاة الجماعة مرة في عمره، فحصل له هذا فكيف بمن تفوته صلوات وصلوات؟!
أيها المعرض عنا *** إن إعراضك منا
لو أردناك جعلنا *** كل ما فيك يردنا
عباد اعرضوا عنا *** بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنهم فينا *** فهلا أحسنوا الظنا
فإن خانوا فما خنّا *** وإن عادوا فقد عدنا
وإن كانوا قد استغنوا *** فإنا عنهم أغنى
ومن الأمور التي ينبغي التفطن إليها في موضوع صلاة الجماعة: هو ما إذا فاتت المسلم الصلاة في الجماعة، وصلى الصلاة منفرداً في بيته، فإن كثيراً من العلماء يقولون: لا صلاة له، وهو بارد القلب، فارغ من هذه المصيبة، غير مرتاع لها.
وكذلك يقال: فيما إذا فاته أول الوقت أو الصف الأول، وكذلك فوت الخشوع فيها، وحضور القلب، فإن هذا من المصائب العظيمة، ومن الأمور التي ينبغي علينا أن نتنبه لها.
وذكر بعض أهل العلم: من أن واجب صلاة الجماعة يبدأ بتكبيرة الإمام تكبيرة الإحرام، فمنذ ينقطع صوته يقول: "الله اكبر" يبدأ وجوب المتابعة له، ويبدأ احتساب الفضل والأخذ في أدراك الجماعة إدراكاً كاملاً، ويبدأ احتساب الإثم في حق القادر المتخلف عن جزء منها عمداً، والدليل: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه".
والمقصود بقوله: "لا تختلفوا عليه"أي في الأمور الظاهرة من قيام وقعود ومتابعة، ومن ذلك ضرورة التكبير ومباشرته بعده.
ومن ظواهر التقصير في أداء هذا الواجب: ما يرى من تخلف كثير من المصلين عن الحضور إلى مكان الجماعة لحين ما بعد الإقامة، ولا ريب في أن فعل هذا عمداً تقصير يفوت أجراً، ويرتب وزراً، يفوت أجر الجزء الذي تركه عمداً، ويرتب وزر تفويته عمداً، ولو كانت المسافة بين بيت المرء وبين المسجد لا تقطع إلا في خمس دقائق، فإنه يجب على هذا الإنسان أن يخرج من بيته قبل الإقامة بخمس دقائق حتى لا تفوته تكبيرة الإحرام.
اللهم اغفر لنا تفريطنا وتقصيرنا …
الشيخ د. : ناصر بن محمد الأحمد